بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

بسم الله الرحمن الرحيم


(   قصــــة   )

تــوارد الخواطـــر ؟..؟؟؟؟

في بدايات ليل يتعمق هناك نقطة هم وغم تشغل الذهن وتلمح من حين لآخر ثم تختفي .. والذاكرة تبحث في أرففها عن أسباب ذاك الإيحاء المجهول فلا تتوفق .. والضائعة تنذر وتلح وتصر أن تدق ناقوس خطر مجهول .. قد تكون مرحلة منسية تعاود الظهور .. وقد تكون لفحة جديدة تنذر وتنبه .. والعقل يبحث ويفكر ثم يسأل ما هو ذاك الشئ المجهول الذي يقلق البال ؟؟ . فهناك خلل ما يختفي خلف ستار النسيان .. والسؤال من وقت لآخر لماذا لا تجد النفس راحتها بتفسير لتلك الخواطر المجهولة .. ولماذا يكدر صفاءها ذاك القادم من أعماق وادي الأحزان .. والأمر يستلزم من الذاكرة عن تضع أمامها كل العناوين الكبيرة التي أخذت حظها في مسار الحياة الطويلة .. ولكن تلك العناوين لا تتوافق مع نقرات الناقوس المزعج .. فإذن الأمر اكبر من مجرد خواطر قديمة تتحرك بعوامل التعرية والتصحر . 
              وهو الأب وقد أدار المركب بكل ما يملك من المهارة وكاد أن يوصلها لبر الأمان .. الأبناء والبنات تعدوا مراحل النماء والشقاء والعناء .. والآن القليل منهم من بقي في المراحل الأخيرة في الجامعات .. ومجمع الأسرة الآن خالية من شوائب الطفولة والأطفال .. والظواهر كلها مراحل شباب وشابات .. والكل بدأ يشق طريقه ويبني ويخطط لمستقبل مستقل .. وبعد سنوات قليلة إذا سمحت الأقدار بمزيد من العمر فسوف يكون وحيداَ في الدار مع زوجته تلك الوفية المناضلة التي وقفت معه بشجاعة ماهرة حتى أدوا الأمانة بجدارة .. فإذن الرسالة كادت أن تنتهي .. والرسالة كانت موفقة حتى اللحظة الأخيرة .. رغم المعاناة والمشاغل التي عادة تواكب مثل تلك المسيرة . وتلك هي رسالة كل أب وأم في هذه الحياة .. ولكن ما هي دوافع ذلك الإحساس الغامض وذلك الهم المجهول ؟؟ .. بنت من بناته الآن معه في المنزل وهي في السنة الأخيرة بكلية الهندسة الإلكترونية .. ولها أخوات تخرجن وتزوجن .. ولها إخوان منهم من تخرج وتوظف وتزوج .. ومنهم من تخرج ومازال يبحث عن وظيفة .. وهناك ( خالد ) آخر العنقود وقد سافر قبل أيام في طريقه إلى أوربا للالتحاق بإحدى جامعاتها .. وقد سافر قبل أيام عن طريق البحر . 
             الرحلة قد أكملت يومها الثاني منذ أن غادرت السفينة العملاقة الجميلة الميناء .. وخالد الآن يقف في سطح السفينة مع عدد كبير من الركاب المسافرين معه .. والوقت قد شارف على المساء .. وعلامات الظلام بدأت تلوح بعد أن سافرت الشمس واختفت في الأفق البعيد .. وبعد أن مثلت هالة حمراء أكبر من مقاسات الشمس المعهودة .. ولكنها كانت متهالكة تجرجر قواها رويدا رويداً حتى اختفت من الأفق البعيد كلياً .. والسماء بدأت تظهر مصابيحها من النجوم .. وكل لحظة نجمة في كبد السماء .. ثم نجمة ونجمة .. والسفينة الآن تشق عباب البحر بجدية ماهرة .. وتصر على اللحاق .. إلا أن الأجواء بدأت تنذر بعواصف هوجاء .. وقد تحولت النسمة العادية إلى رياح تجادل وتنازع .. ثم في مرحلة لاحقة بدأت تشد وتهز الأجساد .. ثم إشارات قوية لرعود وبروق .. وقد ظهرت علامات الانزعاج في وجوه ربان السفينة .. ثم كان الإعلان من كابتن السفينة عبر مكبرات الصوت يطلب من الركاب الذين يتواجدون في السطح أن ينزلوا ويلتزموا الكابينات .. إلا أن الأحوال سارت من سئ لأسوأ .. فقد كانت الغضبة من بحر فجأة أظهر الضغينة .. وأمواج مثل مارد مجنون هبت من غفوتها لتعلن حربها .. تقفز عشرات الأمتار إلى الأعلى وكأنها قد ملت الاستسلام والهدوء .. أما تلك السفينة التي كانت تظهر في صورة العملاق القادر المتمكن فجأة بدأت تظهر بحجمها الطبيعي أمام جبروت الطبيعة .. فبدأت كاللعبة في متناول الأمواج التي تضحك منها وتسخر .. تأخذها إلى اتجاهات غير وجهتها .. ترفعها في تهاون ثم تهبطها في مذلة .. فهي الآن أصبحت بمثابة دمية تتلاعب بها أيادي أطفال حيث يرمونها كيف شاءوا ثم يلتقطونها متى ما شاءوا .. وهي لا حوله ولا قوة لها .. وأدرك قبطان السفينة أن النهايات قد شارفت .. وكل الدلائل تشير بأن الأمور أصبحت خارجة عن سلطان البشر .. فأمر جميع ركاب السفينة للصعود لسطح السفينة ثم ارتداء أطواق النجاة .. وتم إنزال مراكب النجاة المطاطية بمشقة جمة حيث أن عدم استقرار الأمور بالميل تارة والعدول تارة أخرى من لحظة للحظة أوجدت العملية بمشقة كبيرة جداً .. وفي دقائق معدودة كان معظم الركاب بأطواقهم في مجموعات ومجموعات في مراكب النجاة .. ثم كانت التجربة المؤلمة عندما مالت السفينة ميلةً كبيرة ثم نامت على جنبها وسط العواصف والأمواج العنيفة .. وضاعت معالمها خلف جدران عالية من الأمواج المتلاطمة .. وفي لحظات قليلة تفرقت وتباعدت مراكب النجاة عن بعضها .. وكل مجموعة تقاوم وتناضل منفردةً في ذلك الجحيم المضطرب .. فأصبحت الأمور في كف الأقدار . 
                 هناك خالد في رحلة الكارثة مع مجموعته وسط الأمواج الغاضبة والأمطار الهادرة والعواصف الضاربة وفي ظلام ليل هالك .. والكل يتشبث بمقابض من الحبال المتينة المثبتة بأطراف القوارب المطاطية .. وفي لحظات أدرك أن الأمور على وشك النهاية .. فمرت أمامه شريط ذكريات حياته .. ثم فجأة كانت هناك في ذهنه صورة والدته ووالده .. وتلك الكلمات الأخيرة عند وداعه .. قالت له الأم : يا خالد أنت آخر ذكرياتي لأيام الرحم والولادة .. ويوم مولدك كنت أعلم يقينا بأن ذلك الطفل الذي بين أحضاني هو آخر عنقود تقر به عيني .. لأن علامات العمر كانت تشير بذلك .. وحيث تلك سنة الحياة .. وأنت عزيز جداً على قلبي .. عد إلى أمك عندما تتاح لك أول فرصة لذلك .. فأنا لا أطيق فراقك طويلاً .. أما الأب وقد أخذه جانباً ثم قال : يا خالد سوف أطلب منك طلباَ قد تراه غريباَ نوعاً ما ولكن تلك هي رغبة تريدها نفسي بشدة .. فأنا أريد أن أضمك إلى صدري للحظة .. فابتسم خالد ثم رمى بجسمه الغض في صدر أبيه الذي أخذه وضمه .. ثم استقر الحال لثواني معدودة ثم أبعده قليلاً ونظر عميقاً في عين ولده الصغير .. ولكن قوة العواطف الجياشة أوجدت دموعاَ في عين الأب وفي عين الولد .. والذي بدوره أراد أن لا يبوح بذلك فحول عينه عن عين أبيه حتى لا يراه . ثم ودعه الأب وهو يوصيه بالمحافظة على عقيدته .. وأن لا يحيد ويخرج عن جادة الطريق كما يفعل البعض .
                    في تلك اللحظات الهالكة وخالد يواجه المحنة والمحك مع غيره من الركاب لاحظ أن الكل يحمل علامات الفزع والخوف .. ثم لا شعورياً ينشغل الكل بذكرياته الخاصة وقد استسلموا وتركوا الأمور لكف الأقدار تفعل ما تشاء ..ثم عاد إلى نفسه وإلى اللحظات الأخيرة مع أبيه .. وفي تلك اللحظة كانت نفسه تتمنى لو أنه كان في حضرة أمه ثم لو أنه كان مازال في أحضان أبيه .. فتلك كانت أعذب وأروع لقاء وأحلى أحضان بين أب وابن .. ثم فجأة سولت له النفس بأنها كانت كذلك لأنه لن يرى أباه وأمه مرة أخرى في هذه الحياة الدنيا .. فترقرقت عيناه بالدموع .. ودون أن يقدر تواجد الآخرين بجواره .. ودون أن يقدر مراحل المسافات والأبعاد والأزمان نادى بأعلى صوته : ( يا أبـي ) . وفي تلك اللحظة انتفض الأب من مجلسه واقفاُ وهو يردد أللهم اجعله خيراً فإنني سمعت صوت ابني خالد يناديني .. وفجأة بدأ في ذهنه الناقوس المجهول يعاود النقر بالوخزات والهم والغم .. فأدرك الأب بغريزته بأن ابنه خالد في خطر ويواجه محنة كبيرة .. وفي تلك اللحظة دخلت عليه ابنته قائلة : يا أبي هناك أنباء عاجلة في الفضائيات تفيد بأن سفينة في طريقها إلى أوروبا قد غرقت .. وبمتابعة الاسم تبين أنها نفس السفينة التي سافر فيها خالد .. ودخلت الأسرة في مرحلة هم كبيرة .. وبدأت تتابع أنباء الكارثة أولاَ بأول .. ونالت الكارثة اهتمام معظم وكالات الأنباء .. وامتدت المتابعة إلى الثلث الأخير من الليل عندما أتت الأنباء وأفادت بان هناك ناجون من ركاب السفينة .. ثم بدأت ترد أسماء الناجين أولاً بأول .. وقبل الفجر كانت الفرحة الكبرى عندما ورد اسم ( خالد ) ضمن مجموعة جديدة تم إنقاذها . فكانت التهاني والحمد والشكر لله من أفراد الأسرة .. وقام الأب وتوضأ وصلى ركعتين حمداً وشكراً ً لله . وصورة خالد لا تفارق خياله أبدا .

 

ــ 
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد

 

 

 

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 266 مشاهدة
نشرت فى 4 سبتمبر 2012 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

801,134