تفسير سورة الفلق .

قل أعوذ برب الفلق. معنى أعوذ: ألتجئ وأعتصم وأتحرز. والفلق: هو نور الفجر الذي يطرد الظلام.

وتضمنت هذه السورة: المستعاذ به، المستعاذ منه، المستعيذ .

والمستعاذ به هو: الله رب الفلق ورب الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به ولا يستعاذ بأحد من خلقه، وقد قال اله في كتابه عمن استعاذ بخلقه: استعاذته زادته رهقاً: وهو الطغيان، واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله مخلوقة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بقوله: قل أعوذ برب الفلق، وأعوذ بكلمات الله التامات، وهو لا يستعيذ بمخلوق أبداً .

والمستعيذ: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.

وأما المستعاذ منه فهو أربعة أقسام:

الأول: الشر العام في قوله: (شر ما خلق) وهذا يعم كل شر في الدنيا والآخرة وشر الشياطين من الإنس والجن وشر السباع ولوام وشر الناس وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل. وقوله: (من شر ما خلق) أي من شر كل مخلوق فيه شر، وليس المراد الاستعاذة من كل ما خلق الله، فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر، وكذلك الملائكة والأنبياء فنهم خير محض.

والشر الثاني: شر الغاسق إذا وقب، وهذا خاص بعد عام، والغاسق: الليل إذا أقبل ودخل في كل شيء، والغسق: الظلمة، والوقوب: الدخول، والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل: هو أ، الليل محل سلطان الأرواح الشريرة وفيه تنشر الشياطين، والشياطين إنما سلطانهم في الظلومات والمواضع المظلمة، ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محل الشياطين وبيوتهم.

وذكر سبحانه في هاتين الكلمتين الليل والنهار والنور والظلمة. فأمر الله عباده أ، يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، وهو سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه.

والشر الثالث: شر النفاثات في العقد، وهذا الشر هو شر السحر، فإن النفاثات هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، ونفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر، والنفث هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهم، والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور واستعان بالأرواح الخبيثة، نفث في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر مقترن بالريق الممازج، وقد تساعده الروح الشيطانية على إذا المسحور، فيقع فيه اسحر بإذن الله الكوني القدري.

ولما كان تأثير السحر من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة قال سبحانه: من شر النفاثات، بالتأنيث دون التذكير، وقد دل قوله تعالى (ومن شر النفاثات في العقد) على تأثير السحر وأن له حقيقة، وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام وقولوا: إنه لا تأثير للسحر لا في مرض ولا في قتل ولا حل ولا عقد. قالوا: وإنما ذلك تخييل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى بذلك. وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف واتفق عليه الفقهاء.

والسحر يؤثر: مرضا وثقلا وحلا وقتلا وحبا وبغضا وغير ذلك من الآثار موجود يعرفه الناس، وكثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به. وقوله: (ومن شر النفاثات في العقد) دليل على أن النفث يضر المسحور فيحال غيبته عنه، ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا - كما يقوله هؤلاء - لم يكن للنفاثات شر يستعاذ منه، وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر أعين جميع الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به، مع أن هذا تغير في إحساسهم، فما الذي يحيل تأثيره في تغير بعض أعراضهم وطباعهم وقواهم فإذا غير إحساسا حتى يحصل المحبوب إليه بغيضا والبغيض محبوبا وغير ذلك من التأثيرات.

وقد قال الله عن سحرة فرعون أنهم ( سحروا أعين الناس) الأعراف: 116 فبين سبحانه أن أعينهم سحرت، وذلك إما أن يكون لتغير حصل في المرئي وهو الحبال والعصي، مصل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين، فظنوا أنها تحركت بأنفسها، وهنا كما إذا جر من لا تراه حصيرا أو بساطا فترى الحصير والبساط ينجز ولا ترى الجار، فهكذا حال الحبال والعصي قلبتها الشياطين فظن الرائي أنها انقلبت بأنفسها، والشياطين هم الذين يقلبونها. وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأى الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها. ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا .

وأما بقوله المنكرون في أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزئبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة.

الشرالرابع: شر الحاسد إذا حسد، وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود، في نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه، فإن الله تعالى قال (ومن شر حاسد إذا حسد) فحقق الشر منه عند صدور الحسد، والقرآن ليس المحسود ولاه عنه فإذا خطر على قلبه انبعث نار الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك، فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد في الأذكار والدعوات، والتوجه إلى الله والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولابد.

وفي الحديث الصحيح: رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وفيها (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد. الله يشفيك) ، فذكر شر عين الحاسد ومعلوم أنها لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه - كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره - لم يؤثر فيه شيء، وأما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة وانسمت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة، أثمرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد، فربما أمرضه، وريما قتله، والتجارب بها عند الخاصة والعامة أكثر من أن تذكر.

