هذان اكتشافان جديران بالحفاوة والتسجيل. الأول أن فى مصر أناسا يصرون على أخذ حقهم من الحكومة، والثانى أن المواطن المصرى أصبح له ثمن. ذلك أننا اعتدنا أن نتعامل مع الحكومة باعتبارها الطرف الذى لا يقهر، وأن كلمة «القاهرة» التى سميت بها العاصمة، أصبحت تصف علاقة السلطة بالمجتمع. ولئن قيل إنها قاهرة للأعادى ومقبرة للغزاة، فذلك قد ينطبق على مراحل التاريخ فى عصور مضت، لأنها انتهت قاهرة للشعب المصرى الذى انتفض أخيرا وأعلن رفضه للقهر. 
الاكتشاف الثانى غير مألوف بدوره. ذلك أنه طوال العهود التى عانى فيها المصريون من القهر ظل المواطن معدوم القيمة. وظل حكامه يتصرفون فى مصيره، وكأن ما بينهم وبين الناس عقد ملكية وليس عقد وكالة، بمعنى أنهم يملكون الناس وليسوا وكلاء عنهم. وفى ظل الملكية لا قيمة للفرد مادام أن هناك غيره. ولأن المصريين لا يكفون عن التناسل، فإذا غاب واحد فإن ذلك لا يغير شيئا من الواقع، لأن هناك عشرة يمكن أن يحلوا محله، علما بأن المصريين يتزايدون بمعدل مليون شخص كل عام. (نحو ثلاثة آلاف شخص كل يوم!). وهى خلفية تبرر شعورنا بالدهشة حين نجد أن اختفاء المواطن أصبح أمرا يستحق التوقف والاهتمام، وإذا كانت السلطة طرفا فى المسئولية عن الاختفاء، فينبغى أن تتحمل الغرم الناشئ عن ذلك، وتعوض أهله عن فقده.
 
وهو أمر جديد تماما. ما كان لنا أن نشهده إلا بعد ثورة 25 يناير.
 
ما دعانى إلى الاستفاضة فى هذه المقدمة أننى قرأت فى جريدة الأهرام يوم الجمعة الماضى 9/12 خبرا نصه كما يلى: فى سابقة لم تعهدها مصر، أصدرت محكمة استئناف الإسكندرية حكما يلزم محافظ الثغر بدفع تعويض قيمته ١٠٠ ألف جنيه لأسرة مصطاف غرق الصيف الماضى على شاطئ سيدى بشر، بسبب خلو الشاطئ العام من أدوات الإنقاذ اللازمة. فضلا عن عدم وجود نقطة إسعاف فى المكان، وكانت محكمة الإسكندرية الابتدائية قد قضت بالزام المحافظ بصفته الوظيفية بدفع التعويض السابق، وأيدتها فى ذلك محكمة الاستئناف.
 
وكانت التحقيقات التى جرت فى الحادث قد أثبتت أن رواد الشاطئ حاولوا إنقاذ الضحية واسمه محمود عبدالغفار بعد أن جرفه التيار، غير أن محاولاتهم باءت بالفشل، نظرا لعدم وجود معدات الإنقاذ المساعدة. وهو ما يتحمل مسئوليته المحافظ بحكم منصبه. وقد أرسى الحكم مبدأ غاية فى الأهمية طالما افتقده المواطن العادى، هو أن حياة المصرى ليست رخيصة، وإن على المخطئ أن يتحمل تبعات عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على أرواح رواد الأماكن العامة.
 
صحيح أن الخبر عادى جدا فى الدول الديمقراطية، التى للمواطن فيها قيمته والسلطة خادمة له وتعيش من الضرائب التى يدفعها. صحيح أيضا أن الناس وكل مخلوقات الله كان لهم شأنهم المقدر فى بواكير التجربة الإسلامية، حتى خشى الخليفة عمر بن الخطاب أن يحاسبه الله يوم القيامة إذا ما قصر فى حق البغلة إذا عثرت فى العراق، وحتى إذا ما حدث أحدهم الخليفة معاوية بن أبى سفيان ووصفه بأنه «أجير» استأجره الله كى يقوم على مصالح المسلمين. إلا أننا انفصلنا عن كل ذلك. فلا نحن من الدول الديمقراطية. ولا عاشت معنا قيم تلك العهود الزاهرة فى الخبرة الإسلامية.
 
فرحت حين وجدت أهل المواطن الذى غرق أصروا على أن يقاضوا الحكومة، وأن يختصموا محافظ الثغر باعتبار أنه مسئول بحكم وظيفته عن توفير معدات الانقاذ المساعدة للمصطافين. وبالتالى فإنه يجب أن يحاسب على ذلك التقصير لأن ما جرى يحمله بالمسئولية الأدبية، رغم أن المسئولية الوظيفية المباشرة من نصيب غيره المكلفين برعاية الشواطئ.
 
فرحت أيضا لأن محكمة الإسكندرية الابتدائية أدانت المحافظ وألزمته بدفع تعويض لأسرة المواطن الذى غرق. وشعرت بنشوة حين قرأت العبارة التى وردت فى الحكم وذكرت أن حياة المواطن المصرى ليست رخيصة. وهو ما اعتبرته «خبرا» جديدا نسمع به لأول مرة منذ سنين عدة، كما فرحت لأن محكمة الاستئناف أيدت الحكم بالغرامة، وتضامنت مع رأى المحكمة الابتدائية فيما ذهبت إليه.
 
أدرى أن نصوص القانون تضمن للمواطنين كل ذلك، لكن الذى حدث أن أزمنة القهر جعلت الناس يتهيبون محاسبة السلطة على تقصيرها فى حقهم، ناهيك عن أن السلطة والقائمين عليها ظلوا يعتبرون أنفسهم فوق الحساب والمساءلة. وكانت النتيجة أن جرائم كثيرة ارتكبتها مؤسسات السلطة بحق الناس ولم يعوضوا عما أصابهم، من حوادث احتراق القطارات إلى الجرائم التى وقعت فى ميدان التحرير. والأخيرة كان ينبغى أن يحاسب عليها وزير الداخلية لأن أجهزته إما اعتدت على المتظاهرين أو أنها قصَّرت فى تأمينهم والقيام بواجب حمايتهم.
 
لو أن كل مواطن أثبت أنه تعرض للضرر أو الظلم جراء تقصير من السلطة وخاصم أمام القضاء أكبر رأس فى الجهاز الذى قصر فى حقه أو ظلمه فإن ذلك سيعد ميلادا لمواطن مصرى جديد يدرك أن كرامته ينبغى ألا تستباح فضلا عن أن حياته ليست رخيصة.

 

 

المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
  • Currently 4/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 367 مشاهدة

ساحة النقاش

TAHA GIBBA

TAHAGIBBA
الابتسامة هي اساس العمل في الحياة والحب هو روح الحياة والعمل الصادق شعارنا الدائم في كل ما نعمل فية حتي يتم النجاح وليعلم الجميع ان الاتحاد قوة والنجاح لا ياتي من فراغ »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

720,065

السلام عليكم ورحمة الله وبركات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته