authentication required

في عام 1798 ــ منذ 200 سنة على وجه التحديد اصدر الكاهن الانجليزي المثقف توماس مالثوس رسالته الشهيرة بعنوان (مقالة عن مبادىء السكان)

 التي أطلق فيها تحذيراته المتشائمة بأن موارد كوكب الارض سيأتي عليها حين من الدهر تقصر فيه عن تلبية احتياجات سكان كوكبنا وخاصة من الطعام والشراب باعتبار ان السكان يزيدون (يتكاثرون ويتضاعفون) بمتوالية هندسية أو أسية فيما تزيد الموارد بمتوالية عددية ــ حسابية.

 وكم من أزمات التشاؤم وأحيانا السوداوية التي وجهت الى توماس مالثوس من جانب قوى ودوائر شتى وخاصة من جانب علماء وباحثين وسياسيين على أسس ان العلم لا حدود لطموحاته وإنجازاته وانه كفيل بتطوير اساليب الحصول على الغذاء اللازم لتزايد الاجيال من البشر ورغم هذه كله.. فإن الادبيات المطروحة بين ايدينا, وآخرها الدراسات العديدة والمكثفة الصادرة عن معهد (رصد احوال العالم) (وورلد ووتش) تعمد بالذات للاطالة الى نبوءات مالثوس رغم انقضاء قرنين ــ هذا العام ــ على حدودها بل تقول بسبب انقضاء هذه السنوات المائتين,

وبعد ان عادت نذر النبوءة المالثوسية تلوح من جديد, ومن ثم تكتسب تحذيراته بشأن زيادة السكان وتقلص وقصور الموارد, نوعا من مصداقية الواقع وموثوقية العلم على السواء.

 ان تشاؤمية المفكر الانجليزي قادمة الى تصور يقول بأن طوق الانقاذ للبشرية انما يتمثل في وقوع الحروب التي يذهب ضحيتها مئات الآلاف من الشباب (وهم بداهة آباء الاسر في المستقبل) أو في نشوب كوراث المجاعة فواجع سوء التغذية والهلاك بما يؤدي بدوره بحياة عشرات الآلاف. وأحيانا الملايين من البشر وهو عين ما وقع مصداقا لنبوءات مالثوس ولأكثر من مرة في قارات شتى, مجاعات شبه القارة الهندية, أو الصين أو الشام (في العهد العثماني) أو ايرلندا (مجاعة البطاطس) أو اثيوبيا في العهد الامبراطوري البائد. على ان هذا الفكر الذي يجمع بين شعبتي الموارد والسكان جعل مالثوس يركز تصوراته للحلول على جهود تبذلها الشعوب وربما تحمل على بذلها وخاصة في مجال تحجيم الكتلة السكانية سواء بتأخير سن الزواج أو بالاحجام كلية عن مشروع الزواج وتكوين عائلات (وهو بداهة مخالف لسنن الطبيعة وقوانين العمران).

 أحوال لا تسر ورغم كل الانتقادات الموجهة الى هذا الفكر المالثوسي الا ان احوال كوكبنا الراهنة باتت لا تسر احدا, خاصة وان الكوكب مشارف على دخول قرن جديد ينطوي ولاشك على تحديات غير مسبوقة من حيث النوعية او الحجم أو درجة الشدة او الكثافة. المجاعة مثلا, لم تعد مقصورة ــ كما درجت الاحوال في الماضي ــ على الانحصار في بلد بعينه (اثيوبيا مثلا) أو حتى في اقليم جغرافي بذاته (شبه القارة الهندية مثلا) وبالتالي فلم تعد مقصورة على اجيال زمنية ترصد لها بداية ونهاية وبعدها تنجلي الغمرات.. كأن ينتهي مثلا ظاهرة أو كارثة مونسون العاصفة المغرقة التي وقعت في الهند أو حتى فاجعة قحط تفاقمت وطأتها بفعل تقصير حكومة طاغية وحكم متخلف مستبد يتولى مقاليد اثيوبيا في عهد امبراطورها السابق.

 لقد اصبحت المجاعات مثل وحش خرافي تتداوله الاساطير.. كائن لا عمر له ولا نهاية لأجله.. يظهر ويختفي.. ولا يعرف له مكان, ولقد يتخذ لنفسه سكنا من تلافيف الحياة الاجتماعية في احياء الشقاء بالعواصم أو في مدن الصفيح أو مساكن العشش او من قاطني القوارب الآسيوية او الاكواخ الافريقية أو سكان الجبانات في هذه الحاضرة أو تلك, ناهيك عن سكان اللاشيء المشردين بغير مكان, اللهم الا أرصفة الشوارع الخلفية أو زوايا محطات الركاب العمومية في كبريات عواصم الدنيا أو تحت هياكل الجسور أو في الشقوق المهجورة في الاحياء العتيقة التي لم يعد يأبه بها احد. المجاعة الاقتصادية زمان.. كانت المجاعات ترجع في اسبابها مثلا الى قصور المحاصيل وخيبة الحصاد.. ولكن علماء الاقتصاد ومعهم الاختصاصيون في قضايا الصحة والديمقراطية (علم السكان) باتوا يطرحون ويستخدمون معايير مقننة للحكم على المجاعات المتفشية.. درجتها ومداها.. قسوتها واستشراؤها.. ومن ثم اصطنعوا تعاريف من قبيل تدني الدخول المادية.. او حزام الفقر او مظلة الامان الاجتماعي ــ الاقتصادي وكلها تمس الفئات التي اصبحت مهمشة ــ حتى لا نقول منبوذة مستبعدة ومحرومة في مجتمعات اليوم فوق كوكبنا في بلدان الثراء والفقر على السواء. حيث تهبط القوة الشرائية للفرد ــ الانسان الى مادون القدرة على شراء احتياجاته الاساسية وخاصة من الاغذية بما ينجم عن ذلك من عواقب وخيمة فادحة ومزمنة ايضا بالنسبة لأجيال الاطفال في ان منظمة الصحة العالمية تقدر في احدى تقاريرها المنشورة (جنيف, 1998) ان هناك ما يصل الى 19 الف طفل يموتون يوميا من جراء الجوع وسوء التغذية وأخطر ما في الامر ان هاتين الآفتين ــ الجوع وسوء التغذية تؤديان ــ كما هو معروف ــ الى ضعف وأحيانا الى تداعي وانهيار جهاز المناعة الطبيعي الذي أودعه الخالق تبارك وتعالى في الجسم البشري ومن ثم تكون الاصابة بأفدح الامراض وعلى رأسها للاسف وباء الايدز وتعريفه كما تقول ادبيات الامم المتحدة بصفة بانه (متوالية نقص المناعة المكتسب) . في ضوء هذه الحقائق, وكثيرها ذائع ومعرف, ينشغل معهد (وورلد ووتش) الذي ألمحنا اليه بقضية السكان فوق كوكب الارض, وهو بالطبع لا يقف في بلد بعينه, ولا يطل على هذه القضية من منظور حجم السكان الاكبر او الاصغر, ذلك لأن اتجاه العولمة المتصاعد شئنا أم أبينا أصبح يكرس ويعمق مدى التكافل أو فلنقل الترابط بين المشاكل والازمات على صعيد شعوب العالم وأممه ومن ثم يكون التكافل والترابط من حيث المخارج والحلول.

 ثم ان احدث مقولات أوطروحات الديموغرافيا لا تقول بأهمية الحجم الاكبر للسكان في قطر ما ولا ضرورات الحجم الاصغر, انها تؤكد على هدف واحد هو: الحجم.. الامثل للسكان. ورب بلد يحتاج الى ترشيد تزايد البشر وصولا الى نوع معقول من التوازن بينهم وبين المواد التي اليها يحتاجون. ورب بلد آخر يتطلب في التوازن المنشود حجما أكبر من السكان الموجودين وصولا الى حجم (الكتلة الحرجة) التي تكفل للسكان المعيشة وللحضارة والثقافة اسباب الاستمرار وإمكانات الكسب وعوامل الازدهار. لا سبيل للعزلة وليس لأي بلد في عالمنا, أو فوق كوكبنا الذي تقلصت وأحيانا اختفت فيه المسافات بين الدول والاقوام ــ ان يتصور نفسه معزولا عن تيارات السلب أو الايجاب التي تجتاح العالم أو الكواكب ولا بمنأى عنها في كل حال لقد بلغ الصراع والنزاع بين البشر حدودا أكثر من دموية ــ وأحيانا أكثر من وحشية حتى ليكاد المرء ان مثل هذه الصراعات تدور في كوكب آخر في مجموعة الشمس أو في غيرها تأمل مثلا أفاعيل (التطهير العرقي) في البلقان.. واستعد الى الذاكرة أحداث الابادة الجماعية (جينوسايد) في معسكري صبرا وشاتيلا بحق المدنيين الفلسطينيين واقرأ ان استطعت وتحملت اعصابك محاضر لجان التحقيق الدولية حول مذابح رواندا ـ بورندي حيث الانسان ــ الكائن البشري قاتلا أو مقتولا.. حيث الصراع في صميمه على شبر ــ مجرد شبر من الارض ضاقت بسكانها الذين يتكاثرون ولا موارد.

 العالم = 6 مليارات انسان يتضح حجم المشكلة السكانية الكوكبية كما قد نصفها حين نعلم ــ من واقع احصاءات الامم المتحدة ــ وهي احصاءات واسقاطات (تنبؤات) موثوقة ومعتمدة دوليا, ان سكان عالمنا وعددهم يبلغ 6,1 مليارات عام 2000 الوشيك الحلول سوف يصلون في مدى نصف قرن (2050) بمشيئة الله الى 9,4 مليارات انسان بزيادة 3,3 مليارات نسمة. على ان الدارسين للمشكلة السكانية العالمية يحومون حول رقم وسط هو عشرة بلايين نسمة يبلغها سكان كوبنا في عام 2050 للميلاد كيما يؤكدوا على مدى خطورة الضغوط التي من شأن هذا العدد البالغ الفخامة ان يمارسها على البيئة والموارد الطبيعية لكوكب الارض ولكي يهتفوا في آذان صانعي القرارات والسياسات بصحة تحذير لا تقصد الى الترويع أو بث روح التشاؤم, بل تقصد اساسا الى التنبيه بأن الامر لم يعد يصلح معه الامعان في اتباع السياسات الراهنة او مجرد تحويل المشكلة أو (ترحيلها) كما يقول المحاسبون لكي تقع بالتأجيل على عاتق اجيال لا تزال في ضمير الغائب.

 ولقد يقول قائل وهو مسلح بأرقام وإحصاءات: ــ ولو: ان الزيادة المتوقعة في سكان العالم بين عامي 2000 و2050 تكاد تساوي الزيادة التي ستكون قد تحققت فعلا بين عامي 1950 و2000, ولكن بين نصف هذا القرن العشرين وعند منتهاه الوشيك اصبح حال البشرية افضل ويرجع ذلك الى اكتشاف المزيد من الموارد وإلى تحقيق معدلات مرموقة من النمو في البلدان الصناعية والاقطار النامية على السواء. أفلا نطمئن والحالة هذه الى ان البشرية ستواصل ابداعاتها ان لم نقل تواصل فتوحاتها في مجالات العلم وميادين التكنولوجيا ومن ثم تتوصل الى مزيد من الموارد والامكانات الكفيلة بتلبية احتياجات الزيادة المتوقعة في البشر؟ مع ذلك فعلينا ان نعترف ان البشرية باتت امام حقائق ينبغي وضعها في الحسبان وفي مقدمتها حقيقة ان هناك من مواردنا الكوكبية ما أصبح معرضا للضغط ان لم يكن للتناقص والذبول ناهيك عن النضوب والنفاد. لقد زادت عمليات صيد الاسماك من محيطات العالم خمسة اضعاف خلال النصف الذي مضى من هذا القرن فيما تضاعف نصيب العرض المتاح للفرد الواحد من سكان الكوكب من تلك الثروة السمكية لدرجة ان كبار الاختصاصيين في البيولوجيا البحرية باتوا يتصورون ــ كما تقول دراسات معهد (وورلد ووتش) ــ ان البشرية قد أوشكت على الاصطدام مع (حائط المتاح) من الثروات السمكية في البحار والمحيطات التي لم يكن بوسعها في رأيهم (وما لم تتداركهم وتتداركها رحمة خالقها) ان تتحمل المزيد من استغلالها لأغراض محاصيل الصيد, ومن ثم فالحسبة تقول ان من يولدون اليوم من المرجح ان يشهدوا نصيب الفرد من الثروة السمكية وقد انخفض بمقدار النصف خلال الاجل المكتوب لهم في الحياة.

 الدقة والحاسوب وإذا كان صاحبنا توماس مالثوس قد استخدم معارفه العامة وفكره المتعمق ليحسب العلاقة السلبية في معادلة تزايد تكاثر السكان وزيادة الموارد, فها نحن اولا نمتلك من المعلومات المجموعة والموثوقة, ومعها أحدث تقنيات الحاسوب الالكتروني كي نحسب, بقدر اوفر وأدق من الثقة العلمية نفس العلاقة بين حجم السكان وبين (قدرة الحمل) للطبيعة ومواردها وإمكاناتها فوق كوكب الارض. وفي هذا المجال تقول ايضا دراسات معهد (وورلد ووتش) : ــ لقد أصبحنا نعرف ماذا سيكون حجم المساحات المزروعة بمحاصيل الحبوب بوصفها اساس الاغذية اللازمة للبشر (ولحيواناتهم). ونعرف أيضا ــ من واقع البيانات الهيدرولوجية ــ ما هي الكميات التي ستكون متاحة من المياه لكل بلد مع حلول عام 2050 مع افتراض عدم حدوث تغيرات جذرية في المناخ. آخر محطات التقدم من ناحية اخرى يقول البروفيسور توماس سنكلير وهو من كبار خبراء النبات في وزارة الزراعة الامريكية ان أوجه التقدم التي أحرزها علم فسيولوجيا النبات اصبحت تكفل للعلماء وراسمي السياسات ان يحددوا بدقة كمية, غلات المحاصيل. بعد ذلك يصدر الخبير الامريكي حكمه فيما يتعلق باحتمالات المستقبل فيقول: ــ

 باستثناء قلة من الخيارات التي تتيح لنا زيادات طفيفة في المحاصيل, فإن الحدود الفعلية لزيادة الغلات ربما تكون تحد بلوغها بعد ان وصل العالم الى درجة غير مسبوقة في التاريخ من حيث زيادة انتاجية الارض حيث لم يعد ثمة زيادة لمستزيد, حتى ان عام 1990 جاء ليشهد بطئا دراماتيكيا مشهودا في غلة المحاصيل على مستوى العالم بأسره, وحتى في الاقطار المتقدمة زراعيا, كادت الانتاجية تصل الى هضبة لا تحقق فيها زيادة او نقصانا بل هي اميل الى الثبات والاستقرار. والثبات أو الاستقرار عنصر مهم ومطلوب اللهم الا في حالة المجتمع الذي يزيد نسبة سكانه باطراد ويشكلون بذلك ضغوطا أعمق ومتطلبات أكثر وتحديات اكثر شراسة بالنسبة للموارد المتاحة. ثم ان المزارعين على صعيد العالم اجمع, يواجهون مشكلة اخرى محتومة أو شبه محتومة الوقوع وهي: تقلص وانكماش مساحات الاراضي الزراعية.. ومهما أصدرت الحكومات من قوانين أو مراسيم بغية الحفاظ على مساحات الاراضي المزروعة (مصر مثلا أصدرت في هذا المضمار مرسوما من جانب رئيس الوزراء بوصفه الحاكم العسكري الذي يستمد سلطته من قوانين الطوارىء). ــ مهما فعلت الحكومات ذلك, فلا مناص من وقوع الخطر بصورة أو بأخرى بفعل ظواهر التحول الحضري واتساع رقعة المدن على حساب الارياف, وبفعل ظاهرة الهجرة الى الحضر وتنامي الاحياء العشوائية التي يعيش عليها المهاجرون الريفيون وقد اقتطفوها في غفلة الرقابة من مساحات الزراعة.. ناهيك عن انكماش كميات المياه اللازمة للري بفعل الجفاف أو ارتفاع درجات الحرارة أو سوء ادارة المياه.

 والعلماء والمفكرون لا يريدون ان تتحول تحذيراتهم الى صواعق النذير التي تثير في جنبات العالم جوا من القتامة أو الكآبة او التشاؤم انهم فقط يريدون ان: .. ينبهوا الناس ــ حكاما ومحكومين الى حقيقة ما يجري من حولهم كي يكونوا على بينة من الامر باعتبار ان الوعي بالمشكلة اول خطوات حلها ــ ويحاولون رسم طريق هذا الحل: وأنجح الطرق هو ما يمكن ان يخضع لسيطرة البشر.. وهنا يركزون على المشكلة السكانية. فالناس لا يستطيعون ان يوقفوا هبوب العاصفة ولا ان يحننوا قلب الغلاف الجوي كي تخف حرارته ولا يأمروا الانهار كي تفيض مياهها وينحسر الفيضان. لكن الناس ــ البشر يستطيعون ان يخططوا واقعهم السكاني.. وذلك أضعف الايمان.

اعداد : عبير ابراهيم

المصدر: مؤسسة دبي للإعلام

ساحة النقاش

Publishing
المهندسة/ عبير إبراهيم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

653,415