وهذه العين إنما تؤثر بواسطة النفس الخبيثة، وهي بمنزلة الحية إنما يؤثر سمها إذا عضت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب فتحدث فيها تلك الكيفية: السم فتؤثر في الملسوع، وريما قويت حتى تؤثر بمجرد النظر فتطمس الصبر وتسقط الحبل، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أبتر وذي الطفتين منها: اقتلوهما، وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس. وهل الانفعال والتأثير وحدوث ما يحدث في الأجسام للأرواح، والأجسام آلتها بمنزلة الصانع؟ فالصنعة في الحقيقة له والآلات وسائط.

ومن له فطنة وتأمل أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام رأي عجائب وآيات دالة على وحدانية اله وعظم ربوبيته، وأن ثم عالما آخر يجري عليه أحكام أخر يشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين.

والعائن والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء: فيشتركان في: أن كلا منهما تتكيف نفسه وتوجه نحو من تقصده أذاه. والعائن تتكيف نفسه عند مقابلة العين ومعاينته، والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور ويفترقان في: أن العائن قد يعين من لا يحسده من حيوان أو زرع فإذا كان لا ينفك من حسد صاحب بل ربما أصاب نفسه. وسببه الإعجاب بالشيء واستعظامه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية يؤثر في العين.

وقوله: (ومن شر حاسد إذا حسد) يعم الحاسد من الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما أتاهم الله من فضله، ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن. والحسد أخص بشياطين الإنس، والوسواس يعمهما أيضاً، فكلا الشياطين حاسد موسوس فالاستعاذة من شر الحاسد يعمهما جميعا.

فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم، وتضمنت شرورا أربعة يستعاذ منها: شرا عاما وهو شر ما خلق، وشر غاسق إذا وقب، فهذا نوعان : ثم ذكر شر الساحر والحاسد وهما نوعان أيضا لأنهما من شر النفس الشريرة وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده، وهو الساحر، وقل ما يتأتى السحر بدون نوع عبادة الشيطان وتقرب إليه، إما يذبح باسمه أو يذبح يقصد به هو، فيكون ذبحا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك، والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له وإن سماه بما سماه به.

فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه، فمن سجد لمخلوق وقال: ليس هذا يجود له هذا خضوع، ويقبل الأرض بالجبهة كما قبلها بالفم، أو هذا إكرام، لم يخرج بهذه الألفاظ هن كونه سجود لغير الله فليسمه بما شاء، وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، بل يسميه استخداما ، وصدق هو من استخدام الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به، والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإن سماه استخداما.

وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله: (إذا حسد) لأن الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن لا يرتب عليه أذى لا يقبله ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئا من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله، وقيل للحسن البصري: (أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك أخوة يوسف)، فالرجل إذا كان في قلبه حسد لكن يخفيه ولا يترتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده بل لا يعامل أخاه إلا بما يحب الله، فهو لا يطيع نفسه، بل يعصيها خوفا من الله وحياء منه أن يكره نعمة على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله وبغضا لما يحب الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها الدعاء للمحسود، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب ولسان والجوارح، فهذا الحسد المذموم، هذا كله حسد تمني الزوال.

وللحسد ثلاث مراتب:

أحدها هذه وهي : تمني زوال النعمة.

الثانية: تمني استصحاب عدم النعمة فهو يكره أن يحدث الله لبعده نعمة، بل يحب أن يبقى على حالة من جهله أو فقره أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص أو عيب، فهذا حسد على شيء معدوم، والأول حسد على شيء محقق، وكلاهما حاسد عدو نعمة الله وعدو عباده، محقوق عند الله وعند عباده.

الثالثة: حسد الغبطة: وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة وقد قال تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) المطففين:26 وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس). فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه حب خصال الخير التشبه بأهلها والدخول في جملتهم، فيحدث له المنافسة والمسارعة مع محبته لمن يغبطه وتمني دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.

وهذه السورة من أكبر أدوية المحسود، فإنها تتضمن: التوكل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من شر حاسد النعمة، والله تعالى اعلم.


تفسير سورة الناس .

وأما سورة الناس فقد تضمنت أيضا: مستعاذا به ومستعاذا منه ومستعيذا.

فأما المستعاذ به: فهو الله رب الناس ملك الناس إله الناس، فذكر ربوبيته للناس وملكه إياهم وإلهيته لهم، ولابد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، فأضافها في الكلمة الأولى إلى ربوبيته المتضمنة لخلقهم وتربيتهم وتدبيرهم وإصلاحهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة، وعلمنه بتفاصيل أحوالهم وبإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم، وأضافهم في الكلمة الثانية إلى ملكه، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم في الشدائد والنوائب، فلا صلاح ولا قيام إلا به، وأضافهم في الكلمة الثالثة إلى إلهيته، فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله سواه ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشاركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته، كما لا معه شريك في ربوبيته وملكه.

