بسم الله الرحمن الرحيم
( قصــة قصيـرة )
الانتقـام قبـل الانتقـام !!
الدار لساكن وحيد لا يشارك الآخرين .. وقد ملت مناسك الحياة بالدار بكثرة التكرار والروتين .. وتلك آثار الأقدام قد رسمت خطوطاَ معلمة في أرضيات الدار .. حيث التزمت الأقدام مسارات بعينها بحكم العادة .. وبدون ذلك التمرد الذي يعني الجديد والتجديد في الدروب .. وقد تشابهت الخطوات وتشابهت الأيام وتشابهت الليالي .. وهو ذلك الشاب الذي يترفل في عنفوان العمر .. ولديه تلك الطموحات التي تراود عادة نفوس الشباب .. وهي مواصلة مشوار الأب آدم في تعمير أرجاء البسيطة .. طموحات لا تنال بالسهل ولا تنال بالأمنيات والأحلام .. فهي صعبة المراس دائماَ الترحال للغد ثم الغد .. فتتلاحق الأيام وتتراكم الشهور والسنون .. وبذلك تهدر أجزاء عزيزة من الأعمار بالتسويف .. والعلة هي تلك العلة المعهودة في كل الأمكنة والأزمنة .. حيث علة الظروف والإمكانيات .. وليست العلة في تلك المقدرات البدنية والجسمانية .. فتلك سليمة متعافية تنادي بحقوقها بإلحاح دون أن تملك الحيلة .. ظروف ونعوت تجمع الكثيرين من شباب العصر في بوتقة المحنة والعجز .. وذلك الشاب صاحب القصة لم يشذ عن الركب .. وقد تعود ذلك الروتين الظرفي لتحقيق تلك الطموحات منذ سنوات .. وفي انتظار لحظات السعد أدمن نوعاَ من المناسك اليومية الروتينية بدرجة التشبع .. فهو عادةَ يتناول طعام العشاء مبكراَ .. ثم يبدأ بنظرة سريعة على عناوين الصحف اليومية .. ثم يقرأ صفحة أو صفحتين من كتاب لقصة عالمية أو مجلة علمية .. وبعدها يلجأ قبل النوم ليتنقل في مشاهدة بعض القنوات الفضائيات للوقوف على آخر الأنباء .. أو متابعة برامج أخرى قد تكون جاذبة وشيقة ليختم بها مراسيم ذلك اليوم ليرقد وينام .. تلك هي المناسك المعهودة في حياة ذلك الشاب حين يتواجد بالدار بعد العودة من مكان العمل يومياَ .. بجانب الالتزام بالعبادات والصلوات الخمسة في أوقاتها .. وهو شاب في الخامس والعشرين من عمره .. يفكر ويخطط للزواج منذ سنوات قليلة .. وفي تلك الليلة أكمل المناسك ثم قام وأطفأ الأنوار لينام .. وقد تعود أن ينام في أستار الظلام .. حيث الجفون التي ترفض الاسترخاء في تواجد الأضواء .. فكان الظلام والسكون والهدوء إلا تلك الإشارات الواهنة الضعيفة لأقدام الثواني الدائرة في ساعة الحائط .. وهي إشارات باهتة تفتقد الوزن والقيمة والأهمية .. ولا تزعج أحداَ بالجوار .. ثم سرعان ما دخل الشاب في نوم هادئ عميق .. مرت ساعة من الزمن ثم أخرى كادت أن تكمل الدورة عندما استيقظ الشاب فجأة بفعل حركة غير عادية داخل الغرفة التي ينام فيها .. فتح عينيه وتمعن في أرجاء الغرفة رغم القتام والوهن والظلام .. وشعر بأن هنالك أمراَ غير عادي يحدث في الغرفة .. ثم تيقن أن شخصاَ ما يتواجد هنالك داخل الغرفة .. فتيقن جلياَ أنه أمام الحكاية القديمة الجديدة .. حكاية ( اللص والليل ) !! .. وتلك حكاية تحتاج إلى رباط الجأش وشطارة الشطار وحيلة الأذكياء .. وهو دائما يظن نفسه ذلك المقدام الشجاع الذي لا يهاب المقارعة والشجار .. والعرف الجاري لدى معظم الناس أن اللص عادةَ هو ذلك الجبان الذي يتقي المخاوف بالفرار .. ولذلك قام بهدوء تام من سريره وتحرك ليفاجئ اللص على حين غفلة ليغلق عليه باب الغرفة بإحكام .. ثم ينقض عليه كالأسد الهصور .. ولكن لسوء حظه تنبه اللص فجأة وركض مسرعاَ للخارج .. فركض الشاب خلفه .. ثم تمكن اللص من تسلق الجدار الخارجي للمنزل .. ولكن بطريقة قدرية عجيبة فجأة سقط اللص من فوق السور ليرتطم بالأرض بقوة شديدة .. وعندها كسرت رجله عند الساق .. وتلك كانت لحظات إرباك سريعة للشاب واللص .. رقد اللص هنالك عاجزاً عن الحراك وهو يتأوه ويشتكي من الآلام .. وبسرعة تقدم الشاب وأشعل كل أنوار الدار .. بالداخل والخارج .. فتبينت ملامح اللص بكل التفاصيل والمواصفات .. وبدأ الشاب يبحث عن حبل يكتف به ذلك اللص .. ولم يجد في الدار إلا لفه متواضعة من سلك كهرباء قديم .. فأخذ السلك واقترب من اللص الذي كان يتألم ويتوجع .. فقام بتكتيف اللص .. وهنا حذره اللص قائلاَ إياك أن تحاول إيذائي وأنا صاحب سوابق في الإجرام .. ونصيحتي لك أن تخرجني من دارك للشارع وتتركني وشأني .. ولكن الشاب لم يستمع لترهات اللص بل واصل في تربيط وتكتيف الأيدي والأرجل .. ثم فوراً اتصل من هاتفه الجوال بشرطة النجدة .. الذين لبوا النداء بسرعة .. وأكدوا له بأنهم في الطريق إليه بعد أن أخذوا كل تفاصيل العنوان .. ولما استيئس اللص من إقناع الشاب في إطلاق سراحه وتيقن أنه واقع في أيدي العدالة أقسم جازماَ للشاب بأنه سوف يعود لداره يوماً ولكن ليس لسرقة الأغراض إنما لإنهاء حياته عن الوجود .. وكان ذلك الوعد من اللص مقروناَ بالتحدي الجازم الذي يؤكد الانتقام .. ولكن الشاب لم يبالي ولم يهتم بتهديدات ذلك اللص.. وبعد دقائق قليلة وصلت سيارة النجدة .. وتم اعتقال اللص وذهبوا به مباشرة إلى المستشفى ثم الحبس والاعتقال .. قدم اللص للمحاكمة .. وكانت البراهين والأدلة كافية وعادلة بالقدر الذي يدين ذلك اللص .. وخاصة وقد تبين عند التحقيق بأن اللص صاحب سوابق وإجرام .. وبالتالي تم الحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات .. وقد حضر الشاب جلسات المحاكمة .. وفي لحظة من لحظات التداول التقى عينه بعين اللص الذي كان يراقبه خلسة .. وفي غفلة من الأعين أشار اللص إليه بإشارة أصبع تعني الانتقام .. وعندها أدرك الشاب بأن اللص مازال يحلم بفكرة الانتقام وما زال يستخدم سلاح التخويف .. ولكنه اعتبر الأمر مجرد مواقف وردود أفعال لإنسان حقير ضعيف .
