هناك مشكلة فى جسور التواصل بين المجلس العسكرى وبين المجتمع فى مصر. حتى أكاد أزعم أنهم فى حالات عديدة لم يفهمونا جيدا وأننا لم نفهمهم كما أنهم لم يعتنوا بإفهامنا. وفى وضع من هذا القبيل لا تستبعد أن تقودنا الحيرة إلى سوء الظن الذى يسحب بعضا من رصيد الثقة بين الطرفين. وذلك طور خطر فى العلاقة يمهد للمفاصلة ولما هو أبعد من ذلك.
خذ مثلا ما نشرته الصحف أمس عن قصة الشاب عصام عطا الذى قرأنا أنه أدخل شريحة هاتف محمول إلى محبسه فى طرة حيث حكمت عليه إحدى المحاكم العسكرية بالسجن لمدة سنتين بعد القبض عليه حين كان يقف متفرجا على معركة بين طرفين فى منطقة المقطم. ولأنه ارتكب مخالفة بتهريبه الشريحة فقد تعرض للتأديب والتعذيب من قبل ضباط السجن مما أدى إلى وفاته. وسجلت الشرطة فى محضر الوفاة أنه مات على إثر تعاطيه المخدرات. وهى الحجة التى لم يصدقها أحد، لأنه كان فقيرا لا يملك ثمن شراء المخدرات، ثم إن الأطباء الذين رأوه فى مستشفى قصر العينى شكوا فى سبب وفاته. كما أن زملاءه فى الزنزانة التى أعيد إليها لهم كلام أكد الشكوك المثارة، وكانت النتيجة أن الواقعة أعادت إلى الأذهان قصة الشاب خالد سعيد الذى قتلته الشرطة السرية فى الإسكندرية، ولفقت له تهمة ابتلاعه حزمة بانجو ولم يصدق أحد التهمة، ثم ذاعت القصة حتى اعتبر خالد سعيد أحد ضحايا التعذيب فى ظل النظام السابق. الأمر الذى تطور بعد ذلك على النحو الذى يعرفه الجميع، حيث أصبحت قصته إحدى الشرارات التى أطلقت ثورة 25 يناير. وحين نشرت جريدة الوفد القصة أمس (29/10) فإنها اختارت لها عنوانا يقول: خالد سعيد آخر فى طرة.. عصام أول ضحايا التعذيب بعد الثورة. على نفس صفحة الحوادث بالوفد خبر آخر كانت خلاصته أن اثنين من ضباط الشرطة كانا يستقلان سيارة النجدة، واستوقفا شابا اسمه معتز سليمان كان يقود سيارة بلا لوحات معدنية، وحين لم يستجب لهما فإن أحدهما أطلق عليه رصاصة قتلته، فما كان من الضابطين إلا أن حملا جثته ثم سلماها إلى مستشفى الشيخ زايد التخصصى ثم اختفيا.
هذا الذى نشر أمس يضاف إلى وقائع أخرى يصعب نسيانها، مثلا قصة الطبيب أحمد عاطف الذى اختطف من الشارع أثناء عودته إلى بيته، ثم اختفى فى مكان مجهول لمدة أسبوع ثم اطلق سراحه دون أن يعرف من الذى اختطفه ولماذا اختطف. وكل ما يعرفه أن «جهة سيادية» هى التى اختطفته وأنه سئل عن دوره فى إضراب الأطباء، دون أن يتهم بشىء.
من تلك الوقائع أيضا قصة المدون شريف الروبى من حركة 6 أبريل الذى اختطفته جهة سيادية من الفيوم، وظل وراء الشمس، مدة أربعة أيام، ثم خرج مصدوما ورافضا الحديث عما جرى له، ومثيرا دهشة وحيرة معارفه والمنظمات الحقوقية التى تتابع مثل هذه الممارسات.
لا أريد أن استفيض فى ضرب الأمثلة، ولكنى اتساءل ماذا يكون شعور المواطن العادى البرىء وغير المسيس حين يقرأ هذا الكلام؟ وحين تترك هذه الوقائع معلقة فى الفضاء بلا تفسير أو استنكار أو حساب، فهل تستغرب منه أو ننكر عليه أن يلصق كل تلك الوقائع بالسلطة القائمة وعلى رأسها المجلس العسكرى؟ بحيث تتحول إلى قائمة اتهام له وادعاء عليه؟
ليست بعيدة عن أذهاننا وقائع ما جرى فى مظاهرات ماسبيرو، كما أننا لا نستطيع أن ننسى الغموض الذى لايزال يحيط بالجهة التى أصدرت الأمر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين فى ميدان التحرير وغيره من الميادين، ولا تلك الجهة التى أمرت بقطع الاتصالات فى أنحاء مصر، كما أن موضوع القناصة الذين اعتلوا المبانى المحيطة بميدان التحرير لا يزال لغزا مستعصيا على الحل أو الفهم.
لم أفهم لماذا تظل هذه الوقائع تفعل فعلها فى إثارة الشكوك التى تجرح موقف المجلس العسكرى وتشكك الناس فى حقيقة الدور الذى يقوم به. ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعى يستطيع أن يدرك فداحة الثمن الذى يدفعه المجلس من رصيده جراء صمته إزاء ما يجرى، وربما مراهنته على عنصر الوقت فى احتواء تلك الوقائع. إلا أن ما ينبغى الانتباه إليه أن الأعين مفتوحة بأكثر مما ينبغى، كما أن حساسية الناس أصبحت أضعاف ما كانت لديهم فى السابق بحيث إن ما كان يسكتهم أو يخيفهم فى الماضى لم يعد كذلك الآن. كما أن رصيد الثقة ليس ثابتا ولا هو محصن ضد التآكل. ولابد أن نصارح أنفسنا ونعترف بأن ذلك الرصيد الآن أقل وأضعف مما كان عليه قبل تسعة أشهر.
إننا بحاجة لأن نفهم خلفيات وملابسات أمثال الوقائع التى أشرت إليها. ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا إذا امتلكنا شجاعة نقد الذات والاعتراف بالخطأ وإما الاعتصام بالصمت والمراهنة على الوقت فإنها تضاعف من الحيرة ولا تزيد على كونها خطى حثيثة على طريق الندامة.
لا نريد من المجلس العسكرى أن يعظنا، ولكن ينبغى أن يفسر لنا ما يجرى بلغة تقنعنا، لأن صمته يظلمه ويظلمنا.
ساحة النقاش