بسم الله الرحمن الرحيم
قصـة الصدفة وليــدة الأقـدار !!
تأخر القطار عن موعده في التحرك .. فدخلت الأنفس في نوع من التململ .. وبدأ البعض في التذمر.. وقد زادت في الأمر صعوبةَ تلك الأعداد الزائدة عن حدها من الركاب .. وقد ضاقت المساحات المتاحة .. وحتى الممرات بدأت تشكو من ثقلها .. أما هو فكان من حظه أن وجد ركناَ هادئاً في نهاية العربة .. ومن هناك كان يتطلع إلى معظم الوجوه الواردة والشاردة .. خلطة عجيبة من البشر .. لم تراعى فيها حرمة الأديان .. فتلاشت الحدود التي تمنع الاختلاط ولكن للضرورة أحكام .. والكل يتمنى الخلاص بحركة القطار التي سوف تنهي تلك المعاناة عاجلاً أم آجلاً .. وتلك فتاة تجلس في نهاية العربة المعاكسة .. فكأنها توازن بوجودها كفة الميزان التي توازي مقعده .. ولكن الوجوه كثيرة وهي كغيرها تتواجد في ساحة المسرح التي أمامه .. ومع ذلك هناك شئ في الأعماق يجعل من بصره يرتد إلى النظر إليها بطريقة لا إرادية .. وغير مدبرة .. ثم في لحظات غاب عقله في ذكريات الماضي حتى أنه لم يتنبه لتحرك القطار الذي بدأ بصافرة حادة .. ثم أخذت عجلاته في عزف لحن الرحيل بوتيرة متناغمة مع زيادة في الإيقاعات .. والده يرحمه الله هو الذي أدخله في تلك المشاوير المتكررة .. فهو كان يسكن مع أسرته في قرية نائية بالشمالية .. تقع على مسافة ثلاثة كيلومترات من خط السكك الحديدية .. في محطة صغيرة تسمى محطة ( مرمر ) وهي محطة فقط يقف القطار عندها في سندة قصيرة قبل أن يواصل المشوار .. والعلامة الموجودة في تلك السندة عبارة عن غرفة صغيرة للسكك الحديدية من الطوب الأحمر .. شأنها شأن الكثير من المحطات .. أما غير ذلك فلا يتواجد أي نوع من العمران .. بل فاتحة الصحراء النوبية الواسعة .. رحل عنهم والدهم قبل سنوات إلى العاصمة بحثاً عن عمل .. وكان عمره في التاسعة عند رحيله وله أختان تكبرانه سناً .. وفي البداية كان يتواصل معهم .. ثم مع مرور الأيام انقطع عنهم .. ثم جاءت الأنباء تفيد بأنه تزوج بالعاصمة وخلف بنتاً .. ثم حتى تلك الأنباء انقطعت في نهاية المطاف .. ودارت الأيام وكبر هو وأخواته .. والتحق بجامعة في العاصمة الخرطوم .. وكان عليه أن يرجع لقريته في الإجازات .. ووسيلة السفر المتاحة لقريتهم فقط هو القطار .. ثم بعد انقطاع شبه كامل جاءت الأنباء التي تفيد بانتقال والده إلى الرفيق الأعلى .. أما هي فتلك سفرتها الأولى في حياتها .. فهي أيضاَ في السنة الأولى في كلية جامعية .. وقد تجرأت وأرادت السفر برغم نصيحة أهلها بعدم المحاولة .. لم تحس بوجوده في بداية الأمر ولكنها أيضاً ترى وجهه ضمن الوجوه التي أصبحت مألوفة في شاشتها .. وهو في النهاية واحد من العشرات الذين يتواجدون داخل العربة .. القطار مر بالكثير من المحطات .. ولكن تأخره في القيام قد أربك الحسابات .. وعادة كان القطار يأخذ سندته في ( مرمر ) عند منتصف النهار ولكن هذه المرة فلا مناص من المرور والوقوف عندها عند منتصف الليل .. استعد الشاب أن ينزل في محطته ( مرمر ) مع علمه بأن التوقيت غير مريح .. وأنه سوف يواجه وحدة التواجد في قلب الصحراء عند منتصف الليل .. حيث لا حركة ولا مجال انتقال إلى القرية إلا مشياً بالأقدام .. ثم بدأ القطار في تخفيف سرعته استعداداً لأخذ سندته في محطة ( مرمر ) .. ثم بدأت العجلات ترخي شدتها مع أنين وشكوى من المجاهدة الطويلة .. ثم توقفت نهائياً مع صرخة أخيرة موجعة .. فنزل الشاب من القطار بسرعة لعلمه بأن تلك الوقفة هي السندة .. ثم أخذت العجلات في التحرك مرة أخرى مع زيادة مضطرة في صيحة الأوجاع .. ووجد نفسه في الأرض وحيداً وهو يتأمل مغادرة ا لقطار .. ثم أخذت العجلات تودعه بعجالتها المعهودة وخاصة تلك العربة الأخيرة .. التي مرت أمامه ساحبةً كل الماضي من آلام القطار .. ثم التفت يميناً ووقف مذهولاً عندما رآها تقف على مسافة منه .. تعجب من الأمر !! من هي تلك الفتاة ولماذا نزلت في تلك السندة .. وخال له أنها قد أخطأت الاختيار فنزلت في محطة غير محطتها .. ثم في استحياء شديد تقدم لناحيتها .. فالمروءة في تلك الأحوال لازمة .. حيث أن حواجز العرف والتقاليد لا تفي بالغرض .. وهم أن يصحح لها الخطأ في الاختيار .. ولكنها بادرته بالسؤال قائلة : هل هذه محطة ( مرمر ) ؟؟ .. فضاعت حساباته في الظن .. وطغت مستجدات في الأمور .. فأجابها بالنعم .. وأدرك أنها أيضاً في نفس المرام .. وهي كانت وجلة في بداية الأمر عندما نزلت من القطار لأنها كانت تظن أنها وحيدة في تلك المحطة .. ولكنها اطمأنت عندما وجدته يقف هناك .. وكعادته لم يرد الدخول معها في تفاصيل ما بعد الحكاية .. وهو من عادته ضعيف المواجهة وخاصة إذا كانت المواجهة مع الجنس الآخر .. فآثر السكوت .. ثم تحركا معاً مشياً بالأقدام صوب القرية .. والمسافة ليست بالقصيرة .. ولكن برودة الليل مع برودة الصحراء خففت عنهما المعاناة .. ولما اقتربا من القرية بدأت كلاب القرية تلاحظ قدوم الغرباء .. ثم بدأت تسخط وتعلن الأنباء .. فسمعتها أطراف القرية .. ثم بدأ البعض في التحرك .. وبدأ بعض الأبواب تسمع صريرها .. وخرج البعض يتحسسون من الأٍمر وهم يحملون المشاعل اليدوية الكهربائية .. وتقدم جماعة منهم صوبهما .. ثم هو عرف البعض منهم وقد عرفوه .. وكانوا يتوقعون قدومه بالنهار .. فاستقبلوه بالأعناق والترحيب .. ثم نظروا إليها باستغراب .. فلم يستطع أن يقول لهم شيئاً .. وعجز عن يقول أكثر من عرفوه عنها .. أما هي فلما رأت الحيرة في الوجوه أرادت أن تبرر وجودها .. فسألتهم عن اسم القرية فأعطوها الإجابة .. ثم سألتهم عن اسم ( فاضل بشارة ) فكأنما نزلت صاعقة من السماء .. فوقف الجميع فجأة عن الحركة والتفوا إليها ونظروا لناحيتها بشي من الاستغراب والحيرة .. ثم طلبوا منها أن تعيد السؤال ففعلت .. أما هو فقد ألجم الاسم حركته وشلل تفكيره .. فقال لها : وما علاقتك بفاضل بشارة .. فأجابت قائلة إنه أبي !! .. فرجع خطوات نحوها .. ثم نظر إليها من جديد .. ثم قال لها : هل معقول أنت أختي ؟؟ أنا ابن فاضل بشارة .. فنظرت إليه بتعجب وذهول وقالت له : هل أنت أخي الزين ؟؟ .. ووسط ذهول الحاضرين أخذ الأخ بيد أخته التي سافرت معه دون أن يعرف أحد الآخر .. وسلم عليها وقادها إلى البيت وسط فرح الجميع الذين أرادوها فرحة حتى الصباح .. ثم تعانقت معها الأختان في شوق ومحبة .. فكانت فرحة اللقاء مع مفاجئات الأقدار ..
ــــــــــــ
الكاتب / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش