بسم الله الرحمن الرحيم
( قصــة قصيــرة )
المرتـد بعـد الموت للـوداع !!
جاء يودعه وهو يخفي ملامح الأثير دون علمـه .. ليرتد من عالم البرزخ ويقول وداعاَ لرفيق الدرب .. هو ذلك الشقيق التوأم .. الذي واكب العمر منذ النشأة الأولى .. حيث المعية منذ لحظة التشبث بجدار الرحم .. توأمان تزامنت فيهما نفخة الروح .. ثم المعية الحميمة في ضيافة الرحم .. وبعدها كانت فرحة الإطلالة للحياة ذات يوم .. عندما سمعت الآذان الصرخة الأولى لأحد ثم الصرخة الثانية لآخر .. ليكون البشرى للأهل والأحباب بقدوم ولـد ثم ولـد .. وعمت الفرحة بيتاَ وأهلاَ بمعيار الفرحة فرحتين .. فتوازنت كفتا المهد بأحلى طفلين .. والأم كانت تبذل القبلات لهذا ثم لهذا .. ثم تشك في ذاتها وتقول في نفسها هل كانت القبلة لهذا ولهذا أم كانت القبلة لنفس الغلام مرتين .. ولها الحق في الشك حيث أن التشابه تكامل بدرجة العجب في كل الملامح وفي كل خلايا الجسم .. وسبحان رب العرش العظيم الذي يخلق من الشبه كما يشاء وكيف يشاء .. وللناس في ملكية الروح خانة واحدة كاملة .. أما هذين الطفلين فكان لكل منهما فالج من حبة روح واحدة .. أي نصف لكل منها يتواجد في أجساد متشابهة متفرقة .. حتى إذا تقاربا في المهد أوجدا إنساناَ واحداَ بالتشابه والتطابق .. ثم بعد ذلك كانت المعية الحميمة للطفلين في كل مراحل النشأة والنماء .. طفلان يلازمان الخطوة تلو الخطوة في كل زمان ومكان .. يلعبان سوياَ ويمرحان سوياَ وقد يبكيان سوياَ ويضحكان .. كانت لهما علامات عجيبة في وحدة الزمان والتوقيت بجانب التشابه المتكامل في علامات البدن والحواس .. حيث إذا نام أحدهما كان الآخر يلحقه بالنوم فوراَ .. وإذا استيقظ أحدهما كان ذلك يماثل ساعة تنبيه حيث يستيقظ الآخر فوراَ دون أية علامات إيحاء .. فكأن هناك ساعة تنبيه سحرية تنبه دون أجراس !! .. والسنوات والأيام كانت تأخذ دورتها الطبيعية في حياة هذين الغلامين بوتيرة منسوخة في كل صغيرة وكبيرة .. فالخلايا كانت تتقاسم بمعدلات متوازنة متوازية متشابه عجيبة .. حيث الضرورة اللازمة لبناء الأجسام .. تلك الأجسام التي ترعرعت لتمر بمراحل الطفولة .. ثم بمراحل الصبا والمراهقة .. ثم بمراحل العقل والرجولة .. تلك المحطة التي تمثل مرحلة انتقالية في حياة البشر .. فعندها تنادي الأنفس بمزايا الخصوصية .. وفيها تبدأ الفطرة لتنادي بضرورة إكمال مشوار آدم في إيجاد البذرة الملقحة ليكون هناك إنسان آخر في الوجود .. وتلك المرحلة أوحت لهما بأن الوقت قد حان لإيجاد دربين منفصلين في مشوار الحياة .. فسافر أحدهما لبلاد الغربة يبتغي الرزق الأوسع بالضرب في أرض الله الواسعة .. والاجتهاد في مسببات تمهـد لإيجاد العش السعيد .. تاركاَ التوأم الآخر في بلده يواجه المصير وحيداَ .. وكانت لحظة الافتراق من أشق اللحظات وأمرها وأوجعها وأقساها في حياة التوأمين .. وفي لحظات السفر الأخيرة تعانق الأخوان مرات ومرات .. وجرت الدموع في العيون .. وعندما بدأت القاطرة بالتحرك وتغادر المحطة أخرج الراحل نصفه العليا من شباك عربة السفر وهو يلوح بيديه لرفيق الحياة والعمر .. والدموع تنهمر غزيرة من عينيه .. والآخر كان أيضاَ يدمع ويركض ليلاحق القاطرة ويلوح بيديه وهو في مرارة ويأس شديد .
مرت سنة وسنة أخرى بعد الافتراق .. والتوأمان يتوقان ويشتاقان للبعض بشدة عجيبة .. ثم جرت مجريات الأحوال لتكون الظروف هي الجازمة والفارضة في بلاد الغربة .. فكان لا بد من إكمال مشوار الاغتراب بأي ثمن وبأي حال لتحقيق المقاصد التي تسببت في إيجاد الافتراق .. ولكن لم تمر لحظة لكليهما دون أن يتمثل الآخر في الخيال .. فطوال سنوات الافتراق كان التوأمان يجترعان ذكريات الماضي في حالات الإنفراد والوحدة .. حتى كان ذات يوم قبل المغرب بقليل عندما توضأ المغترب استعداداَ لصلاة المغرب فسمع رنين هاتفه الجوال .. ففتح الموبايل لتكون المفاجأة الكبرى العجيبة عندما سمع صوت أخيه التوأم في سماعة الموبايل .. ففرح قلبه كثيراَ ورقصت مشاعره .. ولكن عقله لم يصدق الواقعة من أول وهلة .. حيث أنه أشترى الموبايل قبل يومين فقط وكذلك رقم الهاتف الجديد .. ولم يعطي لأحد ذلك الرقم الجديد .. ولا يدري برقمه أحد في المدينة أو في وطنه الأم !! .. كما أنه انتقل في بلاد الغربة كثيراَ في الآونة الأخيرة .. حيث انتقل من مدينة لأخرى ثم لأخرى !! .. ولم يجد السانحة والخانة المستقرة الأخيرة ليكون ذلك عنوانه الثابت حتى يخبر به الأهل في بلده .. ولكن صوت أخيه في التلفون كان يؤكد بأنه معه في الخط في تلك اللحظة .. ويؤكد كذلك بأنه يتواجد معه حالياَ في نفس المدينة .. بل أكثر من ذلك أفاد بأنه في تلك اللحظة يتواجد أمام المسجد الكبير بالسوق العام .. وهو في انتظاره بشوق شديد .. فحاول المغترب أن يعرف المزيد من المعلومات من أخيه .. إلا أن الأخ طلب منه أن يتريث حتى اللقاء وجهاَ لوجه وعند ذلك سوف يكون الشرح المطول .. فقام الأخ المغترب بسرعة شديدة وبفرحة غامرة ولبس ثيابه وغادر سكنه ليكون أمام ذلك المسجد الذي لم يكن بعيداَ من مكان سكنه .. وكان المسجد من المساجد المشهورة في المدينة .. وعندما أقترب من باب المسجد الأمامي لمح أخيه وهو يقف هناك في انتظاره .. فركض نحو أخيه وركض الأخ نحوه ثم تعانقا بشدة .. ومرت اللحظات واللحظات وهما متعانقان والدموع تنهمر من العيون .. ولحظات العناق دامت دون حروف من الجانبين .. وفجأة كانت إقامة الصلاة بالمسجد فتنبها لذلك .. فقال الأخ القادم من البلد لأخيه دعنا ندخل ونصلي ثم بعد الصلاة يكون لنا الكلام .. فدخلا المسجد فوراَ ووقفا في الصف معاَ جنباَ لجنب .. يؤديان صلاة المغرب مع الجماعة حتى اكتملت الصلاة بالسلام .. فسلم المغترب يميناَ ويساراَ والشوق يدفعه لتكون المعية برفقة أخيه الحبيب .. ولكن كانت المفاجأة عندما لاحظ أن الذي يجلس بيمينه لم يكن أخيه وكذلك الذي يجلس بيساره ليس بأخيه .. فتعجب من الأمر ثم نظر في وجوه المصلين من حوله وهو يعتقد أن أخيه ربما خرج من الصف بعد التكبيرة لعذر من الأعذار .. فلم يجده ضمن الجالسين من المصلين داخل المسجد .. وبعد ذلك طاف أركان المسجد وهو يبحث عن أخيه .. فلم يجده فدخل في حيرة شديدة .. ثم خرج يبحث عن أخيه بجوار المسجد في الشوارع والأزقة والطرقات المحيطة لعله قد تاه وضاع في المنطقة فهو جديد العهد بالمدينة .. ولكن ضاعت كل مجهوداته سداَ وهباءَ .. وحدثته النفس بأن يطوف ويبحث عن أخيه في ساحات المدينة طولاَ وعرضاَ .. فلبى نداء النفس وأمضى الساعة والساعة في البحث المضني .. حتى اشتكت أقدامه .. ثم وجد نفسه في حيرة شديدة .. وبدأت نفسه تميل للشفقة على حياة أخيه القادم الجديد .. ولا بد من إيجاده بأي حال من الأحوال .. فما كان منه إلا أن اتصل فوراَ بالتلفون مع الأهل في بلده ليعرف المزيد من المعلومات الكافية عن وجهة أخيه .. فكانت القصة العجيبة حيث التأكيدات له من الأهل بأن أخيه قد توفي وفارق الحياة منذ شهر تقريباَ .. وأنهم حاولوا الاتصال به لإخباره بالنبأ الحزين في حينه .. ولكنهم عجزوا عن معرفة عنوان تواجده في بلاد الغربة !! .
ــــــــــــــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش