بسم الله الرحمن الرحيم
( قصــة قصيــرة )
رشفــة الكـأس الأولــي !!
النفوس قد تظن أن لمجريات الحياة مدى ونهايات .. وأنها قد بلغت مرامها من تلك الحظوظ .. وذلك النوع من الإحساس يغمر السواد الأعظم من الناس .. وهي الناس التي تعودت أن تختصر النهايات ظناَ واجتهاداَ .. كما تبني النهايات تكهناَ .. نزعة من أبجديات الفطرة .. وتلك الأرملة ظنت أن مشوارها قد توقف عند ذلك الحد .. وقد رحل عنها الزوج وهي في ريعان شبابها .. كانت حياتها الماضية هانئة .. غير مفرطة باذخة وغير متواضعة بذلك القدر .. ميسرة ومستورة بنوع من القناعة .. غير أن للأقدار مستجدات في بعض الأحيان .. وهي تلك الأقدار التي في كفها المصائر والنهايات .. وقد يأتي على الناس في الحياة الجديد من تلك المواسم والفصول .. تلك المواسم والفصول التي لم تكن يوماَ في الحسبان .. ولم تكن في ساحة البال .. والأقدار هي فقط التي تملك المشيئة في فتح وإغلاق صفحات المجريات في الحياة .. جلست حزينة تلك الأرملة ابنة الكرام .. وقد آلمها فراغ رفيق الدرب والمشوار .. وقدر الموت سنة تعودها البشرية .. فذاك قدر يغلق مسارات الحياة ليفتح أخرى .. والأرملة ما زالت شابة تحتفظ بكل مواصفات النضار والجمال .. والصيت بمحاسن الأخلاق كان لها ولأهلها .. وفي تلك المحنة القدرية وقفت معها الأسرة بكل اجتهاد .. فذاك حنان الأمهات .. وتلك وقفة الأخوات والصديقات .. وفي الأيام الأولى كان الجميع يقدسون الصمت في أمر لا يجوز الخوض فيه .. بالرغم من أن ذلك الأمر كان يدور همساَ بجوارها ،، وذلك تقديرا لمشاعرها التي ما زالت تجود بالأحزان .. ولكن تلاحقت الأيام لتكسب أهلها نوعاَ من الجرأة في الإقدام والكلام .. فها هي أختها الكبيرة قد تجرأت ثم همست في أذنها بتلك الكلمات ،، غير أنها انزعجت ثم رمت بتلك العبارة العجيبة .. ( أنا لا أفكر في الرجال والزواج ) .. ثم سكتت دون المزيد من الحروف .. كانت حروفها تلك متعجلة ومختصرة ، وقد ألمحت بأنها سوف تلتزم بالوفاء لزوجها المرحوم ،، وتلك المقولة منها لم تنال الاستحسان ،، لا من أهلها وأخواتها .. ولا من المتزاحمين في صفوف الانتظار ،، وهي تلك الزمرة التي تزاحمت عند الباب قبل حلول الأوان .. والأعجب أنهم كانوا أحرص منها في مراقبة فترة الحداد .. وهم يحسبون الشهور والأيام بدقة متناهية بدرجة الكمال .. ناضلت ثم اجتهدت لتفرض فكرتها بعدم الزواج ،، غير أنها لم تجد السند والدعم من الآخرين .. بل وجدت مقاومة من أهلها وأخواتها وصديقاتها .. ثم تلاحقت الترشيحات والتلميحات والاقتراحات .. ثم تلك القائمة الطويلة من الأسماء التي تقف في صفوف الانتظار .. وتلك الوفود تلو الوفود للخاطبات الزائرات .. فوجدت الأرملة نفسها محاطة وخاضعة لفروض الأمر الواقع .. ولا حيلة لها إلا الرضوخ لمشيئة الأهل والأخوات والصديقات .. وذات يوم على مضض قبلت أن تشاهد قائمة الأسماء ،، ثم أصيبت فجأة بالذهول والدهشة والجنون حين شاهدت الأسماء في تلك القائمة .. فقالت : يا عجباَ ويا عجباَ من أسماء !! .. فتلك القائمة تحمل الكثير والكثير من المفاجئات والمفارقات ،، وفيها أسماء قد تعدت حدود المعقول .. فلان وفلان !؟.. ثم ذلك فلان !؟ .. غير معقول !! .. فهي لم تتخيل يوماَ أن يفكر هؤلاء فيها كزوجة ،، وقد كانت تضعهم في مكانة الأعمام والأخوال .. وحينها أدركت أن للناس نوايا وأسرار .. وفيهم أيضاَ ذلك الشيخ الوقور .. وهو أمام المسجد بالجوار .. واسمه في قائمة الانتظار .. وهي تعلم أن للشيخ زوجات ثلاث !!.. وتلك القائمة كانت تعج بالعشرات والعشرات من فرص الخيارات .. فهنالك الشباب وهنالك الكبار .. الشباب الذين يصغرونها عمراَ بسنوات وسنوات .. والكبار الذين يكبرونها عمراَ بأعوام وأعوام .. وهنالك الواجهات من أهل الوقار .. ثم تلك الزمر من أهل الجاه والاقتدار .. قالت مازحة مع أخواتها وصديقاتها : ( أنا كنت في غفلة من قبل وما كنت أعلم بأنني بذلك المقدار ! ) .. ثم تسارعت المجريات وتنافست الأسماء .. وتلك العروض تغري بتلميحات السعادة والأموال .. ثم تلك الإغراءات التي كانت تفوق طموحاتها كثيراَ .. واحتدت واشتدت العروض .. وقد علم أصحاب تلك الأسماء أن المنافسة قوية للغاية .. وعندها تدفقت المفاجئات تلو المفاجئات .. فهنالك من تقدموا لها متنازلين عن عمائر بطوابقها العديدة تسجل باسمها في حال الموافقة .. وهنالك من تقدموا لها متنازلين عن الفلل الجميلة البهية لتكون باسمها .. وآخرون تقدموا لها عارضين ذلك المقدار الوفير من الذهب والمجوهرات والأموال !.. فجلست الأرملة حائرة في ساحة المغريات .. وهي متعجبة من تسارع الأمور والمجريات .. ثم بدأت تفكر في ماضي حياتها .. فإذا بطيف الزوج يتمثل أمامها وقد اكتسى بذلك التواضع في المقدار .. وعندها قالت في نفسها : عجباَ كيف استطاع ذلك الزوج أن يحجب عنها تلك الآفاق من الخيارات ؟!! .. وهي قد اكتشفت الآن أن الحياة سعة وحظوظ .. تلك الحظوظ التي غابت عنها بحواجز الأعراف .. ثم تلك الموجبات التي كانت تمثل حائلاَ تمنع الطموحات .. وهي تلك القناعة التي تجبر الناس على الرضا بالمصائر والأقدار .. وعندها قررت أن تجاري النوازل والمستجدات .. ولكنها عجزت أن تحدد الوجهة وتشير بالبنان .. وحتى أن الأخوات والصديقات قد فشلن في الاختيار .. والمغريات من العروض كادت تمخول الألباب !! .. وهي تلك المغريات التي تزيد الإرباك إرباكاَ .. عاشت اللحظات في دوامة من الحيرة حتى غلبها النعاس فرقدت ونامت ،، فإذا بالزوج يتمثل لها في المنام .. ثم يبارك لها الخطوة ويتمنى لها السعادة في مشوارها الجديد .. قال لها : ( أن العهد الذي كان بيني وبينك كان ملزما بشروط الالتزام والوفاء متى ما تواجدت الأطراف ، ولكني أمثل ذلك الطرف الغائب الذي قد أخلى بالشروط .. وذلك الإخلاء يحل ويبيح لك تلك الخيارات البديلة ) .. فقامت من نومها منزعجة والدموع تملأ أحداقها .. ثم جلست تفكر في زوجها .. ذلك الشهم النبيل الذي لم يجرح شعورها وكبريائها في يوم من الأيام .. وها هو الآن يواصل مشوار النبل رغم موته ويزورها في المنام .
تقاربت الوجهات بين الأخوات والصديقات .. وتناقصت فجوات الخلاف .. ثم أجمعت الآراء حول شخص بعينه يملك الأكثرية من المزايا .. فهو ذو وجاهة وذو أموال وأملاك وذو أخلاق وذو صيت ومكرمة .. وذلك التقارب في الوجهات ساعدت الأرملة كثيراَ في اتخاذ القرار .. فكان القبول ثم الإشهار .. وعندها انفضت الأسواق من حولها .. ورحل الخاسرون عن ميدانها .. ثم جرى مراسيم الزواج .. حيث تلك الاحتفالات الكبيرة التي لم تشاهد الناس مثلها من قبل في البلاد .. وقد تحدثت الألسن عن فخامة وعظمة تلك المراسيم والدفوف والرقصات .. وبعدها انتقلت العروسة لقصرها الشاسع الفخم .. حيث حياة الخدم والحشم .. وحيث المكانة المرموقة السامية .. فهي سيدة قصرها الجديد .. ثم سافرت مع زوجها لخارج البلاد لقضاء شهر العسل .. وعندما عادت لقصرها زارها الأهل والأخوات .. وحين سئلت أجابت بحكمة عجيبة حين قالت ( رغم أن الحياة قد فتحت لها الأبواب .. وافترشت تحت أقدامها بساط المباهج والنعم .. إلا أن الرشفة في المذاق لا تعادل مذاق الرشفة الأولي مهما كانت روعة الكأس ) !! .
ـــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش