بسم الله الرحمن الرحيم
( قصـة قصيـرة )
دمــوع في أحــداق بريـٍئـة !!
أيها المترنح تحت ثقل الأحزان .. ذلك القلب الغض ليس بمقام الأوجاع .. وتلك الهموم أهلكت قلوباَ في الحياة لها الباع .. فكيف لا تهلك قلباَ ما زال في حافة الأوضاع ؟ ! .. تبكي وهل يفيد البكاء في إيجاد لحظة تحجب الالتياع ؟؟ .. فتلك هي الدنيا دار المرارة والشقاء .. فهي أعمى في دربها تدوس من تصادف خطواتها بغبـاء .. تدوس الأشرار وتدوس الأبرار .. وتحت ثقل أقدامها كم وكم يعاني أهل البراءة وكم يعاني فاقدي الحيلة في القرار والاستقرار .. لا يملكون إلا عدة البكاء .. وتلك عدة يقال عنها عدة العاجزين والضعفاء .. عدة في أمرها تستوجب الضمائر والمروءة والشهامة وسيرة النبلاء .. فإذا انعدمت تلك الأرضيات فإن البكاء مجرد هوس يوجع القلب ولا يفيد كدواء .
جلس الصغير اليافع عند قارعة الطريق .. ودواخله تشتكي الكثير من الأحزان والهموم .. وهناك الجوع يمزق الأحشاء حيث تنادي بحقها الفطري .. وهو لم يتناول حظاَ من الطعام الوافر الكافي منذ أيام .. إلا تلك الفتات القليلة التي كان يتناولها في خلسة من الأعين من بقايا أطعمة الناس فوق طاولات المطاعم العامة .. حقيقة مرة في مرارتها تجاوزت مفاهيم الحياء والاستحياء .. وفي سنه وعمره وطفولته قد لا يلام .. ولكنه في عمقه يحس بجروح الكبرياء .. فهو إنسان كالآخرين يعرف مواضع الإذلال .. ولكن الجوع يقال عنه ( كافر ) .. ولا تجدي في أمره علامات التعالي والإباء .. وخاصة والجسم لديه في مرحلة الطفولة حيث مراحل النمو وتقاسم الخلايا .. وتلك مرحلة تلح وتطالب بالمؤن والمدد والغذاء .
وقد تجول الصغير في الجوار كثيراَ .. ونظر في وجوه الناس كثيراًَ .. ولكن الناس لا يعيرونه الاهتمام .. وكأنه شبح من صنع الأوهام ولا يتواجد بينهم .. فهو مجرد صغير والكثير من أمثاله في الجوار .. ويعيش في عصر تتفشى فيه ظاهرة الاكتفاء فقط بما يخص الذات .. دون أدنى اهتمام بشئون الآخرين من الكبار أو الصغار .. والشعار المرفوع بين الناس في هذا العصر هو شعار ( يا نفسي ما بعدك نفس .. ويا روحي ما بعدك روح ) .. أما المحيط أما الإطار الذي يجمع الديار فيقال عنها : ( كـل شاة تعلق بعرقوبها ) .. وذاك هو مربط الفرس حيث هناك في الديار وفي الإطار شيـاه وشيـاه تفقد كل شئ حتى هي تفقد ذاك العرقوب .
دفعته مرارة الجوع أن يتواجد في محيط الأماكن التي تباع فيها الأطعمة .. كالمطاعم في الأسواق وكأفران الخبز .. كان الصغير يقف خارج تلك الأماكن عندما تجذبه روائح الأطعمة والخبز وهو يتأمل بشغف كبير .. وينظر للناس من خلال الحواجز الزجاجية لتلك المحلات .. يقف هناك ليشاهدهم وهم يتناولون الأطعمة الشهية .. وغريزة الجوع وحدها هي التي تدفعه ليقف ذلك الموقف المؤلم .. فهو ذلك الصغير المسكين الذي يصارع نداء الفطرة .. ولا يملك الحيلة أو التفكير الصائب .. كما أنه بحكم سنه يجهل الخطوات في التصرف السليم .. والناس لا يبالون بتواجده في تلك الأماكن المتزاحمة وهو يراقبهم .. وأكثر الناس قـد لا ينتبه لتواجده في الأساس .. والذي يتنبه يظن أنه مجرد طفل يعبث كعادة الأطفال ولديه مجرد حب الاستطلاع بالنظر للناس من خلال الزجاج .. والعلة القاتلة في الناس أنها لا تقف لحظة للتفكير في الأمر بجدية وبنوع من الفراسة الماهرة التي تقتضيها فراسة المروءة .. والإنسان بالفطرة في أي مكان في العالم هو ذلك الإنسان الذي يتعاطف ويتفاعل بالرحمة والشفقة عندما يتعلق الأمر بالأطفال .. وكل الذين يتواجدون في تلك المطاعم والأفران لو أدركوا في لحظة من اللحظات بالحقيقة القاسية التي تفيد بأن ذلك الطفل يعاني من الجوع الشديد لتسابقوا في أطعامه دون استثناء .. وتلك فطرة عالية في الإنسان عندما يتعلق الأمر بالصغار الذين لا حوله ولا قوة لهم .. ولكن العلة في حسابات الناس عندما لا يكترثون بالمجريات الطارئة من الأحداث من حولهم .. ولا يعطون لمثل تلك الملاحظات حظاَ من الاهتمام .. وعادة الناس في هذا العصر تتجنب أمور الغير بقدر الإمكان .. ويرون عدم التدخل في شئون الغير متى ما كان الأمر بعيداًَ عن الأمور الذاتية .. وتلك غفلة يدفع ثمنها أطفال في صورة ذلك الطفل وفقراء يتعففون ولا يسألون الناس إلحافا .. وأرامل تفقد الحيلة في حياة بغير شريك الحياة وبرفقة جمع من الأطفال .. والأمثال تتكرر بآخرين كثيرين في المجتمعات .. وقد يتساءل شقي لمجرد السؤال ويقول بحماقة أين أهل ذلك الطفل وأمثاله ؟ .. فيأتي الرد بجدل من الحقائق التي تجلب المزيد من الأحزان .. وهناك في حياة الناس قصص وقصص .. والطفل ما هو إلا نموذج يمثل الواحد في الألف من تلك القصص والظواهر المؤلمة .. أما قصة ذلك الطفل بالذات فإن الأقدار قد حكمت عليه أن يدفع ثمناَ لخلافات وقعت بين الأب والأم .. تلك الخلافات التي حسمت أخيراَِ بالطلاق .. وبعد مرحلة الطلاق تناسى الأب مرحلة الماضي بالتمام والكمال .. حيث ابتعد كلياَ عن الماضي بذكرياته ومشاكله ومتعلقاته .. وقد أحتسب ذلك الطفل في زخم المشاكل التي يجب أن تنسى .. واعتبره من ضمن الماضي الذي طويت صفحته .. ولم يفكر في الطفل في لحظة من اللحظات .. كما أن ذلك الطفل لم يدخل إطلاقاَ في حسابات التصفية الأخيرة .. ليس من جانب الأب وليس من جانب الأم .. فكأنه لا يتواجد إطلاقاَ ولا يعني أمره شيئاَ فيما يجري من الخلافات .. ثم تزوج وأصبحت له أسرة وحياة زوجية جديدة .. بيت وأطفال ومشاغل وحياة وظروف مغايرة .. والأم كذلك رافقت الطفل في بيت والدها لشهور قليلة .. ثم اجتهدت لتبدأ حياتها من جديد مع زوج آخر .. وهناك أسست حياتها في بيت زوجها مع أطفالها .. بعد أن تركته في بيت والدها المتوفى ووالدتها المتوفيه .. في عناية أختها الغير متزوجة .. فإذن ذلك الطفل البريء هو الذي دفع كامل ثمن الخلافات الزوجية بين أبيه وأمه .. وتلك ظاهرة منتشرة في المجتمعات كثيراَ .. وغيرها من الظواهر المؤلمة .. وتلك الظواهر في المجتمعات لن تقف عند حد في يوم من الأيام .. والمعضلة ليست في مجريات الحقائق المؤلمة التي تقع إن شئنا أم أبينا .. ولكن المعضلة في ذات الناس في المجتمعات فقد حان دورها لتنظر من حولها بعيون أكثر فراسة وأكثر تفهماَ لظروف المعوزين والضعفاء من حولهم .. فهؤلاء جزء من عناصر المجتمعات ويفقدون عدة المهارة في الإفصاح .. كما يفقدون الحيلة في مجابهة الظروف والمشاكل .. بل يعيشون الآلام في صمت ولا يدري بهم أحد .. وقـد يرتحلون من هذه الدنيا وهناك الأسرار المؤلمة في حوزتهم .. تلك الأحزان التي تفطر الأفئدة والأكباد .
هناك في حافة الطريق ما زال يجلس الصغير .. مر عليه الكثيرون دون أن يلاحظ بجوده أحد هناك أو يهتم لأمره .. ولكن هذه الدنيا وهذه الحياة رغم قسوتها ومراراتها ففيها لحظات مكرمات ورحمات عالية من رب العرش العظيم .. فهناك القلوب الرحيمة التي قد تتواجد في لحظة من اللحظات .. وتلك اللحظات قد تكون شحيحة في أكثر الأوقات .. فمر عليه شيخ كبير وبعد أن أجتازه في عجالة تنبه لتواجد الدموع في عيون ذلك الطفل الصغير .. فتراجع عن خطواته .. وجلس بجوار الطفل يستفسر عن أمره .. وكان الطفل يجيبه بشغف شديد حيث لأول مرة يحس بأن هناك أحد من بني الإنسان يحس بوجوده في هذه الحياة .. أراد الشيخ أن يعرف الحقيقة بضمير ذلك الإنسان المسلم العالي المتفهم لأوجاع الناس .. فوجد أمامه طفلاَ بريئاَ كالكتاب المفتوح يتكلم بالصراحة بما يجيش في صدره ذلك المنهك .. والكلمات تلك البريئة المعهودة في الأطفال .. وتوقف الشيخ على كل تفاصيل وأحوال ذلك الطفل .. وأول خطوة من الشيخ أن أخذ ذلك الطفل إلى أحد المطاعم بالجوار ثم طلب للطفل أطيب الأكلات التي تراوغ نفس ذاك الصغير الجائع .. وبعد ذلك أخذ معه الطفل إلى داره .. وأوجده بين أطفاله وأسرته .. وفي اليوم التالي أخذه إلى مركز من مراكز الدولة التي تهتم بشئون الرعاية الاجتماعية .. ثم بعد ذلك لازم الطفل لأيام وأيام وهو يتجول به في مرافق الدولة لإكمال الإجراءات التي تكفل الحقوق والرعاية العالية لمثل هؤلاء الأطفال المتشردين .. تلك الإجراءات المعقدة والمملة التي لا تعرفها أو تقدر عليها أمثال هؤلاء الصغار المتشردين المغلوبين على أمورهم .
ــــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش