<!--
<!--<!--
بسم الله الرحمن الرحيم
( قصــــــــــــــــة قصيــــــــــــرة )
الطعنِــــــــــــــــــــــــــة مـــــــــــــــن الخــــــــــــــــلف !!
تلك إطلالة هيبة وهيمنة لجبل يجيد الرقابة .. جبل يطل على مدينة ( كسلا ) السودانية .. ذالك الجبل الشامخ الذي يمتطي صهوة العلياء في الفضاء .. والذي يتفقد الوجوه دوماً بإمعان شديد .. ونظراته هي تلك الحادة التي تفرض الخضوع والإذعان .. كما تفرض الهيبة والوقار في أنفس الدخلاء .. وكم يطيب التواجد في أكناف ذلك الجبل الذي ينتزع الهيبة والاحترام .. حيث التواجد في حضرة الكبراء .. تواجد يلزم طقوس الصمت والاحترام .. وأينما يتواجد المرء في مدينة كسلا فإنه لا يغيب لحظةً عن نظرات ذلك الجبل ( جبل التاكا ) .. ذلك الجبل العملاق المهيمن .. ومواطن المدينة يعرف جيداً أنه دائماً تحت رقابة تلك الأعين الثاقبة .. ولكن نفوس الناس قد تتحدث أحياناً بما لا تليق بأروقة المحاسن .. وقد لا تخلو من وساوس الشيطان .. وتلك شائبة تمثل عيباَ في فطرة الإنسان في كل زمان ومكان .. وهي شائبة واكبت مسار البشرية منذ أغوار العصور والأزمان .. وكم هي تلك الشائبة التي فرضت على الناس أن يجتازوا المحن في قاعات الامتحان والابتلاء !! .. والمتواجد في حضرة كسلا لا تخلو نفسه من تبعات ذلك الخوف والوجل .. ولا سيما في حضرة الكبار والأشراف .. وهي تلك القشعريرة التي تغمر الوجدان والأبدان .. حيث الخطوات الحذرة عند كل صغيرة وكبيرة .. وأية خطوة خاطئة قد تجذب نظرات التاكا الغاضبة .. تلك النظرات الثاقبة الحادة التي تلزم الحياء والاستحياء .. نظرات تفرض على الناس نوعا من التأدب والوقار .. ولذلك كان الحذر مطلوباً متى ما يتواجد المرء بالجوار .. ولكن دائما للإنسان عثرات وهفوات .. وبلاد الأرض قد لا تخلو من جريرة الأشرار .. تلك السنة في شريعة الشيطان .. حيث الأنفس التي قد تتخطى حدود الفضائل والمحاسن .. كما قد تتخطى قداسة الأمكنة والمعتقدات .. وكما قال الحكيم ذات مرة أن في مكة قد يتواجد من لا يقتدي بالحلال .. وتلك حقيقة يواجهها البشرية منذ أقدم العصور .. حقيقة لم تجعل الحياة تتوقف حائرة في مدارها .. بل تدور في مشوارها رغم تبعات المحاسن والعيوب .. لا تعيقها جريرة الخاطئين ولا تعطلها أفعال الماكرين .. وعندها يتجلى دور المناخل .. حيث إسقاط السواقط وإبقاء الفضائل .. ولا تلام الأمكنة والأزمنة بجريرة الجائرين .. كما أن المدائن في الأرض تمثل ساحة الصالحين كما تمثل ساحة الطالحين .. ومدينة كسلا لم تخرج عن تلك القاعدة .. حيث جولات الراحلين للأعماق .. وحيث جولات القادمين من خلف الحدود .
حافلة أوردت مجموعة من البشر .. وقد أوفت بكل شروط الوفاء .. حيث أوردت الرجال والنساء .. كما أوردت الكبار والصغار .. وتلك زمرة من الفتيات في ريعان الصبا والنضار .. أعمارهن في نهايات الأعشار .. كأنهن الياقوت والمرجان .. صادحات حين تردن الإفصاح .. رائعات حين ترتد أطرافهن بالحياء .. ملفتات للأنظار .. جاذبات للأنفس حتى ولو كانت تلك الأنفس في قمة التقى والعفاف .. وقد اشتهرت تلك المحطة للناقلات في جلب الغرباء من خارج الحدود .. كما اشتهرت في ترحيل الدخلاء لأعماق البلاد .. ظاهرة مضت عليها السنوات حتى تعودت عليها الأهالي في تلك المناطق .. وهي ظاهرة مستوردة في طيها الكثير من مخاطر العادات التي تتناقض مع عادات البيئة .. حيث التمرد على الأخلاق في بعض الأحيان .. وحيث توفر سانحة الفتيات اليافعات بأعمار الأزهار .. وقد تناولت الأقلام كثيرا مخاطر تلك الظاهرة التي تمثل الإغراء لبعض النفوس .. ولكن اللوم والعتاب يقع أولا وأخيرا على ذوي تلك الفتيات .. حيث الأهالي الذين يفرطون في تلك الكنوز الثمينة .. وهي كنوز تمثل أروع مكنونات الخدور .. فكيف يسمحون للصغار اليافعات بالسفر والاغتراب دون ولي مرافق أو حريص مدافع أو وكيل مؤتمن ؟؟ .. كما يلام هؤلاء الأهالي الذين يتهاونون ويتسببون في مشاعل الشهوات .. وحيث لا يبالون بنزعات النفوس في البشر .. وتلك شائبة تشين نواياهم البريئة .. تلك النوايا التي ترى أن الأرض هي موطن الأنبياء دون السفهاء .. ولو علموا فإن الأرض تنوء دائماً بجنود الشياطين كما تنوء بجنود الفاسقين .. ومثل تلك الواقعة حين تجري بتلك الشاكلة تثير النوازع في أنفس الأشرار .. حيث الظباء الطليقة التي تغري الطامعين من صيادي البشر .
وهنا يأتي دور فاطمة ( اليافعة ) لتحكي قصتها للعالمين .. كانت فاطمة ضمن الزمرة التي جاءت بالحافلة في ذلك اليوم .. ولأول مرة تواجدت في أرض غير أرضها .. وفي موطن غير موطنها .. وقد أذهلها تباين الملامح في وجوه البشر .. حيث التشكيل المتناقض في ألوان الأديم .. أسمر منقى وفاتح مقبول وأسود عقيم .. تلك الأوصاف التي لم ترد في خاطرها في يوم من الأيام .. ثم كانت توجساتها الكبيرة التي تجسدت في مصيرها المجهول .. حيث المستقبل المبهم المؤمل في بلاد الآخرين .. كما كان يجيش في خاطرها ألف سؤال وسؤال .. كيف سيكون المصير والمآل ؟؟ .. وإلى أين سوف ترسو سفينتها في نهاية المطاف ؟؟ .. وقد أصبحت الآن في كفة المجهول .؟؟.. تلك الوساوس التي لازمت خاطرها لساعات .. وهي كانت لا تملك إلا القليل من المعلومات عن طيبة أهل تلك الديار .. وبالرغم من ذلك فإن تلك المعلومات قد لا تجدي نفعاً عند الشدائد والمحن .. وقد يصدق حدسها لأن طبائع البشر قد لا تعرف الالتزام بالأمكنة والأزمنة .. ولأن مجرد الشائعات قد تكونه مضللة في أكثر الأحيان .. وهي في وساوسها تلك فجأة تقدم نحوها شاب من شباب المدينة .. ثم أبدى لها الإعجاب .. وأجتهد كثيرا ليكون متواضعا بقدر الإمكان .. ثم قال لها : ( أنا أسمي خالد وأنا من مواطني هذا الوطن المضياف ) .. ترددت فاطمة قليلاَ في بداية الحوار .. ولكنها تراجعت رغم حيرتها وذهولها .. وقد وجدت نوعا من الثقة والطمأنينة في لهجة ذلك الشاب المتطفل .. وخاصة وأن لهجة الشاب بدأت عادية غير عصية عليها .. وهي التي تعودت أن تستخدم تلك اللهجة في بلاد أهلها بجانب لغتها الأصلية .. وتلك الخطوة في بداية الأمر كانت تبشر بالِأمن والطمأنينة .. غير أنها كانت غير كافية في إزالة جدران الحيطة والحذر .. وبعد لحظات من الحوار الحذر مع الشاب الجديد ألتفتت لتنظر رفيقاتها .. فوجدت أن كل واحدة منهن قد انشغلت بالحوار مع شاب من شباب البلدة الجديدة .. وتلك كانت صورة نمطية فرضت واقعا جديداً لا يقبل الجدال .. حيث لا بد من مجاراة الأحداث بالقدر الذي يعمق الاستقرار .. وبالقدر الذي يخلق نوعا من الوفاق .. وعند ذلك اجتهد خالد كثيرا حتى نال رضاها أخيراَ .. فأبدت له علامات الرضا والتسامح .. وسايرته في مشاوير الحديث .. مما رفع الكلفة البينية بقدر كبير .. ولكن كان خالد يضمر في نفسه الكثير .. وكان يدرك جيدا أن فاطمة لا تملك الكثير من الخيارات والحيلة .. وأنها تعد غنيمة سهلة المنال .. وتلك فاجعة لم ترد في حسبانها .. وقد زعم لها بأنه من أبناء الأعيان في تلك المدينة .. ثم زعم أن عائلته المرموقة في حاجة ملحة لمربية أطفال .. مما أسعدها كثيرا .. فصدقت مزاعمه في الحال .. ثم وافقت أن تذهب معه لتسد تلك الوظيفة المقدسة الشريفة .. وعند ذلك استأجر خالد سيارة أجرة ثم ذهب بها في مشوار لمنطقة تسمى السواقي .. وبعد ساعة من الوقت وصلت السيارة إلى منطقة تعج بمزارع الموز والموالح والخضروات .. وهنالك مساحات شاسعة من البساتين والجنائن المخضرة المترامية الأطراف .. ثم توقفت سيارة الأجرة عند المنحى الأخير لتلك البساتين التي تتعمق أطرافها في عمق الصحراء .. فنزل خالد وفاطمة من السيارة .. ثم دفع خالد أجرة السيارة للسائق .. وعندها ابتعدت سيارة الأجرة مسرعة لتختفي عن الأنظار .. وبعد ذلك أخذ خالد بيد فاطمة ودخل بها في حديقة من الحدائق المجهولة .. وحينها تفقدت فاطمة ببصرها أرجاء الحديقة .. فإذا بها حديقة تخلو من البشر .. وتخلو من علامات العمران والبنيان إلا من عشة حقيرة صغيرة متواضعة .. تلك العشة التي لا تليق بالأثرياء والأعيان .. فأدركت فاطمة أنها قد أخطأت الطريق والصواب .. وأنها قد وقعت في الفخ والمكيدة .. فغمرت جوفها قشعريرة الخوف والوجل .. ثم لم يبخل خالد أن يكاشفها بالحقيقة المريرة .. وأن يكشف لها جوهر النوايا .. فوجدت فاطمة نفسها أمام واقع مرير مرغمة مجبرة .. وتحت إلحاح الظروف طلبت من خالد أن يملكها بالحلال ولا يدنسها .. وأن أهلها في موطنها لا يمانعون ذلك النهج بالحلال .. ولكن كان خالد يدرك خطورة التبعات .. ولذلك ظل يراوغها ويصر على مواصلة الخطيئة .. نظرت فاطمة حولها فلم تجد منفذا ينقذها .. بل هي تلك الشروط والقيود المجحفة القاسية .. وهي تلك الضعيفة التي تجهل الاتجاهات وتجهل أسرار تلك الديار وأهلها .. والأعجب في الأمر أن خالد رغم توسلاتها المتكررة كان يريدها في مشوار الخطيئة لأطول وقت ممكن !! .. وأخيرا وجدت نفسها تجاري رغبات خالد حتى لا تفقد حياتها .. وكانت تخطط بذلك أن تهرب عند أول سانحة تتاح لها .. ثم جرت الأيام وهي تبدي نوعا من الوفاق والرضا نحو خالد .. فأطمئن الأخير لذلك .. وفي يوم من الأيام غادر خالد المزرعة في مشوار قصير .. وعندها كانت السانحة الكبيرة لفاطمة أن تهرب من السجن الكبير .. هربت ثم بدأت تطرق أبواب البساتين والحدائق المجاورة .. حتى وجدت أخيرا أسرة من المزارعين في حديقة من الحدائق .. تلك الأسرة الكريمة التي قامت بواجب الحماية وإبلاغ السلطات بالأمر .. فقامت السلطات بتولي قضية فاطمة .. وتمكنت من القبض على خالد والحكم عليه بالسجن لسنوات .. ثم بذلت العناية الفائقة لفاطمة .. حيث وفرت لها العلاجات البدنية والنفسية اللازمة .. وبعد تلك الواقعة المريرة أصرت فاطمة أن تعود لأهلها ولديارها .. ولكن لم تنتهي قصة فاطمة عند ذلك الحد .. بل جرت المفاجأة الكبرى عندما كانت فاطمة في ديارها ذات يوم .. فلمحت ذلك الخالد في أسواق بلدها .. ودون أن يراها خالد بدأت فاطمة في مراقبته ومتابعة خطواته وحركاته وسكناته .. ثم بدأت تبحث عن سيرة خالد في مدينة أهلها .. وعند ذلك اكتشفت فاطمة حقائق مثيرة للغاية عن خالد .. حيث أتضح أن ذلك الخالد هو من مواطني بلدها .. وأنه من عشيرة كبيرة .. وأنه صاحب أسرة وزوجة وأطفال .. ومع ذلك يسافر أحيانا لوطن الآخرين .. ليدنس سمعة الأوفياء في تلك البلاد .. وتلك الحقيقة القاسية تؤكد مدى مصداقية جبل التاكا العريق .
ساحة النقاش