كيف تتكون عادة الخلق؟ وما هي مكونات تلك العادة؟ وما الأسباب والعوامل التي تساعد على تكوينها؟ وما أهميتها وأثرها في سلوك الإنسان؟
والجواب:
1) يمكن أولا تعريف العادة: بأنها (حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية) أو أنـها (حالة أو صفة نفسية تظهر في القلب ويفيض أثرها على الجوارح ويصدر عنها أعمال بدون تكلف أو روية أو فكر، وتبدأ بتكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير بلا تكلف انتهاء)، ويوضح المرحوم الأستاذ الدكتور عبد المقصود عبد الغني- أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية بدار العلوم- معنى هذين التعريفين بعد أن ينقلهما عن مسكويه والغزالي، بأنـهما يشيران إلى أن العادة تـمر في تكوينها بـمرحلتين: مرحلة تكلف الأفعال- ومرحلة ثباتـها ورسوخها في النفس بحيث تصبح حالة دافعة لأداء سلوك ما دون معاناة أو مشقة.
2) أما عن تكوين العادة: فإننا لكي نتصور كيف تتكون عادة الخلق في الإنسان بحيث تصبح هيئة راسخة في النفس، لا بد- فيما يراه المرحوم الأستاذ الدكتور محمد ضياء الدين الكردي أستاذ ورئيس قسم العقيدة الإسلامية والفلسفة بالأزهر الشريف- أن نقف على مراتب الفعل الإنساني، والذي يبدأ بالخاطر، فالميل، فالرغبة، فالإرادة، فالعادة.
3) فالخاطر ما يَرِدُ على القلب أولا في لـمحة خاطفة، فإذا استقرَّ بـمدافعة ما يـمانعه وتقوية ما يساعده يصبح ميلا، فإذا سعى به الإنسان لـمتطلباته، مُدرِكًا ما يصل إليه من لذةٍ وألم وغاية وتصبح نفسه بـهذا الـميل متوجهة لما تصورته، وأدركت الغاية منه- والغايات تختلف باختلاف الناس كالغنى والجاه ورضا الله... إلخ- وتَغلُّب ميل من هذه الميول على غيره يجعل ذلك الميل رغبة يعمل الإنسان على تحقيقها، فطالب المال مثلا يسعى وراء الكسب ويخطط له، وطالب الجاه يسعى إلى ما يُظهِرُ نفسه، وطالب الله يـميل إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، وهكذا، إلا أنه لا تحقق غاية الإنسان في الشيء بمجرد الرغبة فيه، بل لا بد من العمل على إزالة الشواغل والعوائق التي تمنع من تحقيق الرغبة والأخذ بالأسباب التي تحققه، فإذا قامت النفس بـهذا العمل تكون قد انتقلت من مرحلة الرغبة إلى مرحلة الإرادة، فإذا تكرر هذا العمل من الإنسان حتى أصبح عادة له وصار يصدر عنه بلا روية ولا تفكير، قلنا: إنه أصبح خُلقًا له، وصحَّ تعريف الذين قالوا: إن الخلق عادة الإرادة.
4) وهذا التحليل السابق هو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما الحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم» [أخرجه الطبراني في الأوسط، ح 2663 عن أبي الدرداء]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الخير عادة» [ابن ماجه ح 221، وصححه ابن حبان ح 310 عن معاوية].
5) هذا هو الخلق في تطوره من مرحلة الخاطر حتى يصبح عادة، والسؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن: ما هي مكونات تلك العادة؟
6) وأول مكونات العادة الخلقية هو: الفطرة الإنسانية ، وهي من منظور الفكر الإسلامي فيها الميل إلى الخير بفطرته الروحية، وفيها أيضا الميل إلى الشر بـما فيه من طبيعته المادية وما رُكِّب فيه من شهوة وغضب وميول ورغبات مادية، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، وقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]، فالله تعالى يَسَّرَ للإنسان سبيل الخير والشر، غير أن الروح جعلها الله تعالى الأصل وأعطاها السيطرة على المادة لو عمل الإنسان على تقويتها، هذا هو المنظور الإسلامي، بينما ذهب اتجاه من الفلاسفة في نظرة متفائلة إلى الإنسان إلى أنه خُلِقَ خَيِّرٌ بطبعه، وذهب اتجاه آخر في نظرتـهم المتشائمة إلى أن الإنسان خُلِقَ بطبعه شريرًا، والحقيقة أن هذين الاتجاهين خطأ وخطر على الأخلاق، فإن المذهب المتفائل الذي لا يرى في طبيعة الإنسان إلا خيرًا كيف يحاول تعديلها، إنه الخير فماذا يريد بعد ذلك. وأما المذاهب المتشائمة فإنـها تقف بالإنسان في مرحلة أحط من مرحلة البهائم لأنها ترى أنه الشر بعينه، ولا يمكن تـهذيبه، وبين هذين الموقفين يأتي الفكر الإسلامي بوسطيته، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} [الروم:30].
