شهدت الانسانية ونظامها العالمي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ثلاث ثورات صناعية. كانت الثورة الاولى في اواخر القرن التاسع عشر. التي تميزت بالاستخدام المكثف للعمل وتقسيم العمل مثلها (ادم سميث).


 ثم الثورة الصناعية الثانية، التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية. اعتمدت على الراس المال المكثف باكتشاف اسرار النواة واختراع الاسلحة النووية. ثم الثورة الصناعية الثالثة، التي بدأت في عقد السبعينات من القرن الماضي، اعتمدت على المعرفة المكثفة والتحكم في العقل الانساني وتنميته وتقيده بمخترعات الكترونية دقيقة، تتميز بانها تقوم على الاستثمار الاساسي في مجال البحوث العلمية المكثفة والمكلفة والتي على خلاف الثورتين الصناعيتين الاولى والثانية.. اللتان اعتمدتا على مصادر غير متجددة مثل الحديد والنفط. كالثورة الثالثة تعتمد على مصدر متجدد هو التدفق اللامتناهي واللامحدود للمعرفة والافكار وتقوم على ثلاث مجالات مترابطة هي:
1. الثورة المعلوماتية.. وتتمثل بالانفجار المعرفي الضخم في اشكال تخصصات ولغات عديدة, وتضاعف في الانتاج الفكري في مختلف المجالات وظهور الحاجة إلى تحقيق اقصى سيطرة ممكنة على فيض المعلومات المتدفقة واتاحته للباحثين ومتخذي القرارات باسرع وقت وباقل جهد, عن طريق استحداث اساليب جديدة في تنظيم المعلومات تعتمد بالدرجة الاساس على الكومبيوتر واستخدام التكنولوجيا الاتصالي بمساندة مؤسسات المعلومات ودفع خدماتها لتصل إلى جميع القارات.
2. ثورة الاتصالات: المتمثلة في تكنولوجيا الاتصالاات الحديثة التي بدات بالاتصالات السلكية واللاسلكية مرورا بالتلفزيون والاقمار الصناعية والالياف البصرية والموبايل والانترنت وغيرها. حتى اضحت مجموعة التقنيات والادوات والوسائل والنظم المختلفة التي يتم توظيفها لمعالجة المضمون الذي يراد به توصيله. من خلال الاتصال الجماهيري أو الشخصي أو التنظيمي أو الجمعي.
3. ثورة الحاسبات الالكترونية: والتي توغلت في كل مناحي الحياة وامتزجت بكل وسائل الاتصال واندمجت معها وتعني التطور غير المتناهي في انتاج انظمة المعلومات المختلفة وفي ادارة نظم وشبكات المعلومات والاتصالات وهذا التطور مزج بين الحاسبات الالكترونية والاتصالات (الانترنت) . باقتناء وتجهيز المعلومات في مختلف صورها واوعية حفظها سواء اكانت مطبوعة أو مصورة أو مسموعة أو مرئية أو ممغنطة أو مليزرة. وبثها باستخدام توليفة من المعلومات الالكترونية (الحاسبة) ووسائل واجهزة الاتصال عن بعد أن الثورة الصناعية الثالثة قادت إلى سياسة نظم جديدة للمعلومات بعبارة اخرى أن القضاء الالكتروني للمعلومات قد اصبح وسيط يسمح بقيام مشروعات متعدية الجنسيات واسواق عالمية ووسائل اعلام. عابرة القارات. (ووسيط في علاقة الدول بعضها ببعض. ولعل الخطوة الحاسمة المنتظرة في تحقيق قدرات تكنولوجيا الاتصالات تتوقف على إنشاء طريق المرور الضوئي السريع وهي شبكة الياف ضوئية تربط طرق المرور الخارجية السريعة بين المدن والبلدان المختلفة. ورغم ذلك فالثورة الثالثة حققت اندماج تقنيات المعلومات المختلفة مع وسائل الاتصال المختلفة وادى إلى ظهور مفهوم (تكنولوجيا الاتصال) الذي اثر بشكل كبير على وسائل الاتصال وضخم من تأثيرها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. ترتب على ذلك زيادة الفجوة الاتصالية بين الدول الصناعية المتقدمة وبين الدول النامية (دول الجنوب) في ثلاث اتجاهات هي:
1. التدفق الحر للمعلومات ما بين المركز (عالم الغرب الصناعي) وبين دول المحيط او الاطراف وبين دول المحيط أو الاطراف (عالم الجنوب) باتجاه واحد متجاوزا السيادة الوطنية والمصلحة القومية للدول.
2. الهيمنة الاتصالية والمعلوماتية للغرب على عالم الجنوب عن طريق المؤسسات الاعلامية ذات الامكانيات التأثيرية الضخمة ثقافيا وتقنيا على حساب الدول الاخرى. ذات الامكانيات المتدنية ثقافيا وتقنيا.
3. التخطي التجاري للحدود الوطنية للدول ادى إلى التدفق المستمر للسلع والخدمات بقرار ساسات الدول الصناعية في المجالات السياسية والاقتصادية وتنمية طاقات بشرية ومادية تستجيب لواقع العولمة.
أن الحديث عن اثر تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على الدول ادى إلى ترابط وتشابك العالم وقلص إلى حد كبير اعتبارات الجغرافية السياسية للدول ويمكن تلمس ابرز معالم هذا التطور الذي شهدته العلاقات الدولية بما يلي:
- أن العلاقات الدولية في عصر (المعلو اتصالات) تتسم بسيادة المعرفة والتقدم التكنولوجي وبما أن المعلومات والمعرفة لا تعترفان بحدود سياسية سيادية للدول فان ادارة العلاقات الدولية تأخذ هذا الامر بالاعتبار وتدار باساليب تتجاوز قيود الفرضيات الدولية التي سادت ابان مرحلة الحرب الباردة.
- كان بامكان الدول الحديث عن السيادة الاعلامية والتحكم في عملية تدفق المعلومات إلى داخلها والعمل على تشكيل عقول ابناء شعبها وضمان ولائهم التام لصالحها فقد اصبح الان ومع تعاظم فرص الاتصال عن طريق شبكات المعلومات والاتصالات ضعف الدول في امكانية التحكم على نوع وكم المعلومات بالتالي ضعف قدرة الدول على تصريف شؤونها الخارجية وعلى علاقاتها مع الدول الاخرى.
- انتشار ثقافة التغريب والميل نحو الاعجاب بثقافات الغرب في (العنف والجنس والشهرة والثروة والقوة وقيم الاستهلاك والوفرة الفردية والانانية) وانحسرت قيم الانتاج والتقشف وروح الجماعة مما اثر على دور الدول في تنمية عقول ابناء شعبها وضعف ايدولوجياتها الشعبية الوطنية أو الدينية.
- تسهم الثورة التكنولوجية في احداث التوحد على النطاق العالمي وفق مصلحة الدول الصناعية (المركز) فهي تتسبب في مزيد من التفكك واللامركزية على النطاق المحلي والداخلي للدول.
- بروز دبلوماسية الاقمار الصناعية والاعلام الكوني في نشر الاخبار والصور مصحوبة بالجمالية والالوان والاثارة والغبن مما تسببه من حرج وشكل للقنوات الرسمية المعتمدة من قبل الدول في ادارة شؤونها الداخلية. حتى أن هذا النوع الجديد في الاعلام الفضائي يسبب للدول شعورا بالقلق والارباك لانها لم تعد قادرة على التحكم الاعلامي والخبري الداخلي وميل ابناء شعبها للثقافات الخارجية المثيرة والمؤثرة.
- اختراق القنوات الدولية لحدود السيادة الدولية وتراجع مفهوم (السيادة الوطنية) وبعد انتشار الثقافة التلفزيونية المعتمدة على الاقمار الصناعية فان الدول فقدت وسوف تفقد سيطرتها على تدفق المعلومات والاتصالات ذات الطابع الدولي الذي له اثر سلبي مباشر على تماسك الشعب وولائه لدولته. التي يقطنها وينتمي اليها. تحت شعارات ترسيخ الثقافة العالمية وترسيخ قيم المعرفة العلمية ونزع مجتمعات الاطراف من ثقافاتها الوطنية.  ونتيجة لذلك تم شق الثقافة الوطنية في معظم دول عالم الجنوب وخاصة الإسلامية منها إلى نزعتين متصارعتين (العلمانية والسلفية).
- أن قدرة التكنولوجيا الكونية في تهميش دور الدولة – الحكومة على فرض سيطرتها على ابناء شعبها يناظره تهميش لدور الدولة في الحياة الاقتصادية باتجاه افقارها وتدني عائداتها وتراجعها في اداء واجباتها المتعلقة بصيانة امنها القومي ودفاعها الوطني وبروز الرغبة المتزايدة لدى بعض القوى الدولية المهيمنة على الوضع الدولي الجديد إلى اداء ذلك الدور نيابة عن الدول مقابل قدر عال من الكلف المادية بالاضافة إلى تعزيز مستلزمات هيمنتها العالمية وضمان مصالحها الدولية.
فهل الدول قادرة على الثبات والديمومة باستيعاب اسرار ثورة (المعلو اتصالات) ؟ وهذا الامر لا يدعوها إلى الانغلاق على الذات بل التعامل مع التكنولوجيا الدولية الجديدة باستفادة من مزاياها المتعددة والا فان (عالم جديد سيظهر إلى الوجود) على انقاض الدولة الوطنية التي رسمت اركانها معاهدة ويستفاليا عالم 1648 لرم معالم علاقات دولية جديدة!
TMAWAHEB

خالد سويدان

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

66,846