⭕ الصغيران ⭕
مصطفى صادق الرافعي
الكاتب :
- مصطفي صادق الرافعي إمام من أئمة الأدب ، وشيخ من شيوخ العربية، و أمير من أمراء البيان. ولد سنة 1298هـ / 1880م في (بهتيم) إحدى قرى محافظة القليوبية من أسرة سورية الأصل، ولم يتم المراحل التعليمية لمرضه ، فثقَّف نفسه بالقراءة، و استقر أكثر حياته في مدينة (طنطا) حيث كان كاتبا في إحدى المحاكم بها حتى توفي سنة1356 هـ / 1937م .
- وله ديوان شعر من ثلاثة أجزاء و كتب نثرية متعددة مثل : إعجاز القرآن – و تاريخ الأدب العربي – و رسائل
الأحزان – و السحاب الأحمر – و حديث القمر – و أوراق الورد – و المساكين . و جمع مقالاته التي نشرتها له مجلة الرسالة في كتابه (وحي القلم) . و ينتمي في النثر والشعر إلى مدرسة المحافظين .
تمهيد :
كان الكاتب عائداً إلى منزله ليلاً فرأى طفلة في الخامسة من عمرها ومعها أخوها في الثالثة من عمره تائهين قد ضلاَّ الطريق إلى منزلهما فشعرا بالرعب لهذا الضياع، وأشفق عليهما الكاتب وقدم لهما بعض قطع الحلوى حتى ظهرت أمهما تبحث عنهما وغمرتهم الفرحة جميعا... وتأثر الكاتب بهذا الحادث فكتب قصة هذين الصغيرين مبيناً مدى المعاناة التي حدثت لهما و لذويهم . و قد اختار الكاتب عنوان المقالة كلمة واحدة هي (الصغيران) ليوضح حاجة الأطفال الشديدة إلى الرعاية والعطف والاهتمام .و العاطفة المسيطرة على الكاتب هنا عاطفة الأسى والحزن الشديد و الألم و الإشفاق لحال الصغيرين التائهين الممتزجة في النهاية بعاطفة السعادة و الفرحة لحظة عودة الطفلين إلى أحضان أمهما.
النص ➡( في تلكَ الساعةِ كانَتِ الأرضُ قد عَرِيَتْ إلا من أواخِرِ الناسِ وطوارِقِ الليلِ ، وبقيَّةٍ من يقظةِ النهارِ تحبو في الطريقِ
ذاهِبَةً إلى مضاجِعِها ، فبينَما أمُدُّ عينَيَّ وأديرُهُما في مفتَتَحِ الطريقِ ومنقطَعِهِ ؛ إِذِ انتفَضْتُ انتفاضةَ الذُّعْرِ ، ووَثَبَتْ رجَّةُ القلبِ بجسمي كُلِّهِ ، كما تَثِبُ اللسعةُ بمَلْسُوعِها ، ذلكَ حينَ أبصَرْتُ الطفلَيْنِ ) .
(صغيرانِ ضَلاَّ عن أهلِهِما في هذا الليلِ ، يمشيانِ على حَيْدِ الطريقِ في ذلَّةٍ وانكسارٍ ، وتحسَبُ أقدامَهُما منَ البُطْءِ والتخاذُلِ لا تمشِي ، بلْ تتَزَحْزَحُ قليلاً ، فكأنَّهُما واقفانِ ، أكبَرُهُما طفلةٌ تَعُدُّ عُمْرَها على خَمْسِ أصابِعِها ، والآخرُ طفلٌ يبلغُ ثلاثَ سنواتٍ ، ينحدرانِ في أمواجِ الليلِ ، وقد نَزَلَ بهِما منَ الهَمِّ في البحثِ عن بيتِهِما ما ينزلُ مثلُهُ بمَنْ تطوحُ به الأقدارُ إذا رَكِبَ البحرَ المُظلمَ ليكشِفَ عن أرضٍ جديدةٍ ) .
( تتبَيَّنُ الخوفَ في عيونِهِما الصغيرةِ ، وتراهُ يفيضُ منهما على ما حولَهُما ، حتى ليَحْسَبُ كلاهُما أنَّ المنازِلَ عن يمينِهِ وشمالِهِ أطفالٌ مذعورةٌ ، ويتلفَتَّانِ كما تتَلَفَّتُ الشاةُ الضالَّةُ عن قطيعِها ، لا يتحرَّكُ في دَمِها بالغريزةِ إلا خوفُ الذئبِ ، ويتَسَحَّبانِ معًا وراءَ الأشِعَّةِ المنبثقةِ في الطريقِ ؛ كأنَّ أضواءَ المصابيحِ هي طريقُ قلبَيْهِما الصغيرَيْنِ) .
(منقطعانِ في ظلامِ الليلِ ، وليسَ على الأرضِ أهنَأُ من لَيْلِ الطفلِ النائمِ ، فهل يكونُ فيها أشقَى من ليلِ الطفلِ الضائعِ ؟ نامَتْ أحلامُهُما، واستيقَظَتْ أعيُنُهما للحقائقِ المُظلمةِ الفظيعةِ ، وضاعا منَ البيتِ ، ويحسبانِ أنَّ البيتَ هوَ الضَّائعُ منهما ، طفلانِ في وَزْنِ مثقالَيْنِ منَ الإنسانيةِ ، ولكنَّهُما يحملانِ وَزْنَ قناطيرَ منَ الرُّعْبِ) .
