<!--<!-- <!--
الوصايا العشر
للعاملين بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وعبده وبعد:
فإن هذه الرسالة قد كانت محاضرة ألقيتها في المخيم الربيعي الذي أقامته جمعية إحياء التراث الإسلامي -بالكويت (المنطقة العاشرة) الإثنين 28 جمادى الأولى سنة 1408هـ الموافق 8/1/1988م- ولأن هذه المحاضرة قد كانت ثمرة قلب، وخلاصة تجربة في الدعوة، استمرت بحمد الله نحواً من ثلاثين عاماً، أحببت أن أنقلها كتابياً لإخواني المسلمين في كل مكان لما أرى لها من أهمية بالغة، وفائدة كبيرة أرجوها لإخواني الدعاة إلى الله.
ولما كانت هذه المحاضرة قد ألقيت ارتجالياً خاطبت فيها العامة، فإنني اضطررت عند نقلها كتابياً أن أغير ما لابد منه من (ألفاظ عامية) لتكون مناسبة للقراءة، ولكن بقي طابعها العام ومخاطبتها لجمهور الناس.
وإني أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل لوجهه خالصاً، وأن يرزقني حبه ورضوانه، وأن يوفِّق إخواني الدعاة في كل مكان إلى التزام صراطه المستقيم، واقتفاء أثر رسوله الكريم.
وأن يستعملنا في طاعته على النحو الذي يحبه ويرضاه، إنه هو السميع العليم.
عبدالرحمن بن عبدالخالق
الكويت الثالث من رجب الحرام سنة 1408هـ
الموافق 20 من نوفمبر سنة 1988م
<!--<!-- افتتاح وبدء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مدخل
نحن نتمنى بحمد الله تعالى إلى أمد الهداية الأمة المختارة من الله سبحانه وتعالى لحمل رسالة السماء، الرسالة الخاتمة، رسالة محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه، والدعوة إليها والتبشير بها إلى يوم القيامة، وهذه الأمة المهتدية قد مرت عليها أيام سعد وعز ونصر وتمكين لما قامت بهذه المهمة، التي جعلها الله السبب والسبيل إلى هذا النصر والتمكين، أعني لما قامت بالإسلام أعزها الله سبحانه وتعالى، ثم مرت عليها أيام محن وألام ومصائب، وذلك لا شك قد كان بسبب تركها لهذه المهمة العظيمة: مهمة الإيمان بالله والدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحالنا اليوم لا يخفى على عاقل، وأنتم بحمد الله أهل الإيمان وأهل الإسلام من أهل العلم والفطنة لا يخفى عليكم ما الحال التي آلت إليه الأمة، وبالتالي لا نطيل في ذلك، بل نركز الكلام في القواعد التي يمكن بها أن تبعث الأمة من جديد، وأن تعود كما كانت، تتسلم راية الله عز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس، سأركز إن شاء الله في عشر نقاط أرى بحكم تجربتي أن هذه النقاط لو أخذت بها الأمة فإن النتيجة الحتمية بحول الله تبارك وتعالى وقوته هي العز والنصر والتمكين، والفوز برضوان الله بالآخرة، والسعادة والفلاح، وهذه الوصايا العشر سأسند كل وصية فيها إن شاء الله إلى دليل من كتاب الله أو سنة نبيه صلوات الله عليه وسلامه، وكذلك وقائع السير والتاريخ، وسترون إن شاء الله أن هذه النقاط العشرة من البديهات، ولكنها للأسف تغيب عن كثير من المسلمين العاملين في حقل الدعوة، بل عموم المسلمين قد لا يهتمون بشؤون الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
<!--<!-- الوصية الأولى
البدء بدعوة الناس إلى تحقيق غاية وجودهم: عبادة الله وحده لا شريك له
