الحمد لله لقد شق التغييرالديمقراطي طريقه إلى دنيا العرب. ولا شيء يعالج ظواهر التخلّف مثل الحرية. عادت الهوية العربية الحاضنة لجميع مكوّناتها الشعبية للواجهه هذه الأيام، تجلّت بأبهى صورها في الحراك التونسي و المصري و الليبي و اليمني و تحركات الجماهير تحمل لنا ثقافة سياسية منفتحة تنقلنا من واقع الانقسامات الطائفية والجهوية والفئوية والحزبية إلى مناخ جديد من الحريات، و نحن اليوم بحاجة إلى بناء منظومة عربية قادرة على المشاركة في تحديات العصر. و نقول الهوية تولد و أفق عربي ينفتح، و اليوم تنتشر ثقافة التغيير في الوطن العربي. و ما عبّرت عنه الملايين لم يكن مطالب فئوية اجتماعية أو سياسية، بل عبّرت الشعوب عن رفضها أنظمة تهين الكرامة الوطنية والإنسانية.
في واقع الأمر لم تخرج تونس و مصر من الديكتاتورية و سلطتها الحاكمة المستبدة التي تحمل معاني الانحطاط كلها، فحسب بل خرجتا من سياسة الخضوع لإملاءات غربية، من النواحي السياسة إلى الاقتصادية، ومن الفساد والتشوّه الاقتصادي والنهب الى تغير دستوري ممنهج. لا شيء يغذي التعصب والتطرف مثل الاستبداد.
و نؤكد للعالم أن تونس هي تونس الشعب و أن مصر هي مصر الشعب، وهما القاطرة الكبرى التي يهتز لحركتها العالم كله، وقد اهتز العالم فعلاً بهذا الحجم الهائل من الاهتمام الدولي لحركة الشباب التونسي و المصري و اليمني و الليبي و إصرارهم على التغير الديمقراطي.
ما يقلق الغرب من ثورة الشعوب، ليست المطالبات بالإصلاحات السياسية والاجتماعية والديمقراطية فهي مبادئ اساسية عندهم، بل من الذي سيحكم العرب بعد الرؤساء المتعاونين و ما مصير اتفاقية السلام مع اسرائيل و هل سيتولى الإسلاميون مقاليد الحكم؟
المسألة أن الشعوب العربية نزلت إلى الميدان للتغير و هي غير مدفوعة من الشرق و الغرب و دافعها ذاتي. ولا أحد يمكن له أن ينكر ما يمثله الجمهور الغاضب وما يطمح إليه خلافاً لكل شرعية سلطوية أخرى مزوّرة. هذا هو التغيير الأول والأهم الذي سيطبع مرحلة كاملة من تاريخ العرب المعاصر.
بعد رحيل بن علي و تنحي حسني مبارك راضخين لمطالب الشباب الثوري، تأكد لنا أن الشعب الذي يشترك في المعاناة الإنسانية والوطنية، يمكنه أن يعبّر عن نفسه من دون حاجة إلى تأطير حزبي تقليدي أو انتظار دعم أو تأيد غربي. و اليوم حقق التونسيين و المصريين إنجازات و طنية و هذا ما يتمناه كل عربي شريف.
أصالة ثورتي تونس ومصر، أنهما ثورتان شعبيتان بكل ما للكلمة من معنى و سيبقى لشباب تونس الفضل في تقديم النموذج الأول الذي ألهم الشباب العربي أو شجّعهم على تجربة مماثلة..
الشعوب العربية تريد إختيار نهجاً آخر ضد التبعية والهيمنة والتخاذل، و بوادر التغيير ظهرت عندما قرّر الشعب التونسي أن يحاصر النظام وأن يُسقط شرعيته السياسية والوطنية والأخلاقية و تبعه الشعب المصري و اليوم لدينا معركتين تخوضهما الشعوب في ليبيا و اليمن و يستلهمون تحركاتهم من نموذجان تجلّيا في تونس و مصر و و كان الشعار المرفوع.. سلمية.. سلمية و كانت الشعوب مسالمه و منضبطه و قاومت عصابات الأنظمة التي عاثت بالأمن، واعتدت بهمجية على الجمهور، وأظهرت وجه القمع الوحشي لدى الفريق الحاكم.
طبعاً، تحاول الأنظمة العربية أن تنقذ نفسها بأقل التنازلات، غير أنه لا مفر من إجراءات دستورية باتت حتمية تتصل بالحد من الإنتفاضة الشعبية. وعلى الأنظمة أن تعرف أن تلك السياسات المتحكمة في موارد الأوطان لن تستمر لأنها ألغت الدور الشعبي.
ما تغيّر اليوم، هو أن الشعوب العربية فرضت نفسها على الساحة السياسية
و حققت إنجازا مهما و حركة الشارع حظيت بحجم هائل من الاقتناع الوطني، عجزت عن مقاومته وسائل السلطة وأدواتها القمعية وقواها السياسية. و اليوم نرى أن بعض الأنظمة العربية تعترف بأن للشعوب حقوقاً مهدورة، وبأنها عاجزة عن الإستمرار بهذا المستوى من الظلم والاستهانة بمطالب الناس.
ولم تعد وحدها القبضة الأمنية التي تحمي رموز السلطة وتعطيها فرصة المراوغة والمناورة باسم الحفاظ على الدستور والمؤسسات والاستقرار والأمن.
لا نعرف الآن حجم الإصلاحات وعمقها، ومضمون السياسات الداخلية والخارجية التي ستحصل في الدول العربية. لكننا نعرف حقيقة أن دور الأنظمة سيتبدل من الحال السلبي في السياسات الإقليمية الى الحال الإيجابي الذي يرضي الجماهير الغاضبة.
لم يعد ممكناً للشعوب العربية أن تقبل باستباحة حقوقها، ولم يعد ممكناً للأنظمة أن تكون في الجبهة المعادية لقضايا الشعوب. غير أن الأكثر راهنية هو التأثير المباشر لحركة التغيير في المناخ العربي كله. هذا الدرس الشعبي القى بثقله على النظام الرسمي العربي المناقض لتطلعات الشعوب وطموحاتها.
هي ليست مؤامرة من تل ابيب أو واشنطن كما يدعي الرئيس علي صالح و هي ليست إنفلونزا و ليست مسألة عدوى، بل هي مسألة ضرورة للتغير تعيشها الشعوب العربية في كل مجتمع ودولة. هناك إرث طويل من القطيعة بين النخب الحاكمة وشعوبها وهناك مهام وأولويات إنسانية لم يسبق لنظام عربي أن تعامل معها بالاهتمام اللازم و هناك ثقافة حرية وكرامة لا يحترمها أي نظام عربي هذه الأيام. و إذا كان لشعب تونس من فضل اليوم، فهو أنه قدّم نموذجاً عن حركة تغيير ليست مدموغة باحتمالات الانقسام الوطني الأهلي أو السياسي الحزبي، وليست محكومة بتداعيات العنف والفوضى، إنها حركة مدنية واعية عاقلة و ديموقراطية و وطنية شاملة. هذا النموذج لا يضيره وجود الأحزاب والتيارات السياسية المتعددة والمختلفة ما دامت تتفق على مبدأ الشراكة والتعاون والتنافس السلمي. و ستشهد هذه الأيام تغيرات في اليمن و ليبيا و البحرين و غيرها من الدول العربية التي تشهد تحركات شعبية مطالبة بالتغير.