التحدي في بعض الأحيان يصبح نقطة إدمان ورغبة ينازع الصاحب .. ويتحول إلى داء مزمن يجادل العقل والتفكير .. نوبات ملحة تنادي بالانتقام .. وشغف يتعدى المعقول .. ثم في مرحلة يصبح ذلك الهدف الأول والأخير في حياة أحدهم .. وتلك ناحية أخذت حظها لدى ذلك اللص .. الذي كرس أيامه في السجن وهو يخطط ويدبر للانتقام من ذلك الشاب .. وأمثال ذلك اللص عادة يمتلكون أبعاداَ ضيقة في مفاهيم الحياة .. فهم صغار في التفكير وصغار في الأهداف .. يتشبثون بالأوهام حتى يجعلوها جدلاً يستحق المخاطرة .. دارت الأيام دورتها .. وكانت عصيبة على ذلك المحبوس الذي قضى سنوات الحكم كاملة في أروقة السجن .. كما كانت فترة انتظار وترقب لذلك الشاب الذي بدأ أخيراَ ينسى أحداث تلك الليلة رويداً ورويداَ .. ويواصل مشوار الحياة بنفس المنوال والروتين .. ولكن كانت للأقدار دورة أخرى مع ذلك اللص .
كان الشاب نائماَ حين سمع طرقات باب المنزل .. فقام متكاسلاَ من نومه وتقدم وفتح الباب .. وفوجئ برجال الشرطة يقفون هنالك ويسألون عن اسمه .. ولما تأكدوا من الاسم طلبوا منه مرافقتهم لمركز الشرطة .. ارتبك الشاب من الواقعة إلا أن رجال الأمن طلبوا منه التريث والهدوء وأن الأمر مجرد استفسارات في أمر غريب .. فلبس الشاب ثيابه وخرج معهم إلى مركز الشرطة وهو في حيرة شديدة .. وعندما وصل لمركز الشرطة فوجئ بتواجد ذلك اللص في قبضة رجال الأمن .. وكان الشاب قد نسى وتناسى حكاية ذلك اللص في السنوات الأخيرة .. كان اللص يتألم ويتأوه من الأوجاع .. وملابسه كانت ملطخة بالدماء .. نظر إليه اللص ثم صرف النظر عنه وهو لا يبالي .. طلب منه المتحري أن يجلس أمامه فوق الكرسي .. ثم سأل عن اسمه وعنوانه .. وقال له : أن رجال الأمن وجدوا ذلك الشخص ملغياَ في الطريق العام وهو يتألم ويصرخ من الآلام والكسور .. وعندما سئل عن الأسباب أجاب بقصة غريبة للغاية .. يقول ذلك الشخص إنه قدم لداركم عند منتصف الليل بنية قتلكم شخصياَ .. وحينما تسلق جدار منزلكم سقط فجأة على الأرض فكسرت رجله اليمنى .. ثم بدأ يزحف على الأرض مبتعداً عن داركم وهو يجرجر أقدامه .. ولكن حين تمكن من الوصول إلى الشارع العام فجأة جاءت سيارة مسرعة ومشت فوق الأرجل .. مما تسببت في كسر الرجل الثاني والمزيد من الكسور في الرجل المكسور !! .. بعدها هربت السيارة ولم تتوقف .. ويقول هذا الإنسان إنك رجل صالح ومن الأولياء الصالحين .. فضحك الشاب ونظر إلى اللص الذي كان يتوجع ويتألم وهو في حالة مزرية للغاية .. ثم بدأ الشاب بسرد للمتحري كامل قصته مع ذلك اللص .. ورجال الأمن يستمعون إليه بشغف عجيب .. وعندما أكمل القصة َضحكوا وقالوا له : لقد صدق اللص فأنت من الأولياء الصالحين .. وبعد أن سجلوا كامل أقواله سمحوا له بالانصراف .. وعندما هم بالمغادرة ناداه اللص طالباَ منه العفو والسماح .. فابتسم الشاب وضحك وقال له : لقد عفوت عنك .. ثم أنصرف من المكان ولسان حاله يقول : لو كنت من الصالحين حقاَ كما يقال لكنت الآن أنعم مع شريكة الحياة ولست بذلك العازب المغلوب على أمره !! .
ــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش