جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
عن المزاعم حول ضحايا الحوادث النووية أو الفرق بين تناول أخبار العلماء وأخبار "العوالم"
......................................... بقلم : د/ مرسى الطحاوى أستاذ الفيزياء الاشعاعية البيئية
..........................................
مقدمة لابد منها أو "نحن في ماذا وأنت في ماذا؟!": صحيح كلنا مهمومون بالمسيرة المتعثرة للثورة ، ولكن بعد نجاحها إنشاء الله أو فشلها المؤقت لاقدر الله ، لابد وأن يكون واحد من أوائل قرارات الإدارة الثورية الجديدة وإذا كانت الأخرى قد يكون على قائمة الإصلاحات العاجلة اتخاذ القرار الضروري لحل اثنتين من أهم مشاكل الاقتصاد المصري الآتية لا ريب فيها، وهما الجوع للطاقة والعطش لمياه الشرب والري؛ وعندي يقين في أن كل الأحداث الساخنة مهما غطى وهيجها كل الأفق القريب مآلها إلى الهدوء والانضمام إلى ما سيسرده التاريخ ، ولابد للمجتمع الإنساني أن يواصل الحياة بما في ذلك الأجدى اجتماعيا وهو مواصلة العمل المنتج لتلبية حاجات البشر، وأزعم أن الطاقة كمنتوج للنشاط البشري واحد من أهم شروط ممارسة هذا النشاط بل وشروط ممارسة الحياة ذاتها .
ولنتحول إلى موضوع هذه السطور وهو دور الإعلام وتأثيره في مسيرة المشروعات الهامة (ولا أقول القومية رغم قناعتي – لأن ذلك وجهات نظر) واقصد هنا مسيرة مشروع إنشاء مجمع المحطات النووية لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر ، ومن البداية أرجو الإشارة إلى أنني لا أرغب ولا أستطيع أن أقلل من حق الإعلام وواجبه في الحصول على المعلومات عن هذه المشاريع وتوصيلها للقارئ والتعليق عليها وتحليلها بل ودعوة أو دفع القارئ لتبني هذا الموقف أو ذاك من اتخاذ القرار أو المطالبة باتخاذه.
في 11/3/2011 وقع زلزال شرق اليابان العظيم ثاني أقوى زلزال سجله التاريخ وتبعه سونامي رهيب – تسببا معاً في تهدم وجرف أحياء بل ومدن كاملة على الساحل الشرقي لليابان بما في ذلك المنازل والمصانع والمنشآت ، كما طالت أعطاب محسوسة أربعة من المفاعلات النووية الست المكونة لمجمع "دياتشى" لمحطات الكهرباء النووية قرب مدينة فوكوشيما مما أدى إلى قرار إغلاقها، ومنذ ذلك الحين دب وتزايد نشاط الحملات المضادة للبرامج النووية عالميا وإقليميا ، وعلى المستوى المحلي تراوح تناول الإعلام المصري لهذا الموضوع بين التخوف "العاقل" من أخطار إشعاعات الأنشطة النووية (حيث يعتقد الكثيرون في تأثيراتها الخطيرة على الإنسان والبيئة) وبين المقالات المثيرة عن حوادث مزعومة وقعت في المنشآت النووية والإشعاعية المصرية تسببت في ضحايا بشرية مصابين بالسرطان بل وفقدوا حياتهم نتيجة الإشعاعات والتلوث الإشعاعي؛ وللأسف – في غالب الأمر بحثا عن الإثارة و "الفرقعة" الإعلامية – تصل بعض هذه الكتابات إلى المستوى "الجذاب" الشبيه بتناول الأخبار والشائعات حول طلاق الراقصة فلانة من زوجها رفيق الكفاح في الملهى الليلي لتتزوج بمليونير أو انتقال اللاعب علان بين النوادي ، وبالطبع فإن عناوين مقالات نشرت في بداية صيف هذا العام وحتى منتصف ديسمبر مثل "انفجار طلمبة المفاعل وتسرب 10 متر مكعب ، مياه مشعة ... الكارثة تصنف درجة ثالثة وفقا لضوابط الوكالة الدولية للطاقة الذرية" أو "التسرب الإشعاعي في خزان مياه المركز القومي لبحوث تكنولوجيا الإشعاع بهيئة الطاقة الذرية" ... مأساة ضحايا مفاعل أنشاص الذين قتلهم الإشعاع ... وحصلنا على قائمة بأسماء الضحايا" قد تخلق رأيا عاما مضادا لإنشاء المحطة النووية المرجو إقامتها في موقع الضبعة بالساحل الشمالي ، نقول قد يؤثر بالسلب على صانعي القرار وبالتأكيد يشحن الرأي العام الشعبي خاصة لدى أهالي المناطق القريبة من الموقع ، وفعلا في يناير 2012 قام بعض أهالي المنطقة المرعوبين من "المخاطر النووية الإشعاعية القاتلة" والمضارين من بقاء المساحة المخططة لبناء المحطة النووية دون أى تقدم في التنفيذ أو الأستفادة من الموقع المتميز سياحياً ("الحكومة لا ترحم ولا تترك رحمة ربنا ") بالاستيلاء على أراضي الموقع وتخريب ونهب كل محتوياته – مع محاولات (في غالب الظن) مدعومة أو مرضي عنها من قبل بعض رجال الأعمال من ذوي الحظوة السابقة – قبل انطلاق شرارة ثورة 25 يناير – لانتزاع هذا الموقع بحجة إقامة منتجعات سياحية بدلا من تعريض القرى السياحية المجاورة لخطر المنشأة النووية!
وهنا لابد أن نتناول باختصار مسيرة البرنامج النووي المصري وأهميته ، ونذكر أولا أنه قد بدأ مع وقبل بعض الدول التي قطعت أشواطا رائعة في استخدامات الطاقة النووية مثل الهند التي تبني محطاتها النووية لتوليد الكهرباء وتحلية المياه من الألف للياء بجانب قدراتها النووية العسكرية ، وكوريا الجنوبية التي شغلّت مفاعلها البحثي الأول بعد ما فعلت مصر بحوالي سنة ولديها الآن 20 مفاعل قُوى تضمن لها حوالي 45% من احتياجاتها للكهرباء بجوار حصولها على امتياز بناء بعض المحطات النووية الآسيوية بما في ذلك مفاعلات مجمع البراكة الأربعة في دولة الإمارات العربية المتحدة ، والأرجنتين التي أنشأت مفاعل مصر البحثي الثاني خلال شركتها "انفاب".
بدأت المسيرة الذرية / النووية المصرية منذ أكثر من نصف قرن في 27/2/1955 عندما صدر قرار رئيس مجلس الوزارة بتشكيل "لجنة الطاقة الذرية" وسريعا ما تقرر وضعها تحت إشراف رئيس الوزراء جمال عبد الناصر بغرض تمكين الدولة من استغلال الطاقة الذرية في الأغراض السلمية في النواحي العلمية والطبية والصناعية والزراعية بما في ذلك إفادة الدولة من الطاقة الذرية ، وفي 18/9/1956 بدأ التفاوض مع روسيا (الاتحاد السوفيتي حينذاك) بشأن مفاعل نووي بحثي في إنشاص ، أي كانت مصر – وأثناء الفترة العصبية التي واكبت تأميم قناة السويس وفي انتظار وقبيل العدوان الثلاثي – تفكر وتخطط للتطور العلمي في هذا المجال الحديث والانطلاق على طريق ترويض الطاقة النووية بعد التعرف المرعب عليها في هيروشيما ونجزاكي في أغسطس 1945 بحوالي عقد واحد من الزمان ، وفي نفس العام الذي تم فيه تدشين أول مفاعل نووي لتوليد الكهرباء تجاريا في الغرب ونعني محطة الكهرباء النووية البريطانية "كالدينهول" بالقرب من سيلافيلد التي بدأت في اعطاء الكهرباء يوم 24/1/1956 بقدرة خمسين ميجاوات ، وقد انطلق البرنامج المصري عفيا نشطا ، فتحولت لجنة الطاقة الذرية إلى مؤسسة الطاقة الذرية في 1957 وانطلق مفاعل مصر البحثي الأول في يوليو 1961 بقدرة 2 ميجاوات في انشاص بجوار معامل متطورة وعلى مستوى عالمي (في ذلك الوقت) لإجراء البحوث في المجالات النووية والإشعاعية وقامت مدرسة علمية بحثية رائدة ، إلا أن المسيرة النووية تباطأت بل وتراوح وجودها بين السبات العميق أو الاقتراب من سكون الموت لأسباب عدة بدءاً من نكسة 1967، ثم قصور التمويل وتخبط رؤية الإدارة المصرية مع عدم وضوح أهداف ومهام مؤسسة (ثم هيئة) الطاقة الذرية ، ومع ذلك فقد تخللت هذه المسيرة بعض لحظات الصحوة والرغبة في مواصلة التقدم على طريق استخدام الطاقة النووية وأساسا لأغراضها الأهم وهي تغطية حاجات الاقتصاد الوطني لتوفير الطاقة الكهربائية وتحلية مياه البحر، وأنشئ المركز القومي لبحوث تكنولوجيا الإشعاع وأنشئت هيئة المحطات النووية في 1976 ثم هيئة المواد النووية في 1977 ، وافتتح مفاعل مصر البحثي الثاني في 1998 بقدرة حوالي 22 ميجاوات وفي خريف 2006 "انتوى" رئيس الجمهورية المتخلي إحياء مشروع بناء مفاعل قُوى في الضبعة ، وكعادة الإدارة المصرية انقضت سنوات خمس في الأعداد (!) لهذا المشروع تم خلالها (في مايو 2009) دفع مبلغ (160) مليون دولار لشركة وورلى / بارسونز التي كلفت كاستشاري لهيئة المحطات النووية المنشأة من ثلث قرن والمنوط بها حسب المادة الثانية من قانون إنشائها بـ "تنفيذ مشروعات إنشاء محطات القوى النووية" للمساعدة في اختيار نوع المفاعل وفي أعمال الأعداد الأخرى (!)؛ ثم انطلقت شرارة ثورة 25 يناير وتوقفت المسيرة مجددا ولكن هذه المرة توقفا منطقيا نرجو ألا يستمر طويلا ويكون أحد أوائل منجزات الثورة بعد نجاحها – إنشاء الله – تنفيذ هذا المشروع الحيوي بل والحتمي، لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر وألا ننسى أهمية النظر إلى الغد واحتياجاته لمجابهة ما قد تتعرض له إذا تناسينا احتمالات ما يخبئه المستقبل غير البعيد من إمكانية التعرض للجوع إلى الطاقة في ظل الارتفاع المتواصل لأسعار الوقود الأحفوري (المحترق) من بترول وغاز طبيعي وتوقع نضوب مخزونها والذي يقدره أكثر المتخصصين تفاؤلا ببضع عشرات السنين بالإضافة إلى تأثيراته البيئية شديدة الخطورة ، مع تزايد الطلب على الكهرباء الذي يبلغ الآن حوالي 6-7% سنويا علما بأن كهرباء السد العالي وكل السدود الأخرى في مصر (وآخرها سد نجع حمادى) تمثل 9.25% من الطاقة الكهربائية المستخدمة ولا توجد إمكانيات لبناء سدود أخرى على نيل مصر لتوليد الكهرباء ، أما كهرباء الطاقة الشمسية بما فيها المولد من الرياح فلا تتجاوز 1% من احتياجاتنا للطاقة الكهربائية ، ولا يتوقع أن يزيد نصيبها في سلة الطاقة المصرية عن 5% خلال العقدين القادمين لأسباب عديدة خارجة عن إرادتنا وإمكانياتنا برغم ما يتردد عن وفرة مصادر الطاقة الشمسية في مصر المشمسة ضوءاً وحرارةً والغنية بالرياح ، ولا يتسع المجال هنا لشرح هذا الموضوع ، فقط نشير إلى أن الوصول إلى هذه الـ 5% استدعى تخصيص مساحة أكثر من 1.8 مليون فدان لإقامة مثل هذه المحطات حسب القرارين الجمهوريين 138 و 319 لسنة 2009 . و يجب كذلك ألا نتناسى إمكانية التعرض للعطش لمياه الشرب والري في ظل المشروعات المائية لدول منابع النيل سواء المشروعات الإنمائية فعلا أو تلك المدعو إليها تآمرا ضد مصر .
