الانتخابات التى تجرى فى القاهرة اليوم لاختيار نقيب الصحفيين ومجلس النقابة شجعتنى على استخراج قصاصة من جريدة «الإندبندنت» البريطانية تضمنت مقالة نشرت منذ شهرين، لمعلق الجريدة البارز يوهان هارى، كان عنوانها «خنت ثقة القراء». المقالة لا علاقة لها بالانتخابات. لكنها تقدم لنا درسا بليغا للغاية فى أصول المهنة، التى أزعم أنها تراجعت كثيرا فى مصر، وتآكلت تقاليدها على نحو مقلق. ولم تكن وحيدة فى ذلك، لأن ما أصابها كان جزءا من «تسونامى» الانهيارات الذى ضرب المهن الأخرى فى ظل سنوات القمع والفساد التى مرت بها البلاد.
مضمون المقالة كان أكثر إثارة من عنوانها، ذلك أنه سجل بعض الاعترافات التى أقر الكاتب فيها بأنه لم يكن وفيا تماما لآداب وأخلاقيات المهنة. فقد أجرى تعديلات على أجوبة أناس أجرى معهم مقابلات. حين وجد أن ردودهم ليست واضحة. بما يعنى أنه وضع على ألسنتهم إضافات من عنده، أو استعان بإجابات لهم فى أخرى أفضل من تلك التى سمعها منهم. الأمر الذى يعنى أنه تخلى عن الصرامة المهنية التى تفرض عليه ألا يتدخل فى إجابات مصادره وينقلها كما هى دون أية إضافة. كما أنه دخل موقع «ويكيبيديا» على الإنترنت وأجرى تعديلات فيما نشره عنه متعلقا بسيرته وعمله فى الصحافة كما ألغى انتقادات وجهت إليه. واستهوته العملية فسعى إلى مجاملة أصدقاء له من زملائه وزميلاته حيث أجرى تعديلات فيما نشره الموقع عنهم.
لم يكتف يوهان هارى بهذه الاعترافات، ولكنه عزم على أن يكفر عن «ذنوبه» ويعاقب نفسه. فقرر أن يعيد جائزة «جورج أورويل» التى سبق أن فاز بها تقديرا لعمله الصحفى الذى تفوق فيه. كما أنه قرر أن يحصل على إجازة غير مدفوعة الأجر حتى نهاية العام المقبل من صحيفة الإندبندنت، سوف يقضيها فى الانضمام إلى برنامج تدريب على الصحافة حسب أصولها. وحين يعود إلى عمله بعد ذلك فإنه سيضم إلى كل مقابلة يجريها هوامش تظهر المصادر التى اعتمد عليها. مع إضافة تسجيل كل مقابلة إلى الموقع الإلكترونى للجريدة.
هذا الذى فعله صاحبنا شىء لا يكاد يصدق فى عالم الصحافة، بله شىء نادر فى الصحافة الغربية ذاتها. ذلك أننا نعرف أن صحيفة نيويورك تايمز اعتذرت لقرائها عن المعلومات غير الدقيقة والمنحازة التى نشرتها أثناء الغزو الأمريكى للعراق. ونعرف أيضا أن صحيفة واشنطن بوست لا تنشر خبرا إلا إذا أكده قبل النشر مصدران كل منهما مستقل عن الآخر. أما الذى أقدم عليه يوهان هارى فهو خطوة غير مسبوقة، لكنه يقدم لنا نموذجا لمحاولة التطهر المهنى لا أعرف لها مثيلا، إضافة إلى أنها تبدو وكأنها ضوء بعيد فى الأفق بيننا وبينه بعد السماء عن الأرض، خصوصا إذا ما قارنا ذلك النموذج بالواقع الذى نطالعه كل صباح، وبعضه لا تكاد تصدقه أعين سلفيى المهنة من أمثالنا، الذين عملوا مع الكبار وخبروا الصحافة قبل انهيار صرحها وتحولها إلى مهنة أخرى غير التى نعرفها.
لا أستطيع أن أتجاهل الدور الجليل الذى قامت به بعض المنابر الصحفية المصرية فى التصدى لاستبداد النظام السابق وكسر هيبته، الأمر الذى وضع اللبنات الأولى فى حملة التعبئة التى انتهت بالانفجار الشعبى الذى أسقط النظام السابق. وأعتبر ذلك استثناء على القاعدة، أو نقطة تحسب لصالح الصحافة فى مقابل نقاط أخرى تحسب عليها وتدين سلوك الأجيال التى تربت وتشكلت فى ظل الاستبداد. لا أتحدث عن الولاءات السياسية، لكننى أعنى الصحافة كحرفة، دمرتها السياسة حين خنقت حرية التعبير، وحين نصبت على رأس المؤسسات القومية أبواقا شغلت بخدمة النظام أكثر من انشغالها بخدمة القارئ. وحين طال العهد بهذه المدرسة فإنها خرجت أجيالا عانى أغلبها من الإعاقة المهنية والفقر المعرفى والاسترزاق من أى باب. حتى ضاقت الفرص أمام الشرفاء والموهوبين، فتحولوا إلى التليفزيون وتوزعوا بين الاكتئاب والصمود بالداخل، أو الانتقال إلى دول الخليج أو مراسلة الصحف العربية والأجنبية، وصرنا نقرأ موضوعات منقولة عن الإنترنت ومقالات مترجمة بالكامل نشرت «بقلم» المترجمين، وأخبارا ملفقة ولا أساس لها، وتصفية حسابات لا علاقة للقارئ بها... إلخ.. إلخ.
لا أقيس على الصرامة المهنية النادرة التى تحلى بها يوهان هارى معلق الإندبندنت، ولكنى أتحدث فقط عن قيم المهنة الأساسية وأخلاقياتها التى يفترض أنها تضع الولاء للقارئ فى المقام الأول، وأسأل: لو أن الصحفيين المصريين والعرب راجعوا أنفسهم بشجاعة وقرروا الاعتراف بإخلالهم بقيم المهنة وقواعدها، ثم قرر هؤلاء العكوف على تعلم أصول المهنة من جديد، كم واحدا سيستمر فى موقعه، وكم صحيفة ستغلق أبوابها؟ لأننى أعرف النتيجة ولا أريد أن أحرج أحدا، فإنى أسحب السؤال، واكتفى باعتبار ما كتبه يوهان هارى مادة مرشحة للنشر فى زاوية: صدق أو لا تصدق.
ساحة النقاش