7) ومن مكونات العادة الخلقية: الوراثة، وقد نبهنا صلى الله عليه وسلم على أهميتها فقال: « الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» [أخرجه البخاري ح 3203 عن أبى هريرة]، وقد توسع كثير من الباحثين المحدثين الغربيين في الكلام عن أهمية هذا العامل، وبعضهم- مثل أوجست كونت، واسبنسر، وشوبنهور- أعطاها أهمية مطلقة، وذهبوا إلى أن الصفات الوراثية هي كل شيء في الإنسان ، والواقع أن إعطاء الوراثة هذه الأهمية المطلقة في تكوين العادة الخلقية هو نوع من الإفراط والغلو، ولا شك في أهمية بقية المكونات كالفطرة الإنسانية والبيئة، والصواب: أن نثبت الوراثة كأحد مكونات العادة الخلقية، من غير تجاوز للحد، ولنستفد منها في أنحاء الحياة المختلفة، دون أن نغض من شأن الصفات المكتسبة.
8) ومن مكونات العادة الخلقية: البيئة: سواء البيئة الطبيعية التي تؤثر في الإنسان ومزاجه تأثيرًا قويًّا، فعوامل المناخ مثلا لها أثرها الواضح على طبيعة سكان المناطق الباردة والمناطق الحارة مثلا، أو البيئة الاجتماعية من الأسرة والمدرسة، وقد أعطى كثير من الباحثين المعاصرين الغربيين- مثل لوك، واستيوارت مل، وديلاج، وواطسون- أثر البيئة أهمية مطلقة ليكونوا اتجاهًا مقابلا للقائلين بأهمية الوراثة.
9) وهناك العديد من الأسباب أو العوامل- كما يقول أ/د عبد المقصود عبد الغني- تساعد على تكوين العادة: منها: وجود الحوافز أو الـميول التي تعتبر البيئة التي تنمو وتترعرع فيها العادة، فالنفس قد تستلذ الباطلَ بسبب العادات التي اعتادتها، فتميل إلى هذا الباطل والقبائح المعتادة، مع أن ميلها إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع، ومن هنا فلا بد أن من أن يعتاد الإنسان الحق والخير حتى يصير له عادة، وإذا كان الميل إليه ضعيفًا وجب إثارة الوجدان وإنشاء الرغبة في العمل بـهما والتعود عليهما.
10) ومن عوامل تكوين العادة: التكرار، وهو عنصر أساسي في بناء العادة، لأنه يساعد على اكتساب الدقة، والوصول إلى السهولة والسرعة، وصدور الفعل بشكل آلي من غير فكر ولا روية، فمن أراد أن يحصل لنفسه صفة التواضع فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة، ومن أراد أن يحصل صفة الصبر فإنه يتكلف في البداية الصبر حتى يصير له سجية، وينبغي أن يكون التكرار مُقترنًا مع تقارب الزمان، وأن يكون ذلك لـمدة من الزمن كافية حتى ترسخ العادة وتستقر، فلا تنال العادة بتكرار يوم، والعبادة مثلا لا تكتسب بتكرار ليلة. وهذا لا يعني الاستهانة بالقليل من العمل، وخاصة من الناحية السلبية، بـمعنى أنه لا يستهان بترك الصلاة مثلا مرة أو مرتين؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى أن تأنس النفس الكسل.
11) ومن عوامل تكوين العادة: التقليد، بمعنى اتخاذ القدوة الحسنة، فالعادة تكتسب بـمشاهدة أصحاب الأفعال الجميلة ومصاحبتهم، وتقليدهم، إذ الطبع من الطبع يسرق، ومن هنا يوصي العلماء دائمًا بأن يصحب الإنسان الأخيار والصالحين وذوى الآداب والأخلاق الكريـمة حتى يكتسب منهم ذلك.
12) وأخيرًا فإن للعادة الخلقية آثار عديدة على السلوك: فهي أولا تساعد على تكامل الشخصية، وذلك بتكوين مجموعة من العادات الحسنة كالمحبة والوفاء والرحمة والتسامح والعدل والتفكير السديد... إلخ، فإذا تحولت مثل هذه الأخلاق الفاضلة إلى عادة في الإنسان يصعب عليه مخالفتها فقد اكتملت شخصيته.
13) ومن آثارها: أنـها توفر على الإنسان قسطًا كبيرًا من الجهد البشري، فالإنسان الذي كوَّن عادات خلقية جيدة يؤدي سلوكَه القويمَ الذي اعتاده بسهولة ويسر وبلا تكلف ولا ترو ولا تفكير، وبـهذا يخف عليه ما كان مستثقلا من الخير، ويستغل جهده في مجالات أو أعمال أخرى.
14) ومن آثارها: أنـها تحقق للعمل السرعة والدقة؛ لأنـها تتم بشكل آلي لا شعور فيه، ولهذا عرف بعضهم العادة بأنـها نقل العمل من الشعور إلى اللاشعور.
15) ولا ريب أن هذا كله يوضح لنا أثر العادة فى حياتنا وسلوكنا، ويكشف عما لها من فوائد تتصل بالسلوك والأخلاق، وخاصة إذا كانت عادات حسنة، ومن ثم ينبغي أن نحرص على تـهذيب العادات واكتساب الحسن منها، ذلك لما لها من تأثير قوي على الإنسان، ولهذا يقولون: (العادة طبيعة ثانية).
ساحة النقاش