قيمة الوقت في حياة المسلم المعاصر

 

   الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

 

   هناك سؤال يدور في خلدي دائما ويقض على مضجعي حين آوي إلى فراشي، وعندما  أتجول في الشارع، بل إنه سؤال لا يكاد أبدا يفارقني لا في حلي ولا ترحالي ألا وهو : ما قيمة الوقت عندنا نحن المسلمين؟.

 

   إنك لو ألقيت نظرة فاحصة متمعنة إلى واقع كثير من مسلمي زماننا، لرأيت أمرا عجبا يثير الدهشة والاستغراب والسخرية والاشمئزاز في آن واحد، فحياة كثير منا يندى لها الجبين وتشيب منها الرؤوس، تشاهد كثيرا من أولئك يضيعون أوقاتهم فيما لا يعود عليهم بالنفع لا في دنياهم ولا أخراهم، بل ويسعون لتضييع أوقات غيرهم من ذوي المروءة وعلو الهمة، مع أن دينهم الذي ينتمون إليه دين أولى الوقت عناية فائقة، يدرك ذلك كل عاقل أريب أمعن النظر في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سيرة السلف الصالح من علماء هذه الأمة المباركة .

 

   ومظاهر إضاعة الوقت كثيرة جدا في حياتنا اليومية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:   

 

   أولا: إضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه فتجد بعض الناس يمر عليه يوما بأكمله ـــــــ واليوم كما تعلمون أربعا وعشرين ساعة ــــــــ لم يقرأ آية واحدة في كتاب الله جل وعلا، بينما يقضي ساعة أو ساعتين وربما أكثر في مطالعة الجرائد والمجلات، وهو أمر حسن لا بأس به لأنه يساعد على تثقيف الإنسان ويعرفه بما يدور حوله من أخبار وحوادث، ولكن الاستغناء بها عن قراءة القرآن كارثة كبرى أصابت العقل المسلم في هذه الأيام، والأعجب من ذلك كله أن يصدر مثل هذا الفعل وذلكم التقصير من طالب علم ينتسب إلى العلم وأهله، فلا هو يقرأ قرآنا ولا حديثا ولا هو يغذي عقله وقلبه بالعلم النافع المثمر الذي يعود على نفسه وعلى أمته بالخير والعطاء الزاخر في الدنيا والآخرة .  

 

   إن المسلم اللبيب العاقل الذي يستعد دائما لملاقاة ربه في أي وقت ليحرص أشد الحرص على أن يبدأ دائما يومه الجديد بتلاوة آي من الذكر الحكيم، فإذا هو بسبب هذه التلاوة المباركة يجد متعة ولذة وسعادة لا يعادلها أية سعادة .  

 

   إنني لأتعجب تمام العجب من بعض أولئك الشباب الذين حصلوا على شهادات جامعية في أي تخصص من تخصصات العلم والمعرفة، ثم هو بعد ذلك يبدأ مشوار حياته ويمر عليه الأيام والليالي، ولا يستثمر وقته في قراءة الكتب والمصنفات النافعة التي تفيده في مجال تخصصه،  بل والتي تجعل منه إنسانا فاعلا متميزا قادرا على العطاء والنفع للإنسانية جمعاء .

 

   عندما أقف في محطة المترو صباحا أنتظر القطار للذهاب إلى الجامعة أو إلى المكتبة أو إلى العمل فإذا بي أتعجب من حال كثير من الناس يقفون هكذا صامتين، وعندما يتحرك القطار بنا أجد أمرا عجبا، أشاهد الكثير من الناس ولا سيما من فئة الشباب يجلس أحدهم ساعة كاملة ولربما أكثر حتى يصل به المترو إلى المكان الذي يرمي الذهاب إليه، ثم هو في خلال هذا الوقت إما أن يظل ساكتا حتى يصل إلى مكانه الذي يبتغيه ـــــــ وهو بلا شك أفضلهم ــــــ وإما أن يستمع إلى موسيقى صاخبة يتعب أذنه وقلبه في سماعها، ويؤذي من بجواره من الجالسين، وإما أن يتحدث مع زميل له في كلام غير مفيد ولا منتج، فإذا بهما يتبادلان الضحكات تلو الأخرى  وكأنما خلقهما الله لهذا فقط .

 

   إن المتمعن في سيرة سلفنا الصالح يجد أنهم كانوا يحرصون أشد الحرص على أوقاتهم، يستفيدون من كل ساعة بل من كل دقيقة، بل من كل ثانية، ولا يقتصر الأمر ـــــــ أقصد المحافظة على الوقت ــــــ على جيل أولئك الرجال الأفذاذ حتى لا يقول أحد بأن أولئك القوم كانوا أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولا نسأل عما كانوا يعملون، بل إنها مستمرة، وبحمد الله حتى عصرنا الحاضر، فإن الله عز وجل يسخر لهذه الأمة في كل وقت وحين من يكون مضرب المثل لبنيها في الجد والاجتهاد، والحرص على طلب العلم والتفاني في خدمته، وتنظيم الوقت والمحافظة عليه، وهذا يدل على استمرارية الخير والعطاء في هذه الأمة حتى قيام الساعة، رغم المظاهر السوداء القاتمة التي نراها ونشاهدها في كل يوم صباح مساء .

 

   ولقد أشار واحد من علماء هذه الأمة المعاصرين، ورجالاتها الأفذاذ المخلصين، فضيلة الأستاذ الدكتور محمد رواس قلعجي رحمه الله رحمة الأبرار الصالحين، قال وهو يتحدث عن نفسه في مقدمة كتاب معجم مصطلحات أصول الفقه للدكتور قطب بن مصطفى سانو حينما كتب لهذا الكتاب تقريظا، قال: "  لقد ذكرني ولدي قطب ـــــ يقصد الدكتور قطب بن مصطفى سانو ــــــ حين كنت أقرأ في اليوم في حدود أربع مئة صفحة، وذكرني يوم عقدت العزم على إخراج موسوعة فقه ابن تيمية، حيث قرأت كل ما كتبه ابن تيمية في الفقه في مجموع الفتاوى، ومختصر الفتاوى المصرية، واختيارات البعلي، والقواعد النورانية، وشرح العمدة، ومنهاج السنة النبوية، ودرء تعارض العقل مع النقل، والصارم المسلول، ودونت كل ما فيها من فقه على بطاقات، ثم صغتها في موسوعة فقه ابن تيمية، كل ذلك في ثلاث سنوات "([1]) فقط .   

 

   فانظر معي رعاك الله إلى همة هذا الرجل الأشم في وقت شبابه وحال مشيبه، فرغم أنه كان قد بلغ من الكبر عتيا، كبر السن وهرم الشيخوخة، إلا أنه لا يزال يتوقد قوة ونشاطا وحيوية، وما موسوعاته الفقهية التي أخرجها لنا في فقه السلف الصالح، إلا خير شاهد ودليل على هذه الهمة الكبيرة العالية، وعلى تلك المحافظة القوية والثمينة على الوقت حتى توفاه الله تعالى، فهل من سامع ومجيب، وهل من متعظ ومعتبر ؟ .

 

   ولن أذهب بعيدا فها هو تلميذه النجيب الذي تبناه علميا يمثل هو الآخر نموذجا رائعا وجميلا، ومثلا شامخا عظيما في المحافظة على الوقت وعلى علو الهمة، إنه الفقيه والأصولي المعروف الأستاذ الدكتور قطب بن مصطفى سانو حفظه الله من كل سوء ومكروه .  

 

   يقول الدكتور محمد رواس قلعجي في مقدمة تقريظه لكتاب هذا التلميذ النجيب: "  لقد جمع الله بيني وبين مؤلف هذا الكتاب الدكتور قطب مصطفى سانو في طلب العلم، عندما كان طالبا عندي في المرحلة الجامعية بجامعة الملك سعود بالرياض، في المملكة العربية السعودية، ثم في الدراسات العليا،  وأشهد أن الجامعة لم تر مثله قط ـــــــ ويصعب أن ترى مثله ــــــــ ذكاء وفطانة ونشاطا، وسرعة تصرف، فكنت أعامله معاملة خاصة لهذه المعاني التي فيه، ولما أتم رسالته للماجستير ( الباقلاني وأثره في أصول الفقه ) وقع الاختيار علي لأكون في اللجنة التي تتولى مناقشته في رسالته، كان من عادة ولدي قطب أن يزورني في منزلي بالرياض، فكنا نخوض في مسائل العلم ودقائقه، وفي إحدى زياراته لي جرى بيننا حديث في العلم، حتى استعرضنا ما جاء في صدر مقدمتي هذه من عناية العلماء بالمعاجم في علوم شتى، وعدم نهوض أحد من العلماء لوضع معجم لمصطلحات علم أصول الفقه، حتى تطرق الحديث إلى الخطة والمراجع، وظهرت بوادر العزم عند ولدي قطب على وضع هذا المعجم، ثم مضى ولدي قطب إلى ما يريد من وضع معجم مصطلحات أصول الفقه كالسهم سرعة وإنجازا، وكان يعرض علي كل مرحلة من مراحل هذا العمل الضخم، وكانت المفاجأة المذهلة عندما قال: لقد انتهى العمل، ولقد قرأ في أقل من سنتين كل ما أخرجته المكتبة العربية من كتب التراث في أصول الفقه، واستخرج ما يريده منها في بطاقات، كانت عدته في كتابه هذا، ثم صاغها كما نراها وضاءة "([2]) فانظر معي رعاك الله إلى حال ذلك الشبل من ذاك الأسد .

 

   والقصد من ذكر هذين النموذجين الإشارة إلى أن الأمة ما زالت بخير، وأنه ما زال يوجد فيها من يذكرنا كلما نسينا بسيرة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وكلما أوشكنا على النسيان وشرود الذهن، وتاريخنا الإسلامي المعاصر مليء جدا بسيرة رجال أفذاذ، وعلماء أجلاء، وقادة أكفاء، أسهموا إسهاما فاعلا في خدمة هذه الأمة ونهوضها ورقيها إلى سلم الحضارة .

 

   ثانيا: ومن مظاهر إضاعة الوقت في حياتنا اليومية أيضا: أن كثيرا من زوجاتنا وبناتنا وأبنائنا، وإخواننا الرجال يقضون ساعات طويلة جدا في مشاهدة أفلام ومسلسلات، لا تعود عليهم بفائدة دنيوية ولا أخروية، كما يقضون الساعات تلو الساعات أمام ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، من واتساب وفيسبوك، وتويتر وغيرها، حتى إنك لتجد الواحد من هؤلاء يجلس حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم ينام عن صلاة الفجر، ولا يصليها إلا في تمام السابعة أو الثامنة صباحا، فهل توجد خسارة أكبر من هذا؟ وهل توجد إضاعة للوقت أكبر من هذا؟، وصدق ربنا جل وعلا حينما قال في محكم تنزيله: " والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " سورة العصر، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حينما قال لأصحابه الكرام ذات يوم: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " .  

 

   إن فارق السرعة بيننا وبين الغرب كالفارق بين سيارة سريعة وأخرى بطيئة جدا، فالوقت عند الإنسان الغربي هو ماله وذهبه وعمره، أما عندنا نحن المسلمين فلا، بل إننا نسعى بكل ما أوتينا من قوة إلى قتله وتضييعه، فنحن أمة تملك الكثير من مواهب تضييع الفرص والأوقات، بل والتخلص منها بطريقة مذهلة .   

 

   إننا لو ألقينا نظرة سريعة إلى الإحصائيات التي تمثل واقعنا الآن فسنجده كما يلي:

 

   الإنسان المسلم يمضي 60 في المائة من يومه في مشاهدة التلفاز، و28 في المائة في أشياء لا قيمة لها، وينام في ساعة متأخرة من الليل إما الثانية أو الثالثة ليلا، ثم يستيقظ في الثانية عشر ظهرا، وهكذا دواليك .  

 

   أما الإنسان الغربي فتراه يستيقظ في السادسة صباحا، وينام في العاشرة ليلا، ولا يعرف اللعب واللهو إلا في عطلة نهاية الأسبوع، إنه يقرأ وهو في وسائل المواصلات للذهاب إلى عمله، وحينما يجلس في العيادة ينتظر موعدا مع طبيب للكشف والعلاج .  

 

   المسلم وقته ضائع بين لعب على جهاز الحاسب الآلي، ودردشة في وسائل التواصل الاجتماعي، وبين التنزه بسيارة فارهة فارغة يجوس بها خلال الديار، أو الجلوس في المقاهي لمشاهدة المباريات الكروية، أو التحدث لساعات طويلة في الهاتف النقال، ثم بعد ذلك نقول وبملء أفواهنا بأننا نريد أن نكون مثلهم في كل شيء، فهل يعقل هذا ونحن نتحرك فقط بربع طاقتنا؟  الجواب إنه لمن سابع المستحيلات اللحاق بأولئك القوم ما دمنا على حالنا هذه، نعم إي ورب الكعبة .

 

   ثالثا: ومن مظاهر إضاعة الوقت ما يفعله كثير من الذين يتقلدون المناصب العامة في الدولة، فتجد الواحد من أولئك الموظفين يسعى لتضييع أوقات العباد بمحض إرادته ووفق هواه، مع أنه لا يرضى أبدا أن يعامل هو بنفس تلك المعاملة، فهب أن موظفا آخر في مصلحة حكومية أخرى عامله بنفس تلك المعاملة، لغضب واستنكف وقلب الدنيا رأسا على عقب، ولكنه للأسف يعامل الناس بما لا يحب أن يعامل به هو، ألم يستمع هذا الموظف الخائن إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " بل وإلى حديث آخر من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة " فهل يوجد غش وخيانة للرعية أعظم من اللعب بأوقات الناس ومشاعرهم وعواطفهم؟ كلا والله، ألا فليتق الله أولئك الظلمة وليتذكروا ساعة الوقوف أمام الله عز وجل الذي سيحاسبهم على أفعالهم المشينة والقبيحة، فإن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الله سيبعث من في القبور .

 

   وفي الختام أوجه هذه الصرخة إلى أذن كل مسلم عاقل أن يتقي الله في نفسه ووقته وأهله، وأن يحافظ على أوقات من ولاهم الله أمره، فإنه لن تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عن أربع كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به " .  

 

   إن المسلمين مدعوون وبقوة إلى القيام بمهمة الحفاظ على الوقت، وعلى استثمار طاقات شبابهم وشاباتهم فيما يعود عليهم بالنفع والخير والعطاء؛ كي تنهض أمتنا من جديد لتمارس دورها الحضاري والريادي في خدمة البشرية نحو المجد والعزة والسؤدد والكرامة والتوحيد الخالص والعبودية الحقة لله رب العالمين، ولن يتم لنا ذلك إلا بالإيمان الخالص، والعمل الصالح، وفقنا الله جميعا إلى كل خير، ورزقنا حسن المحافظة على الوقت، اللهم آمين .

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

حرر في ليلة السبت الموافق 16 / 12 / 2017 م .

 



[1] - انظر : مقدمة معجم مصطلحات أصول الفقه للأستاذ الدكتور قطب بن مصطفى سانو صـ 12

[2] - انظر : معجم مصطلحات أصول الفقه صـ 12 ــــــــــــ 13

Sakoabohusain

أ/ عبد الرحمن ساكو 01110589704 [email protected]

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 34 مشاهدة
نشرت فى 10 سبتمبر 2018 بواسطة Sakoabohusain

عبد الرحمن ساكو

Sakoabohusain
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,664