(يا مَنْ لا إله إلا هو ، مَنْ سواكَ لهاتينِ النملتَيْنِ في جُنَحِ هذا الليلِ الذي يشبهُ نقطَةً من غضَبِك َ؟ لقَدْ أخرَجْتَهُما في هذا الضَّياعِ مُخْرَجَ أصغَرَ موعظةٍ للعَيْنِ ، تنَبِّهُ أكبَرَ حقيقةٍ في القلبِ ، وعرضْتَ منهما للإنسانيةِ صورةً لو وُفِّقَ مخلوقٌ عبقريٌّ فرَسَمَها جَذَبَ كلَّ أحزانِ النفْسِ ، صورةَ الحُبِّ يمشي متساندًا إلى صَدْرِ الرحمةِ في طريقِ المصادَفةِ المجهولةِ من أوَّلِهِ إلى آخرِهِ ، وعليهما ذُلُّ اليُتْمِ منَ الأهلِ ، ومسكَنَةُ الضَّياعِ بينَ الناسِ ، وظلامُ الطبيعةِ وكآبَتُها) .
( رأيتُ الطفلةَ وقد تنَبَّهَتْ فيها لأخِيها الصغيرِ غريزةُ أمٍّ كاملةٍ ؛ فهي تشُدُّ على يدِهِ بيدَيْها معًا ، وكأنَّها مذُ علِمَتْ أنَّها ضائعَةٌ ، تحاولُ أنْ تطمَئِنَّ أخاها إلى أنَّه معَها ، ولَنْ يضيعَ وهو معَها . فيالرحمة الله . . وقَدْ أسنَدَتْ مَنْكِبَيه إلى صَدْرِها وهي تمشِي ، فلا أدري إِنْ كانَ ذلكَ لتَحْمِلَ عنه بعضَ تعَبِهِ فلا يتساقَطَ ، أو ليكونَ بها أكبَرَ من جسمِهِ الضئيلِ فلا يخافَ ، أو لأنَّها حينَ لَمْ تستطعْ أَنْ تفهِمَه ما في قلبِها بلُغَةِ اللسانِ ؛ أفاضَتْه على جسمِهِ بلُغَةِ اللَّمْسِ، أو لا هذا ولا ذاك ، إنَّما هي تستمِدُّ من رجولتِهِ الصغيرةِ حمايةً لأنوثَتِها بوَحْيِ الطبيعةِ التي رَسَخَتْ فيها ) .
( ولمَّا وَقَفا بإزائِنا كانَ هذا الصغيرُ يقلِّبُ في وجوهِ الناسِ نظراتٍ يتيمةً ترتَدُّ على قلبِهِ آلامًا لا رحمةَ فيها ؛ إِذْ يشهدُ وجوهًا كثيرةً ليسَ لها ذلكَ الشكلُ الإنسانيُّ المحبوبُ الذي لا يعرفُهُ مِنْ كلِّ خَلْقِ اللهِ إلا في اثنَيْنِ : أمِّهِ وأبيهِ . . ولمَّا رأيْتُ الطفلَينِ ضَمَمْتُهما إلَيَّ ، وألهَيْتُهُما عن كآبةِ القلبِ بسرورِ البَطْنِ ، فدَفَنْتُ كلَّ آلامِهِما في بعضِ قِطَعِ الحَلْواءِ ، فطَعِما واستَضْحَكا ، وتطَلَّعا لحياةٍ جديدةٍ آمنةٍ ) .
( وبينَما نحنُ على ذلكَ ، إذِ ارتفَعَ سوادٌ مُقْبِلٌ كأنَّه روحُ ليلةٍ مظلمةٍ تَغْشَى الطريقَ ، فتَبَيَّنْتُ فإذا امرأةٌ تهفو كذاتِ الجناحَيْنِ ، وكأنَّها تَنساقُ بقوَّةٍ تحترقُ في داخِلِها ، ثمَّ أخذَتْنا عيناها ، فإذا هيَ أمُّ الطفلَيْنِ ، تبدو من لهفَتِها، واستَطارَتْها لولدَيْها كأنَّما تحاولُ أنْ تختَطِفَهُما من بعيدٍ بقوَّةِ قلبِها ، وما عرَفْتُ أنها هيَ إلا بأنَّ روحَها كانَتْ منتشرَةً على وَجْهِها ، ملموسَةً في نظراتِها إلى الصغيرينِ ، وكانَتْ لها هيئَةُ أمٍّ وُضِعَتِ الجنةُ تحتَ قدَمَيْها ) .
(وهَلَّ الطفلانِ لمَّا أبصَرا أمَّهُما ، ونَفَضا أيدِيَهُما نَفْضَ الأجنحةِ ، ثمَّ أكَبَّتْ هيَ عليهِما بجِسمِها ومدامِعِها وقُبلاتِها، والْتَحَما بها الْتِحامَ الجُزْءِ بكُلِّهِ، واشتَبَكَتِ الأذرُعُ في الأذرُعِ حتى لا تفَرِّقَ بينَ ثلاثَتِهِمْ في معاني الحُبِّ إلا بالكِبَرِ والصِّغَرِ ، و رَجَعَتْ معَهُما طفلةً ، كأنَّ تاريخَها ابتدأ في ساعةٍ منَ الساعاتِ الفاصِلَةِ ، التي يتحوَّلُ عندَها التاريخُ )