أبحاث وفكر

أبحاث منطقية في القرآن الكريم، وموقف القرآن من قضايا العادات الموروثة

authentication required

التَّصْمِيمُ الهادِفُ المَرْحَلِي المُدَوَّن السَّابقُ لِلْخَلْق التنفيذي

"قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ{9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ{10}" فصلت41

إن كل الأعمال التي يديرُها الناس تمر بمرحلةٍ سبقت تنفيذها، هذه المرحلة هي مرحلة التصميم، وهي مرحلةٌ لا يكون العمل فيها قد ظهر بالفعل للوجود ليؤدي الدور الذي صُمِّم من أجله، ولكن بدون هذا التصميم لن تجدَ عملا، فهذه المرحلة في أبسط صورها تكون في ذهن صاحب العمل، فمثلا عندما يريد شخص أن يصطاد السمك، فإنه يضع الخطة في ذهنه مسبقا، فتجده يجهز أدوات الصيد، ويحدد الوقت المناسب، ويصطحب معه من يحب، كل هذا قبل أن يبدأ في الصيد فعليا، كل هذا أيضا ولا تجد أنه قد سجل خطته إلا في ذاكرته، وهذا التخطيط جزء أولي في عملية التنفيذ، وبدونه لن يستطيع الصَّيَّادُ أن يُنَفِّذَ شيئا.

وفي الأعمالِ الأكبر من ذلك، كما في إنشاءِ المصانع والمدارس والشركات وغيرِها من المنشآت، يكون التصميمُ مدونا في سجلٍ خاص، وخرائط مرسومة ومنظمة ومجهزة بالتنسيق المناسب لمن يطلبُها، يرجع إليها كل أصحاب الشأن، أثناء الإنشاء أو بعده، في أعمال الصيانة، وغير ذلك.

يتم عملُ العديدِ من هذه الخرائطِ والسجلات، ويتم توزيعُها على العاملين في الإنشاء، ليتَّبِعَ كلٌّ منهم خطوات العمل طبقا لما هو مدون أمامه من تعليمات، وترى العمل يجري على يدِ جميعِ العاملين في وقتٍ واحد وتنسيق، ولا يقع أحدٌ في خطأِ قراءةِ تعليماتِ غيرِه، فلكل فئةٍ تعليماتٌ خاصة ينفذونها، ولا ينفذون غيرها، فالقائمون بالبناء لديهم خرائط وتعليمات تبين لهم أين تكون الحوائط والأبواب والشبابيك، والقائمون بأعمال الكهرباء لديهم نفس الخرائط ولكن التعليمات هنا تختلف وتبين لهم أين مواضع اللأسلاك والمفاتيح والمقابس ومنابع القوى الكهربائية، ومع العاملين في السباكة نفس الخرائط مع تعليمات أخرى تبين لهم مواضع مواسير المياه والمجاري ومكان المطبخ والحمام والسخانات والخزانات، فتجد أن الجميع معهم نسخ متشابهة من خرائط وسجلات المنشأة، ولكن لكل منهم تعليمات مختلفة عن الآخرين، قام المهندس المصَمِّم بوضع هذه التعليمات بدقة، تضمن انسياب العمل بصورة دقيقة ومنظمة وبأقل تكلفة، وصولا إلى تمام الإنشاء ليؤدي دوره والغرض من إنشائه.

 

وكذلك فَعَل اللهُ، حيث أنشأ تصميما كاملا للخلق قبل بدء إيجاده، وهذا التصميم مدون في سجل عام، سماه الله -سبحانه وتعالى- [أم الكتاب]، وعند كل عملية خلق، تُنشأُ نسخٌ ميسرة من هذا السجل، تُوزع على جميع وحدات الوسط الذي سينشأ منه الخلق، وميسرة بمعنى أن الوسط هذا قادر على قراءة رموز التصميمات وتعليماتها وقادر على تنفيذ هذه التعليمات، وهذا النسخ الميسر يسمى [التنزيل][1]، حيث يتم التنزيل أيضا عند بدء خلق الحياة تنفيذيا في سجل آخر، حيث يتم نسخُ نسخٍ ميسرة أكثر، من كتاب الوسط السابق، إلى مادة الحياةِ، حتى يتيسر لهذه المادة قراءة تعليمات النمو، ومباشرة الوظائف الموكلة بها والتي سبق تدوينها، وهذا السجل الأخير أو الجينوم قد اكتشفه الإنسان في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، وهو الجينات الوراثية في الكائنات الحية والموجودة داخل نواة كل خلية على هيئة كروموزومات مزدوجة.

والآيات الآتية تشير إلى هذه السجلات:-

"وَإِنَّهُ فِي [أُمِّ الْكِتَابِ] لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ{4}" الزخرف43

"يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِنْدَهُ [أُمُّ الْكِتَابِ]{39}" الرعد13

وما سبق من آياتٍ أشارت إلى السجلِّ الأصلي العام والذي [تنَزَّلَ] منه القرآنُ على مراحلَ حتى وصلَ إلينا في صورةٍ رمزيةٍ سهلةِ القراءةِ باللسان العربي الفصيح، وكانت الكتبُ السابقة بنفس الطريقة، إلا أن الترجمة قد أفسدت نقاءَها، ولكن الأصلَ محفوظٌ، وكذلك تشيرُ الآية الثانية إلى ما تم تنزيله من تصميمات أخرى لتظهر ثم تختفي ليظهر غيرها، ومثلها مورثات الحياة وما يحدث فيها من تبديلٍ، وتغييرٍ، وإصلاحٍ ذاتي، وعجزٍ عن الإصلاحِ، وثباتٍ، راجع في ذلك "علوم الوراثة"[2].

والآياتُ الآتيةُ تبينُ أن كافةَ التفصيلاتِ الدقيقةِ، التي تواجهُ الإنسانَ، إنما هي قد سبقَ تسجيلُها قبلَ حدوثِها، وأن هذا القولَ قد قاله الله -سبحانه وتعالى- لكي لا يشتدُّ بنا الحزنُ على ما فاتَ ولا نفرحُ بما هوَ آتٍ:-

"مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ{22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ{23}" الحديد57

"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{29}" البقرة2

فخَلْقُ جميعِ ما في الأرضِ من بحارٍ ويابسةٍ وأحياءٍ من نباتٍ وحيوانٍ، إنَّمَا تمَّ تصميميا قبل إيجادِه، فما قبل التعبير (ثُمَّ) حدث أولا، وما بعده حدث تاليا، فخلْقُ السماوات التنفيذي وقع بعد تصميمِ كل مقوماتِ وجودِ الأحياءِ والإنسان.

والآيات الآتية تحملُ جميع مبادئ الخلق التي قررها الله:-

"قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ{9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ{10} ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ{11} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ{12}" فصلت41

فكلمة (ثُمَّ) هنا تفصل بين تصميم الأرض للعالمين بما فيها من جبال وأقوات لكلِّ مَن يطلبُ القوتَ، وبين إيجادِ الخلقِ على الواقع التنفيذي، مع أن الله -سبحانه وتعالى- قد ذكر هذا التصميمَ كجزءٍ من عمليةِ الخلق، تماما كما يفعلُ المهندسُ مع تسبيح الله عن التشبيه وتنزيهه عن تمثيله وإنما أردت لفت الانتباه إلى الفعل، فالتخطيطُ جزء لا يتجزأ من البناء.

والقرآن العظيم قد بين في أكثر من موضع هذه التصميمات الهادفة، وتفصيلا لعلاقاتها، وتسلسل التصميم ذاته، فنرى في الآيتين 9-10 فصلت41، السابقتين أن عمليةَ تصميمِ الأرض كانت في مرحلتين، وتصميم إرساءِ الجبال فوقها، وبثِّ البركة فيها، وتقديرِ الأقواتِ كان في أربعةِ مراحل.

