الواقع الافتراضي: عالم تصنعه التقنية
عالم بديل يتشكل في ذاكرة الحاسبات يخلق حالة من التواجد المكتمل ويعطي افقا اخر لتطور البشرية.
برغم شيوع مصطلح الواقع الافتراضي، فمن النادر أن نجد مستخدميه يُجمعون على نفس المعنى لهذا المصطلح، وربما يكون التعريف الأقرب للصواب هو: أن الواقع الافتراضي عالم يصنعه الحاسب الآلي، بحيث يمكن للإنسان التفاعل معه آنياً، بنفس الأسلوب الذي يتفاعل به مع العالم الحقيقي.
وفي استطلاع رأي أجرته مجلة العلوم الأمريكية، حول التطبيقات التكنولوجية التي يظن الناس أنها ستسهم في تغيير شكل العالم في المستقبل المنظور، جاء الواقع الافتراضي في المركز الثاني، قبل الاندماج النووي والهندسة الوراثية، ولم يسبقه سوى الذكاء الاصطناعي!.
وعلينا، بدايةً، أن نميِّـزَ بين ثلاثة أنواع من الواقع الافتراضي، أو ثلاثة (عوالم) يخلقها هذا الواقع، وهي:
واقع افتراضي يخلق حالة من التواجد المكتمل:
وفيه، يتم إيهام المستخدِم بأنه لا وجود للحاسوب والعالم الحقيقي، فلا يرى أو يشعر بأي شيء سوى هذا العالم المصنوع، الذي يوجده الحاسوب، ويتصرف –داخله- بحرية تامة.
وتتم (رؤية) هذا العالم المصنوع بواسطة خوذة خاصة، أو نظارة إلكترونية تتصل بالحاسوب؛ كما يرتدي المستخدم، في يديه قفازات إلكترونية، كوسيلة إضافية لتجسيد الواقع الافتراضي، تتيح له ملامسةً الأشياء التي (يظن) أنها موجودة.
واقع افتراضي محدود الوظيفة والمكان:
ويستخدم هذا النظام في أجهزة المحاكاة (Simulators)، وينصبُّ اهتمام المصمم، في هذا النوع، على محاكاة خواص أو جزئيات بعينها في الواقع الحي (الحقيقي)، مثل تأثير الجاذبية، أو السرعة الشديدة، مع اهتمام أقل بالتفاصيل.
واقع افتراضي طرفي:
وهنا، تكون رؤية العالم الافتراضي، ويتم التعامل معه، عن طريق شاشة الحاسب الآلي، دون الشعور بالتواجد الواقعي داخل العالم المصنوع.
وثمة من يبشر بنوع رابع من الواقعية الافتراضية، لم يوجد بعد، لكنه مستخدم بكثرة في أفكار أدب الخيال العلمي، وفيه يتم تجاوز مخاطبة الحواس إلى مخاطبة العقل مباشرة، بمعنى أنه إذا كان العقل يتلقى من حواسنا المختلفة إحساسها بالعالم، عن طريق إشارات كهربائية، وتكون عملية الإدراك هي مسئولية العقل، الذي يقوم بترجمة هذه الإشارات إلى عناصر لنا بها خبرة.. إذا كان الأمر كذلك، فمن الممكن الإيحاء بوجود أي مؤثر عن طريق توليد نفس الإشارة الكهربية التي كان هذا المؤثر يقوم بتوليدها.
إن ذلك ممكن –نظريا– في الوقت الحالي، من وجهة نظر التقدم العلمي والتقاني، غير أن تطبيقه سيستغرق بعض الوقت.
يمكننا أن نستخلص ،مما سبق، أن للواقع الافتراضي خاصيتين أساسيتين : أولاهما، التواجد الحميم أو الانغماس immersion) )، والثانية هي التفاعل (interactivity).
أولاً: التواجد الحميم (الانغماس)
هو الشعور الذي يتولد لدى مستخدم برامج الواقع الافتراضي بأنه متواجد -حقَّـــاً– داخل هذا العالم، ومرتبط به، ومسئول عنه. ويتميز هذا التواجد إلى ثلاثة مستويات :
1. التواجد في الفراغ (spatial): الإحساس بالوجود في المكان، وتخيله، ورسم علاقات بين جزئياته.
2. تواجد تعلُّقي (temporal): بمعنى عدم النفور من هذا العالم أو الإحساس بالغربة فيه مع رغبة واضحة في البقاء به، ومتابعة ما يطرأ عليه من تطور وتبدُّل.
3. تواجد شعوري (emotional): أي الإحساس بالارتباط بهذا العالم، حتى بعد مفارقته، والقدرة على تذكر مفرداته، بعد انتهاء تجربة معايشته.
ثانياً: التفاعل
وهو قدرة مستخدم البرنامج على التأثير في هذا العالم المصنوع الذي يراه أمامه، والتعامل معه بنفس المنطق الذي يستطيع التعامل به مع الحياة العادية، فلا يكون ملزماً بسلوك بعينه، أو زوايا رؤية لا يحيد عنها، مثلاً.
وفي الوقت الراهن، تفرض علينا الأنماط الحالية من أجهزة الحاسوب إمَّــا التضحية بقدرتنا على التفاعل داخل العالم المصنوع، في مقابل تأكيد وترسيخ أكثر لإحساسنا بالتواجد في هذا العالم أو العكس.
إن تحقيـق إحساس أعلى للمستخدم بالعالم الافتراضي يستلزم الإكثار من التفاصيل في هذا العالم لكي يصبح شبيهاً بالواقع، بينما تفرض علينا حالة التفاعل الإقلال من العناصر التفصيلية للعالم الافتراضي، قدر الإمكان، أو بمعنى آخر، توفير قدرات الحاسوب من ســعة ذاكرة وسرعة، لنتمكن من إعادة رسم العلاقات بين مكونات العالم بسهولة، مع كل تغيير يقوم به المستخدم في تفاعله مع هذا العالم.
ولكي نوضح هذه المسألة، أكثر، نقول إن العوالم المتكونة افتراضياً تعتمد اعتماداً شديداً في إبهارها على التفاصيل فائقة الدقة المثيرة للمشــاعر، فتقترب بالمستخدم من الواقع -أو العالم– الافتراضي، وتخلق لديه حالة التواجد الحميم فيه؛ بينما تمثل هذه التفاصيل الكثيرة و (الثقيلة) مشكلة تقنية تعجز عن تحملها برامج وأجهزة الحاسوب الحالية.
إن العالم الافتراضي يعاد إنشاؤه، فعلياً، مع كل خطوة للمستخدم داخله، وبالتالي فكلما ازدادت التفاصيل طال زمن المعالجة، أو إعادة الإنشاء، وبالطبع، فإن عملية إعادة إنشاء العالم الافتراضي يجب أن تتم دون أن يشعر المستخدم بها.
والمأمول أن تسعفنا تكنولوجيا الحاسبات، في المستقبل القريب، بحاسبات أكثر سرعة، وأوسع ذاكرةً، تتيح عدداً أكبر من التفاصيل، وزمن معالجة أقل، لننعم بالتواجد الحميم داخل العوالم الافتراضية، وبالتفاعل مع مكوناتها، فلا نكتفي بالتأثر بها، بل نؤثر فيها أيضاً، فنحذف منها ما لا نرضى عنه، ونضيف إليها ما يتفق وأذواقنا ورؤيتنا للحياة.
ومن التقنيات التي استحدثت لتجسيد التعايش والإحساس بالحركة في العوالم الافتراضية، نظامٌ يحاول صنع حالة من التواجد الكامل، بإلغاء الإحساس بوجود فارق بين الواقع الحقيقي والافتراضي، فالمستخدم يمشي على قدميه بالفعل داخل العالم، ويرى ويسمع عن طريق النظارات وغيرها من وسائل التفاعل مع مفردات العالم المصنوع.
ويستخدم هذا النظام لمعالجة بعض الأمراض مثل (رِهَاب، أو فوبيـــا، الأماكن المرتفعة).
الجدير بالذكر أن السير داخل العالم الافتراضي المصنوع أصعب بكثير من السير داخل الفضاء الواقعي، ففي الأخير، تلعب الجاذبية الأرضية دوراً أساسياً في ضبط إحساسنا بالمكان، إذ تؤثر علينا رأســياً، فتتولد ثقتنا الدائمة بأن الأرض من تحتنا والسماء فوق رؤوسنا؛ وليس ثمة احتمالات أخرى.
أما في العالم الافتراضي فلا توجد مثل هذه الاعتبارات، إذ يحتمل، بعد قليل من التجول، ونتيجة لخطأٍ مـا، ولو يسير، في اتجاه الحركة، أن تصبح رأسك الافتراضية لأسفل، وتظهر بالعالم عناصر غريبة لا يمكن تفسيرها.
لذلك فإن الكثير من لغات البرمجة التكوينية الحديثة تضع عاملاً خاصاً بالجاذبية في برامجها، وهذا العامل، وإن كان يضفي الكثير من اللمسات الواقعية، إلاَّ أنه يجعل البرامج أعقد عند التنفيذ.
كما أن دراسة مكونات (حاستنا المكانية spatial sense) هي من الأهمية بمكان، وذلك لضمان محاكاة الواقع فعلياً، ومن هذه المكونات، المسافة التي يمشيها المستخدم في مساره بالعالم المصنوع، ومدى استقامة أو تبدل الطريق، والجاذبية الأرضية.
على أي حال، ومن المنظور الحالي لقدرات أنظمة الواقع الافتراضي، وهي قدرات مرتبطة بالمستوى المتاح من معطيات التكنولوجيا، فإن للواقع الافتراضي مزايا لا يمكن تجاهلها منها:
1- توفير نفقات إنشاء أنظمة حقيقية.
2- محاكاة الأنظمة التي يحول البعد أو الخطورة دون ارتيادها.
3- محاكاة الأنظمة التي تفرض الظروف ضرورة التواجد بداخلها إنشائها فعلياً (المباني /السيارات /الطائرات).
4- محاكاة الأنظمة المعقدة صعبة الإنشاء أو غير المستقرة.
5- محاكاة الأنظمة التي يصعب التواجد بقربها أو بداخلها، وتسخير التفاعل معها لتعظيم فرص تفهم أدائها لوظائفها.
6– الاقتراب الشديد من العوالم الضئيلة (في مستوى الجسيمات) والعظمى (في مستوى الأجرام السماوية) وزيادة تفاعلنا معها عن طريق تمثيلها فراغياً بنسب وأبعاد محسوسة.
7– تتيح تقنيات الواقع الافتراضي إمكانيات جديدة لنشر الثقافة، فإذا كانت وسائل الاتصـال السمعية والبصرية قد حققت الاتصال المكاني وإمكانية (تسجيل) الثقافات المختلفة، فإن تقنيات الواقع الافتراضي تحقق اتصالاً من نوع جديد، زمانياً/مكانياً، بالإضافة إلى ما تتضمنه من قدرات تفاعلية، بدلاً من الاكتفاء بالتلقي السلبي، فقد أصبح ممكناً إحياء أو إعادة عرض لثقافات مغايرة، منفصلة عنَّا زمانياً ومكانياً، ليس فقط كنصوص، بل كنمط حياة.
ويهمنا، أخيراً، أن نشير إلى احتمالات أن يكون ارتياد العوالم الافتراضية مصدر خطر لمرتاديها، ويرى البعض أن التوسع في أنواع الواقع الافتراضي التي تخاطب العقل عن طريق الحواس قد يكون له تأثيراته الضارة على مستخدميها، ومن هذه التأثيرات:
- تؤدي بعض الألعاب التي تصنع حالة من الواقع الافتراضي الطرفي، مثل اللعبة المسماة doom، إلى حالة من إدمان التواجد بداخلها. ويخشى علماء النفس أن يتولد من هذه اللعبة (أجيال) أكثر قدرة على تحقيق درجة من التواجد التام داخلها، فترتفع معدلات إدمانها.
- حالة من عدم القدرة على التفرقة بين ما هو حقيقي وما هو واقعي افتراضي، وتتميز هذه الحالة إلى مستويين:
- المستوى الأول: فقدان حقيقي للتفرقة (يكون لا إرادياً ولحظياُ)، حيث يعتبر الفرد العالم الحقيقي امتداداً لما كان يفعله بالواقع الافتراضي، ويتصرف معه بنفس مستوى الجدية أو الاهتمام، ولهذا لا يسمح للطيارين، الذين تمرنوا على أجهزة المحاكاة، بممارسة بالطيران الحقيقي قبل مرور 24 ساعة على انتهاء التمرين.
- المستوى الثاني: تطوير سلوك تمت تنميته أثناء التواجد في الواقع الافتراضي، ويستمر مع الإنسان في العالم الحقيقي. والخوف أن يكون هذا السلوك عنفاً جسدياً أو إرهابا.
- توليد حالة من الإجبار العقلي (غسيل العقول)، فالأنظمة المستخدمة بهذه التقنية يمكنها توليد التأثير النفسي الكفيل بإزالة أنواع من (الرهاب) أو (الفوبيا)، ألا يمكنها أيضاً زرعها في أشخاص أسوياء؟!.
عالم التكنولوجيا والإختراعات
شعبة تكنولوجيا التعليم - قسم المناهج - كلية التربية - جامعة أسيوط ترحب بك زائراً مستديماً ومشاركاً بالآراء والأفكار التكنولوجية الحديثة التي تبني هذا الموقع. »
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
18,123
ساحة النقاش