ولنعد الآن إلى بعض الكتابات غير الدقيقة التي أشرنا إليها ، ونؤكد أنه بخلاف حادثة ميت حلفا لم تقع في مصر خلال أكثر من نصف قرن من النشاطات النووية والإشعاعية أي أحداث (جمع حدث) أو حوادث (جمع حادث أو حادثة) نووية أو إشعاعية سواء داخل أقسام هيئة الطاقة النووية أو خارجها ، ولا أقول هذا كدفاع عن الجهات العاملة في المجالات النووية والإشعاعية ، فالحقيقة أن هذه المؤسسات مثلها مثل كل المؤسسات العلمية (وغير العلمية) قد عانت خلال عشرات السنوات الأخيرة من هبوط في مستوى الأداء بدرجة كبيرة ، وانطلاق شرارة الثورة المطالبة بالتغيير وتحسين الأوضاع خير دليل على ذلك ، إلا أن الواقع يقول أنه لم تقع إلا حادثة واحدة في هذا المجال وهي حادثة ميت حلفا في مايو / يونيو 2005 عندما وجد أحد أهالي هذه القرية في محافظة القليوبية مصدرا مشعا مفقودا منذ أيام يستخدم للكشف عن جودة لحامات الأنابيب بواسطة فنيين يعملون تحت إشراف فيزيائيين صحيحين متخصصين في العمل بالمصادر المشعة المغلقة ، ويتم ذلك تحت إشراف وزارة الصحة ، حيث يعطي القانون 59 لسنة 1960 – والخاص بتنظيم "العمل بالإشعاعات المؤينة والوقاية من أخطارها" – مسئولية الإشراف على هذا النوع من المصادر المشعة إلى أحد مكاتب وزارة الصحة وليس إلى أي هيئة رقابية أو علمية أخرى تابعة للطاقة الذرية أو أي هيئة نووية أخرى حتى يُفعّل القانون 7 لسنة 2010 والخاص "بتنظيم الأنشطة النووية والإشعاعية" ليحل محل القانون 59 العتيق. وأثناء احتفاظ المواطن بهذا المصدر المشع في غرفة خزين لا تتردد الأسرة عليها كثيرا (لحسن الحظ) ونتيجة التعرض للإشعاعات الصادرة منه توفى طفل ثم توفى الأب بالإضافة إلى إصابة 4 آخرين من أعضاء الأسرة حتى تم اكتشاف المصدر في أواخر يونيو ، وقد صنفت الحادثة في المستوى الرابع بمقياس الأحداث النووية والإشعاعية الذي وضعته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبالمناسبة يصنِّف هذا المقياس الأحداث في7 مستويات (وليس عشرة كما جاء في أحدى المقالات المشار إليها) ، ثلاثة منها أحداث أولها انحراف عن المعتاد ثم حدث ثم حدث جاد ، ثم تأتي الحوادث بدءاً بحادثة ذات عواقب محلية ثم حادثة ذات عواقب أكثر انتشارا ثم حادثة جادة وأخيرا حادثة خطيرة كحادثة انفجار مفاعل تشرنوبيل الأوكراني الشهيرة ، ومرة أخرى نشير على أن الحادثة الوحيدة التي وقعت في مصر 2005 كانت خارج مسئولية هيئة الطاقة النووية وكل الهيئات النووية الأخرى . أما الحديث عن ضحايا المفاعل (أو المفاعلين) فلا يستحق التناول الجاد حيث أنه ليس فقط غير دقيق بل عار تماما من الصحة ، وقد تكون الحسنة الوحيدة فيما نُشر حول هذا الموضوع هي الإشارة الصحيحة التي جاءت في أحدى هذه المقالات إلى أن العاملين بهيئة الطاقة الذرية لا يتمتعون بأي تأمين صحي خاص بل يتبعون التأمين الصحي العام بغض النظر عن الطبيعة الخاصة لعملهم ونشاطاتهم . |
المصدر: هيئة الرقابة النووية والإشعاعية
مرحبا بكم فى مدارس البتانون
ساحة النقاش