ومن ناحية أخرى فإن عدد مراحل عملياتِ التصميمِ لا تمتُّ بصلةِ بعددِ مراحل عملياتِ التنفيذِ، فالمهندسُ المصمِّمُ لمنشأةٍ ما يرسمُ الخرائطُ بعد عملِ حساباتٍ دقيقة على بياناتٍ قد جمعَها من قبل، ثم يضعُ خطةَ توزيعِ العمل، فمراحـل التصميمِ التي نتوقعُ أن يستعملَها المهندسون تكـون:-

1- رصد الهدف من العمل كأن تكون مدرسة مثلا للتعليم الثانوي الصناعي.

2- جمع البيانات كموقع العمل ومساحته والبيئة من حوله.

3- معالجة البيانات كعمل حسابات القواعد والأعمدة والأسقف وكميات المواد الإنشائية وأنواعها.

4- رسم الخرائط وتدوين خطة التنفيذ.

وعند التنفيذ العملي نجد عددا من المراحل الأخرى لا علاقة لها بعدد مراحل التصميم مثل:-

 1- تجهيز عدة العمل من تراخيص ومساعدين وعمال وآلات وخامات.

2- تجهيز موقع العمل من إزالة مخلفات وتنظيف.

3- وضع القواعد والأعمدة والأسقف.

4- بناء الحوائط والتشطيبات.

5- وضع التجهيزات ومستلزمات الدراسة والتدريب والصيانة والأمن.

هذا نموذجٌ بسيطٌ لعمل يقوم به الإنسان، ويتضحُ فيه مراحلُ التصميم ثم يليها مراحلُ أخرى للتنفيذ.

وهكذا فعل الله القدير، مع الفارق العظيم بين إلهٍ خبيرٍ وبين إنسانٍ مخلوقٍ بِيَدِ هذا الإلهِ العظيم.

===

وفي الكتاب المقدس في العهد القديم سفر التكوين الإصحاح الأول جاء نفس المبدأ:-

 مثال الآيات من 9 : 13 "(9)وقَالَ اللهُ لِتَجْتَمِعِ الْمِيَاهُ تَحْتَ السَّمَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلْتَظْهَرِ الْيَابِسَةُ، وكَانَ كَذَلِكَ (10)وَدَعَا اللهُ الْيَابِسَةَ أَرْضًا، وَمُجْتَمَعَُ الْمِيَاهِ دَعَاهُ بِحَارًا، وَرَأَى اللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ (11)وَقَالَ اللهُ لِتُنْبِتِ الْأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلًا يُبْزِرُ بـَِـزْرًا وَشَجَرًا ذَا ثَمَرٍ يَعْمَلُ ثَمَرًا كَجِنْسِهِ بـَِـزْرُهُ فِيهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ كَذَلِكَ (12)فـَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلًا يُبْزِرُ بــــَِـزْرًا كَجِنْسِهِ وَشَجَرًا يَعْمَلُ ثَمَرًا بـــَِـزْرُهُ فِيهِ كَجِنْسِهِ، وَرَأَى اللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ (13)وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَالِثًا".

 نلاحظ: أن التعبير "وقَالَ اللهُ" يأتي بعده خلق التصميم، حيث يأتي خلق التنفيذ بعد التعبير "وكَانَ كَذَلِكَ" أو بعد الفاء مثل "فـَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلًا يُبْزِرُ بــَِـزْرًا كَجِنْسِهِ..".

 

 


[1] لمزيد من التفصيل اقرأ "التعريفات الاشتراطية لتعبيرات القرآن الكريم"

[2] مجلة العلوم الكويتية مجلد14 عدد2,1 ص16 

 

SaidAM

عدم تعريف الألفاظ يربك القارئ

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 234 مشاهدة

سعيدعبدالمعطي حسين عبدالمعطي

SaidAM
مواطن مصري يحب بلده، ويحب العالم كله، له فكر مستقل حر، درس القرآن منذ عام 1967م وحتى الآن، له العديد من المؤلفات والاختراعات الهندسية الالكترونية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

49,133

تعريفات التعبيرات

عندما يكتب معبرٌ ما نصًا؛ ولا يُعَرِّفُ معاني تعبيراتِه يُصبحُ النصُّ كلُّه غامضًا.