وهذه طريقة القرآن، يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، فإذا كان هو ربنا ومليكنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره- فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه، لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه: إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، فهو رب لك سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى روحك وحياتك، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه، فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه. فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة.

ثم إنه سبحانه كرر الاسم الظاهر ولم يوقع المضمر موقعه، فيقول رب الناس وملكهم وإلههم تحقيقا بهذا المعنى، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه ولم يعطف بالواو لما فيها معنى الإيذان بالمغايرة، وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب، وأخر الإلهية لخصوصها، لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه إلها دون غيره، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإله، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه ولكن ترك إله الحق واتخذ إلها غيره.

ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية، لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، المطاع إذا أمر، فملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكهم من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وملكه يستلزم إلهيته، فهو الرب الملك الإله، خلقهم بالربوبية وقهرهم بالملك واستعبدهم بالإلهية، فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق: رب الناس، ملك الناس، إله الناس.

وقد اشتملت هذه الإضافة الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معنى جميع أسمائه الحسنى، أما تضمنها المعاني أسمائه الحسنى، فإن الرب: هو القادر الخالق البارىء المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي النافع الضار المقدم المؤخر، يهدي ويضل ويسعد ويشقي ويعز ويذل، إلى غير ذلك من معاني الربوبية، وأما الملك: فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمر عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء، فهو العزيز الجبار المتكبر الخافض الرفع المعز المذل العظيم الجليل الوالي المتعالي الملك المقسط الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك، وأما الإله: فهو الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنة، ولهذا كان القول الصحيح:إن الله أصله الإله، وإن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأسرار كلام الله تعالى أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما يظهر منها على ما وراءه.

وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي، وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة، فسورة الفلق تضمنت: الاستعاذة من ظلم الغير بالسحر والحسد، وهو شر من خارج، وسورة الناس تضمنت: الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شر من داخل.

فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه، لأنه ليس من كسبه.

والشر الثاني: الذي في سورة الناس يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي، فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما، فتضمنت سورة الناس الاستعاذة من شر العيوب كلها، لأن أصلها كلها الوسوسة، وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحسن فيتحرز منه .

والوسواس : الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد.

والوسواس الخناس: وصفان لموصوف محذوف، وهو الشيطان، فالوسواس: الشيطان لأنه كثير الوسوسة، وأما الخناس فهو فعال من خنس يخنس إذا توارى واختفى.

فإن العبد إذا أغفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان، وبذر فيه الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها، فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس، والانخناس تأخر ورجوع معه اختفاء . قال قتادة: (الخناس: له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس) ويقال : رأسه كرأس الحية، وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمينه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكره عاد ووضع رأسه يوسوس إليه، وجيء بلفظ الفعال دون الفاعل، إعلاما بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه.

فذكر الله بقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلا لأنه يعذبه بذكر الله وطاعته. في أثر عن بعض السلف: (أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر) ، لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. وأما شيطان الفاجر فهو معه في راحة ودعة، ولهذا يكون قويا عاتيا شديد، فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله وتوحيده وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه.

وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مراراً ، حتى يعزم عليها العبد. وجاء بناء الخناس على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل لأنه كلما ذكر الله انخنس فإذا غفل العبد عاد بالوسوسة. فجاء بناء اللفظيين مطابقا لمعنيهما.

وقوله: (الذي يوسوس في صدور الناس) صفة ثالثة للشيطان، فذكر وسوسته أولا ثم ذكر محلها ثانيا وأنها في صدور الناس. وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدم وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات. ومن وسوسته أنه يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله، ولهذا يضاف النسيان إليه كما قال تعالى عن صاحب موسى: (فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان) الكف:63

وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان؟! الموصوف بأن الوسواس إلى آخر السورة، ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة جميع شره، فإن قوله: الوسوسة يعم كل شر ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة، فإن القلب يكون فارغا من الشر فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها ويحسنها فتثير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويشهي وينسي ضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فلا يرى إلا التذاذه بالمعصية فقط وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة جازمة فيشتد الحرص من القلب، فلا يزال الشيطان بالعبد يقوده إلى الذنب وينظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة.

فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة، فلهذا وصفه بها ليكون الاستعاذة من شرها أهم، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا، فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس، فكل طعام أو شراب لم يذك أسم اله عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف، وكذلك يبيت في البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله، فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم، ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوي أعدائه يقظة ومنا ما أنه فعل كذا وكذا ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه - إلا الله - أحد من الناس فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا لأن الشيطان يجهد في كشف سره وفضيحته، فيغتر العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله، ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته، وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة.

ومن شره أنه يعقد على رأس العبد إذا نام عقدة تمنعه من اليقظة، كما في صحيح البخاري: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) الحديث. ومن شره أ،ه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح. ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها، فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبطه وعوقه فإن عمله وفرغ منه سعى فيما يبطله. ويكفي من شره أنه أقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.

فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فلا خلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده، ولا يمكن خصر أجناس شره فضر عن آحادها إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه، ولكن ينحصر شره في ستة أجناس:

الشر الأول: الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذلك بابن آدم استراح، وهو أول ما يريد من العبد، فإن يئس منه من ذلك وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر وهي:

البدعة: وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها متعد وهو ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها صار نائبا له وداعيا من دعاته، فإن أعجز من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الثالثة وهي:

الكبائر: على اختلاف أنواعها: فهو اشد حرصا على أن يوقعه فيها ولا سيما إن كان عالما متبوعا فهو حريص على ذلك لينفر الناس عنه، ثم يشيع من ذنوبه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها تقربا بزعمه إلى الله، وهو نائب إبليس ولا يشعر، فإن الذين يحيون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، هذا إذا أحبوا إشاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها، فإن عجز عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة وهي:

الصغائر: التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض) وذكر حديثا معناه أن كل أحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا. ولا يزال يسهل عليهم أمر الصغائر حتى يستهينوا بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف أحسن حالا منه، فإن عجزه العبد في هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة وهي:

اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد في هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته شحيحا به يعلم أنه مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب، نقله إلى المرتبة السادسة وهي:

أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفضل الخير المفضول ويحضه عليه إذا تضمن ترك ما هو أفضل منه، وقل من يتنبه لهذا من الناس، فإنه إذا رأي فيه داعيا قويا إلى نوع من الطاعة فإنه لا يكاد يقول: هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير ولم يعلم ا، الشيطان يأمره بسبعين بابا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل. وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها لله وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ورسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم، وأكثر الخلق محجوبون، وذلك لا يخطر بقلوبهم.

فإذا أعجزه العبد في هذه المراتب سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتبديع والتحذير منه، ليشوش عليه قلبه وليمنع الناس من الانتفاع به، فحينئذ يلبس المؤمن لامة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أسر وأصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله. فتأمل هذا الفصل وتدبره واجعله ميزانا لك تزن به نفسك وتزن به الناس. والله المستعان.

وتأمل السر في قوله تعالى: (يوسوس في صدور الناس) ولم يقل قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب، وهو بمنزلة الدهليز وبيته، فمنه يدخل الواردات إليه فيجتمع في الصدر ثم يلج في القلب، وفي القلب يخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفوق على الجنود، ومن فهم هذا فهم قوله: (وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم) آل عمران: 154

فالشيطان يدخل ساحة القلب وبيته ويلقي ما يريد إلقاءه إلى فهو موسوس في الصدور وسوسة واصلة إلى القلب، ولهذا قال تعالى: (فوسوس إليه الشيطان) طه:120 ولم يقل فيه، لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله إليه فدخل في قلبه.

وقوله تعالى: (من الجنة والناس) اختلف الناس في هذا الجار والمجرور، بم يتعلق فقال الفراء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم أي أن الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن، فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي، وهذا القول ضعيف جدا لوجوه منها: أ،ه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني ويدخل فيه كما يدخل في الإنس، والناس: اسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم.

والصواب القول الثاني وهو: أن قوله من الجنة بيان للذي يوسوس، وانهم نوعان إنس وجن، فالجني يوسوس في صدر الإنسي والإنسي يوسوس إلى الإنسي. فالموسوس نوعان: إنسي، وجني، فإن الوسوسة: هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى الواسطة، نه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم، على أ، الجني قد يتمثل ويوسوس إليه في أذنه كالإنس كما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الملائكة تحدث في العنان - والعنان: الغمام - بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة، فيقرها في أذن الكاهن، كما يقر القارورة، ويزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم) ، فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن، ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني، قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) الأنعام: 112

ونختم الكلام على السورتين في ذكر قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ، ويحترز به منه وذلك عشرة أسباب:

أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قال تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) الأعراف:200 والمراد بالسميع هنا سميع الإجابة ، لا السمع العام.

الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين، فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة بالله من شره ودفعه، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم(ما تعوذ المتعوذون بمثلهما) وكان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كل صلاة.

وذكر صلى الله عليه وسلم : (أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كنفته من كل شيء)

الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي:

الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان).

الحرز الخامس: خاتمة البقرة، فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه).

الحرز السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله: (إليه المصير) ففي الترمذي في حديث عبدالرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قرأ حم: المؤمن. إلى قوله: (إليه المصير) وآية الكرسي حين يصبح، حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ حتى يصبح)

وعبدالرحمن الملكي، وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه، فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.

الحرز السابع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مائة مرة ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت حرزا له من الشيطان يومه ذلك) فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه.

الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عز وجل، وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة الناس، فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس، والخناس: الذي إذا ذكر العبد ربه انخنس، فإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.

الحرز التاسع: الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز العبد به، ولا سيما عند الغضب والشهوة، فإنها نار تصلى في قلب ابن آدم كما روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم فما أطفأ العبد جمرة الغضب بمثل الوضوء والصلاة فإن الصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال على الله فيها أذهبت أثر ذلك جملة)، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل.

الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما ينال غرضه من ابن آدم في هذه الأبواب الأربعة.

فإن فضول النظر يدعو إلى استحسان وقوع المنظور إليه في القلب والاشتغال به . وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( النظر سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .

وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب وكم من حرب جرتها كلمة واحدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم) وفي الترمذي أن رجلا من الأنصار، توفى، فقال بعض الصحابة: (طوبى له) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (فما يدريك لعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه).

وأكثر المعاصي إنما تولد من فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان بخلاف البطن، فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام.

وأما العين وللسان فلو تركا لم يفترا، وكان السلف يحذرون من فضول النظر، وكانوا يقولون: ما من شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.

وأما فضول الكلام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي وثقله عن الطاعات وحسبك بهذا شرا. فكم من مصيبة جلبها الشبع وفضول الطعام. ولهذا جاء في بعض الآثار: (ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه)

ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله، فإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة غلبه الشيطان، وشهاه وهام به في كل واد فإن النفس إذا شبعت تحركت، وطافت على أبواب الشهوات فإذا جاعت سكنت وذلت .

وأما فضول المخالطة: فهي الداء الضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة وكم زرعت من عداوة! وكم غرست في القلب من حزازة! ففضول المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.

أحدها: من مخالطة كالغذاء ولا يستغن عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الداوم، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر: وهم العلماء بالله وأمره ومكائد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كله.

القسم الثاني: من مخالطتهم كالدواء تحتاج إليه عند المرض فإذا كنت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا تستغني عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت تحتاج إليه في أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة.

القسم الثالث: من مخالطتهم كالدواء على اختلاف أنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخلطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف ومنهم من مخالطته كوجع الضرس فإذا فارقك سكن الألم. ومنهم من مخالطته حمى الربع: وهو الثقيل البغيض الذي لا يحسن أن يتكلم فيضيرك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف منزلة فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه، وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: (ما جلس إلى جنبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أثقل من الجانب الآخر) ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعف القوي عن حمله فالتفت إلي وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع، ثم قال: ولكن أدمنت أرواحنا على الحمل، فصارت لها عادة أو كما قال:

وبالجملة فمخالطة كل مخالف: حمى الربع، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته، فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله فرجا ومخرجا .

القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإذا اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء . وما أكثر هذا الضرب في الناس -لا كثرهم الله- هم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها، فيجعلون البدعة والسنة بدعة.

إن جردت التوحيد، قالوا: تنقصت الأولياء الصالحين، وإن جردت المتابعة للرسول، قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين، وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير علو ولا تقصير ، قالوا: أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله ورسوله من المعروف ونهيت عن المنكر، قالوا: أنت من المفتين، وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من الملبسين، وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم، فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين، فالحزم كل الحزم التماس مرضات الله ورسوله بإغضابهم وألا تبالي بذمهم ولا بغضبهم فإنه عين كمالك كما قال:

فهي الشهادة لي بأني فاضل

 

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

بغيض إلى كل امرئ غير طائل

 

وقد زادني حبا لنفسي بأنني

فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم: وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرز بها من الشيطان، فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه باب جهنم وفتح لها باب الرحمة، ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد العبد التقي، وعند الصباح يحمد القوم السري، والله الموفق لا رب غيره ولا إله سواه.

هذا آخر الكلام على السورتين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خاتم النبيين والمرسلين.

شيخ الإسلام /محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله تعالى-

المصدر: شيخ الإسلام /محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله تعالى
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 175 مشاهدة
نشرت فى 28 مارس 2014 بواسطة TROOOY2014

ساحة النقاش

خالد شعلان

TROOOY2014
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

91,673