أول محطة في طريق الدعوة أن نستطيع أن نقول: إنها نقطة المنطلق، لابد أن نعرف غاية الخلق وسر الوجود، وهذه النقطة قد فصَّلها الله تفصيلاً كاملاً في كتابه، وبينها النبي بياناً كاملاً، وهي النقطة التي يدور عليها عمل الرسالات جميعاً، بل ما أقيمت السماء ووضعت الأرض إلا من أجلها، وهي باختصار: عبادة الله تبارك وتعالى وتوحيد الله عز وجل، فالله ما خلق الخلق إلا ليعبدوه، الخلق كله بعلوه وسفله: سماواته وأرضه، ملائكته، وإنسه وجنه، ما خلق الله شيئاً إلا ليكون هذا الشيء عبداً له ومؤتمراً بأمره ومنفذاً لحكمه، ومشيئة الله تبارك وتعالى نافذة في كل خلقه سواء كان كافراً أو مؤمناً: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} لا خروج لأحد عن دين الله عز وجل، حتى الكافر فهو في دين الله، وفي حكم الله، وفي قهر الله، وفي جبروت الله، وفي قبضة الله سبحانه وتعالى، لا انفكاك لأحد منا عن حكم الله وتصريفه، فتصرف الله في الكائنات نافذ، وأمر الله عز وجل الكوني القدري لا رادّع له، السموات والأرض مسلمة لله عز وجل، والكافر مسلم رغماً عنه: بمعنى أنه لا ينفك عن قضاء الله وقدر الله فهو يولد بأمر الله، ويمرض بأمر الله، ويموت بأمر الله، ويرزق برزق الله، وكل ما يعمله إنما هو بمشيئة الله عز وجل: {والله خلقكم وما تعملون} {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} {ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، يعني لو شاء الله ألا يفعل الكفار كفراً لما فعلوا، فهذه القضية الأساسية: أن الله عز وجل ما خلق الخلق إلا ليعبدوه، وأنه سبحانه شاءت حكمته أن يصطفي من البشر من يعبده، ويكرمه الله بهذه العبادة، ويرشده إليها ويوفقه إليها، وأن الله شاءت حكمته أن يكون هناك المتأبي على الله الذي لا يتبع هذا المنهج ويعارضه، ويكون مصيره الخذلان والنار، وهذه مشيئة الله النافذة: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}.
فهذه النقطة ينبغي أن تكون هي المنطلق الأول في الدعوة إلى الله عز وجل: الانتماء إلى هذه الأمة التي أوجدت لمهمة وهي: أن تدعو إلى عبادة الله التي من أجلها خلق الله السماوات والأرض، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وقامت المعركة بين الكفر والإيمان، والهدى والضلال: كل هذا من أجل هذه الكلمة {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ إنما إلهكم إله واحد} {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}، فالوحي يصيب في هذه النقطة ويبدأ من هذه النقطة {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}، وبالتالي الأمة الإسلامية: يقولون عنها (أمة الفكرة) يعنون أمة العقيدة، والمعنى أن تجمع هذه الأمة ليس على أرض، ولا على وطن، ولا مبدأ اقتصادي كشيوعية ورأسمالية، ولا على نظام اجتماعي وسياسي كديمقراطية وغيرها، التجمع على أساس لا إله إلا الله، هذا هو نبينا محمد صلوات الله عليه، هذا أول المسلمين كيف اجتمع الناس إليه، هل قال لهم: أنا عربي، هلموا إليَّ، أو أنا قرشي وليأتني كل قرشي، أو نحن أهل الجزيرة فلنتكتل على أساس أنَّا أهل الجزيرة (..) كلا إنما بدأ الدعوة بلا إله إلا الله، وانضم إليه من آمن بهذه القضية، فأصبح صاحباً له وأخاً للنبي على هذا الأساس، فقام نظام المولاة والمعاداة على هذه القضية: فمن دخل حزب النبي صلوات الله عليه دخل حزب الله {ألا إن حزب الله هم المفلحون} من دخل في هذا الحزب دخل على أساس هذه الكلمة، ومن خرج من هذا الحزب، كان كذلك من أجل هذه الكلمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حدد موقفه من القرشيين ومن العرب ومن غيرهم على هذه الكلمة، وبالتالي ينبغي أن نفهم أن المنطلق لغز الأمة إنما هو الاجتماع على عقيدة يسميها الناس بلغتهم (الفكرة)، ونسميها العقيدة، هذه أمة العقيدة، أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، نجتمع على هذه الكلمة ونفترق على هذه الكلمة، فالاجتماع والافتراق والموالاة والعمل كله، والمنطلق كله، من هذه القضية، وبالتالي هذه هي النقطة الأولى.
إذن الخطوة الأولى نحو عز الأمة ونصرها وتمكينها في الدنيا، ثم سعادتها في الآخرة وفوزها برضوان الله عز وجل ينبغي أن تكون من لا إله إلا الله، أي تجمع ينبغي أن يكون على هذه النقطة الأساسية، والعمل في البداية عليها، ولا شك أن تحت هذه الكلمة علم عظيم وهو أن لا إله إلا الله ليس بالمعنى، الذي نصوره نحن ونخترعه نحن ونتخيله نحن، إنما بالمعنى الذي أراده الله وبينه الله عز وجل، ووضحه الله، وذلك أن كثيراً من الناس يدَّعي الإيمان بلا إله إلا الله حتى الهنادك يقولون لا إله إلا الله يعني أن لكل هذا الكون إله ورب واحد ويقولون نحن من أهل التوحيد أهل لا إله إلا الله.
ومعلوم أنهم من أكثر الناس نجاسة وشركاً، لأنهم يعنون بالإله وحدة الوجود.
وقد اختلف المسلمون أيضاً في مفهوم لا إله إلا الله اختلافاً بعيداً: فبعض هؤلاء المسلمين عندهم أن الرب معنى لا حقيقة له، ولا يوصف بأن له عُلواً كما جاء في الكتاب والسنة، يقولون (هو لا فرق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا داخل هذا العالم ولا خارج هذا العالم)، ولا يوصف عندهم بصفة ثبوتية بتاتاً، والمستوى على العرش عندهم هو جبريل، ويقول بعضهم هو النبي محمد عليه الصلاة والسلام، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فيجب أن نؤمن بالله بالصفات الموجودة له سبحانه في كتاب الله والموجودة في أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم. أعني أن يكون التوحيد بحسب مواصفات الكتاب والسنة، وليس بحسب ما يتخيله الجاهلون.
فالله هو الرب الرحمن الرحيم، العزيز الكريم المستوي على عرشه سبحانه وتعالى، الذي بيده مقاليد كل شيء، والذي لم يقم آلهة تعبد من دونه، فلم يأذن بهذا ولم يرض بهذا سبحانه وتعالى، الرب السميع العليم المراقب لحركات عباده الذي لا يغفل ولا يسهو عن شيء من فعل خلقه وعباده سبحانه وتعالى، ولا يرضى سبحانه أن يُعَقَّب على أمره ونهيه، فنؤمن بالرب على هذا النحو، ليس الرب الذي يُزعم أنه ترك الناس هملاً ليتخذوا من المناهج ما شاؤوا ويدعوا من كلامه من شاؤوا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ليس هذا هو رب المسلمين، لأن الله عز وجل في حكمه وفي صفاته لا يرضى أن ينازع الأمر سبحانه، هل يقول : افعل ويأتي مخلوق ويقول: لا تفعل، ثم نطيع ذلك المخلوق!! الرب لا يرضى هذا، ليس هذا من صفاته، فالذي يعبد رباً على هذا الأساس يعبد رباً من انتحاله هو، ومن فهمه هو، وليس هو رب العباد سبحانه وتعالى، رب العباد حقاً هو الذي يقول عن نفسه: {والله يحكم لا معقب لحكمه} {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
إذن لابد من فهم هذه القضية كما بيَّنها الله في كتابه وفي سنة نبيه: هذه قضية ونقطة لا أطيل فيها وإن كانت هي في ذاتها تحتاج إلى إطالة.
ولسنا في مقام التفصيل وإنما القصد الإجمال حتى لا يشط بنا المقام.
<!--<!-- الوصية الثانية
توحيد الصراط: يجعل الكتاب والسنة مصدراً للتشريع واتّباع سلف الأمة
ورد كل خلاف إلى كلام الله وكلام رسوله
إنه لابد من توحيد الصراط، فالأمة التي تريد أن تعتز وتنتصر لا بد أن يكون صراطها واحداً، بمعنى أن يكون منهجها وطريقها واحداً، ما معنى المنهج والطريق؟ يعني السنن العملية في الحياة، كما ينبغي أن يكون التشريع واحداً كذلك، وهذا الذي نقوله ونطلبه في صلاتنا إذ نقول: {اهدنا الصراط المستقيم}.
الصراط: الطريق {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
والنبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً وخط بجانب هذا الخط المستقيم خطوطاً متعرجة فقال: [هذا صراط الله مستقيماً، وهذه السبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم تلا قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}].
ما معنى الصراط؟ الصراط منهج عملي كامل، بمعنى أنك في الأربع والعشرين ساعة تعمل، تعمل أشياء كثيرة، قيامك من النوم وطهورك وصلاتك وخروجك من منزلك وسعيك لمعاشك، وتربيتك أولادك، ومعاشرتك لجيرانك، وزوجتك، والناس وتعاملك، وكلامك، وأخذك، وبيعك، وعطاؤك، وما تقابله من نعيم في هذا اليوم وما تقابله من محن ومشكلات، المنهج العملي الكامل هو مجموعة التصرفات كلها، لا يوجد تصرف من تصرفات الإنسان ليس لله فيه حكم {ما فرطنا في الكتاب من شيء} {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء}.
فما من تصرف للإنسان على هذه الأرض إلا ولله فيه حكم، فيقول لك هذا مباح فاعمله، وهذا واجب لا بد أن تؤديه، أو هذا حرام إياك أن تفعله، أو هذا مندوب إن شئت فعلته فلك أجره، أو هذا مكروه الأولى لك أن تتركه، فأعمال المكلفين تقع ضمن أحكام تكليفية، ما ينفك المكلف عن حكم الله، هذا معنى الصراط، الصراط هو المنهج العملي فالدين صبغة كاملة: كيف تتصرف تجاه الله سبحانه وتعالى، تجاه النبي، تجاه المؤمنين، تجاه الكفار، تجاه الزوجة، تجاه الأولاد، تجاه الناس، لا يوجد تصرف من هذه التصرفات إلا وفيه حكم، وبالتالي لابد أن يكون لنا تصرف واحد، فإذا قال المؤذن: حي على الصلاة: فنتوجه جميعاً إلى الصلاة، وإذا رأينا المنكر تشمئز منه قلوبنا، كلنا نشمئز من هذا المنظر، ونحاول إنكاره بما استطعنا، إذا حلت بنا مصيبة وقفنا منها موقفاً واحداً: الصبر والتسليم لأمر الله والتصرف بما أمر الله سبحانه وتعالى، هذا إذا كان تصرفنا واحداً.
ولكن إذا كنا مختلفين في العقيدة تصرفنا تصرفاً مختلفاً، فإذا قال المؤذن: حي على الصلاة: فواحد يكره هذا ويولي ظهره وآخر يلبي النداء، إذا رأينا منكراً، أحدنا يستحسن هذا، وآخر يستنكره، وإذا رأينا امرأة عارية في الطريق فواحد يستحسن هذا، ويشجع هذه ويأمر به، وآخر يلعنها ويسبها، ويقول لها: لعنك الله، لقد خالفت أمر الله وأمر الرسول وتستحقين اللعن، وهكذا يكون تصرف أمام المنكر مختلفاً، فلا بد من توحيد الصراط في العمل، وكذلك في المنهج التشريعي: صلاتنا واحدة، وصيامنا واحد، فقهنا واحد، ما أمكن بالطبع، توحيد الصراط، وهذا بلا شك لا يعني التطابق التام في كل صغيرة وكبيرة، لأن في قضايا الإسلام كما ذكرنا صبغة عامة، ولا يمكن أن يتطابق المسلمون حول كل تصرف من التصرفات، وبالتالي لا بد أن يكون هناك اختلاف في بعض القضايا الاجتهادية، لكن الله تبارك وتعالى أرشدنا فقال سبحانه: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} وقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً}.
سيبقى عندنا إذا اختلفنا مركز اللقاء في كلام الله وكلام رسوله، يكون هذا هو المرجع، لا عقلي ولا عقلك ولا عرفي ولا عرفك، ولا أخلاق قبيلتي وأخلاق قبيلتك، إنما المرجع إذا اختلفنا هو كتاب الله وسنة نبيه محمد عليه السلام، كل أحد بعد النبي يؤخذ من قوله ويرد عليه، هذا هو المنهج كما قال الإمام مالك: ما منا إلا وقد رد -أي على غيره من العلماء- ورد عليه -أي من العلماء- إلا صاحب هذا القبر (يعني النبي صلى الله عليه وسلم).
فالذي يرد على النبي كالذي يقول للرسول: أخطأت في هذا الاجتهاد، أو أنت لم تحكم بالعدل في هذا، أو هذا مخالف للمعقول، هذا يكون كافراً بالله، لأن الرسول لا يشرع من عند نفسه، أما غير النبي فيمكن أن نرد عليه ونقول: أنت جاوزت الحد في هذا، كلامك في هذا مرجوح، وقولك في هذا مخالف للحق، لا مانع في هذا، ما دمنا نعتقد أن الحكم بيننا هو الرجوع إلى كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه قضية هامة.
المسلمون اليوم مختلفون في المنهج التشريعي: في مسائل العبادات ومسائل العمل ومسائل الحرام والحلال، لابد من محاولة جمع شمل الأمة الواحدة، لابد أن يكونوا متفقين في هذا، كان الصحابة يتشددون في هذا تشدداً عظيماً جداً، أذكر مثالاً على ذلك: عندما اختلف الصحابة: هل الغسل من الجنابة هو من الإنزال أو من التقاء الختانين، فقال بعضهم: "إنما الماء من الماء" وجاء عمر رضي الله عنه وحسم القضية وقال: "سلوا عائشة" فقالت: "إني سمعت رسول الله: يقول: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل".. فقال عمر: لا أسمع أحداً أفتى بخلافه إلا جعلته نكالاً. (رواه الإمام البخاري) والمعنى أنكل به لو أفتى بخلاف ما توصلنا إليه أنه الحق: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
فتوحيد الصراط مهم جداً فالصحابة كانوا يختلفون في بعض الأمور ولكن في الأمر الجامع لا يختلفون: اختلفوا في قضية الإتمام في السفر، إتمام الصلاة الرباعية، فهذا عثمان رضي الله عنه كان يتم وهو في الحج فأفتوا بخلافه، ولكن عندما كان يقوم للصلاة، كانوا يصلون خلفه أربعاً، فقال بعضهم: كيف تفتون أن الصلاة اثنتان وتصلون أربعاً، فقالوا: سبحان الله أمير المؤمنين!!، والمعنى لابد من اجتماع الكلمة ولا يجوز الخلاف، بل لابد من الاجتماع، وهذا لا يكون إلا بتوحيد الصراط، لا يكون إلا بالتحاكم في كل خلاف صغير وكبير إلى كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم. وأن كل إنسان يأخذ من قوله ويرد عليه وأنه لا عصمة إلا لكلام الله وكلام النبي.
هذا أمر هام، لأن الله عز وجل يقول: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، لأنه بالتنازع والاختلاف يكون الفشل وذهاب الريح، ولابد من توحيد صراط الأمة وهذا بتعليمها مناهج الإسلام كلها حتى يظهر في الأمة النموذج الكامل للإسلام.
<!--<!-- الوصية الثالثة
التربية والتزكية هي السبيل لإنشاء الجيل الذي
ينصر الله به الأمة، ويعز به الإسلام
ما معنى هذا الكلام؟ الإسلام أحكام عظيمة:
مسائل الإيمان:
ليس الإيمان بالعلم فقط، وإنما بالعلم والتصديق والإحساس وتشرب القلب، أعني أن الإيمان ليس هو فقط مطلق المعرفة بالله، فلو كان هو مطلق المعرفة بالله لكان إبليس مؤمناً، وكان كل الذين يقرؤون القرآن ويقرؤون السنة مؤمنين، علماً أن القرآن مبذول لكل أحد، يأخذ منه المؤمن والمنافق، بل بعض الكفار عندهم دراسات، وعندهم من علوم القرآن والسنة أكثر بكثير من المسلمين المؤمنين، والحال أنهم بهذه الدراسة ليسوا مؤمنين وإنما الإيمان يقول: يقول الله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً}. فلم يقل سبحانه وتعالى إنما المؤمنون الذي عرفوا الله ورسوله وإنما قال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} هذا شعور وإدراك وتصديق {وإذا تليت عليهم آياته} ما قال حفظوها أو فهموها بل قال: {زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون}.
التوكل معروف: وهو أن تبذل السبب وتدع النتائج إلى الله، لكن ممارسة هذا في الواقع العملي يختلف، فما كل من عرف هذا مارسه {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}، كثير من الناس يعرفون وجوب الصلاة، وقد يعرفون أركانها وحدودها وتشريعاتها ولكن يؤذن المؤذن ولا يصلون، وإذا صلى فليس عنده قلب لإقامة الصلاة، وأعود فأقول (تربية على الإيمان): {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}.
(لما) هذه يسمونها في لغة العرب أداة نفي وجزم، تنفي حدوث الفعل إلى وقت التكلم، والمعنى إلى وقت التكلم لم يحدث هذا، مثلاً أقول: الآن جلسنا بعد المغرب للدرس ولما يؤذّن للصلاة، أي لم يحن وقتها بعد فهنا قول الله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} يعني للآن ما دخل لكن الإيمان هل عرفوه أم لم يعرفوه؟ والجواب عرفوه حتماً، لأنهم جاؤوا إلى الرسول وشهدوا بأن لا إله إلا الله وأن محمداً سول الله، وعرفوا شرائع الإسلام، وربنا قال لهم ليس الإيمان بالمعرفة فقط، الإيمان لم يدخل قلوبكم بعد {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}.
ما معنى هذا؟ معناه أن الإيمان يحتاج إلى نوع من الممارسة والعمل، وهذا ما أعنيه هنا بالتربية، التربية على الإيمان، لأنه بالتربية يتشرب القلب الإيمان، وكذلك فأعمال الإيمان أعمال كثيرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، [الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياة شعبة من الإيمان].
فلكي نستحي مثلاً لابد أن نربي أنفسنا على الحياء، ولكي نعلم الطفل أن يستحي لابد أن نعلمه ونوجهه ونرشده مرة بعد مرة، فإذا رأيناه كاشفاً عورته، نقول له هذه عورة غطها!! وإذا رأيناه يسب من هو أكبر منه، نقول له: استح ممن هو أكبر منك، لا تفعل كذا، لا تسأل هذا السؤال.. ممارسة "طويلة" حتى يتربى على الحياء، وهذه شعبة واحدة من شعب الإيمان، وكذلك كلنا يعلم أن إزالة الأذى من الطريق من الإيمان، لكن هل بمجرد المعرفة ينشط الفرد منا ويكف الأذى عن طريق المسلمين؟ هذه تحتاج إلى عزيمة وإرادة وتوجه، وبالتالي إلى ممارسة وإلى وقت أيضاً حتى يتشربها الإنسان وبالتالي حتى يصطبغ بها الجيل.
ليس بمجرد درس يسمعه الناس أو بمجرد دورة مثل دورتنا هذه في المخيم، يخرج منها الناس مؤمنين، نعم يخرج الناس عارفين متعلمين، لكن حتى تصل معاني الإيمان إلى القلوب، هذه تحتاج إلى ممارسة في واقع الحياة، وبالتالي أقول هذه الكلام لأن كثيراً من الدعاة إلى الله عز وجل يريد أن يحول الناس إلى الدين بمجرد جرة قلم من الحاكم وهذا الكلام خطأ.
وحقاً الحاكم يملك السيف والعصا، ويستطيع أن يوجه الناس إلى الدين بالقهر، وقديماً قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
هذا صحيح من حيث العموم فأكثر الناس يخشون العصا أكثر من خوفهم من الله، فلو قام الآن حاكم إسلامي يطبق الإسلام ويصدر قانوناً يقول فيه مثلاً:
شرب الخمر حرام، أو خروج المرأة من بيتها غير محجبة سيوجب القبض عليها، وسيسجن ويحاكم المسؤول عنها، إذا عرف الناس أن الحاكم جاد في تطبيق هذا القانون، فلا شك أنه لن يعصي إلا القليل، هذا أمر معلوم، لا شك أن وازع السلطان عظيم، لكن ما النتيجة لو أن هذا الوازع نُحِّي وأُبْعِد فماذا ستكون النتيجة؟!.
في اليوم التالي سنجد النساء في الطرقات، سيعود العري مرة ثانية، ما اختلف شيء لأن الذي استجاب بالعصا رجع إلى شيمته وإلى خلقه وما تربى ونشأ عليه، هذا الجيل الذي يتحول إلى الإسلام بالعصا والضرب لا يصلح في الحقيقة لعز الأمة، إنه لا يقيم مجد الأمة إلا من كان القرآن وازعه، وبالتالي إلا من تربى على الإسلام، وبالتالي إلا من اختار هذا الطريق. (ولست بهذا أهون من شأن السلطان المسلم ولا القرار الذي يحفظ الأمة من الفساد، بل السلطان المسلم لا شك أنه يهيئ المناخ الصالح لتنشئة أجيال الإسلام، ويجعل الفساد مقموعاً مخذولاً مختفياً لا يضر إلا فاعله، ولكنني أحب هنا أن أبين أن الذين يتبعون الإسلام إيماناً واختياراً دون خوف السلطان هم الأتباع الحقيقيون والملتزمون الصالحون). ولذلك أقول وأكرر أن الأمة تقوم على جيل: القرآن وازعه، والخوف من الله رادعه، أناس يخافون الله عز وجل بالسر والعلن، سواء أكان سوط الحاكم على رؤوسهم، أو لم يكن، بل يحركهم الدين والخوف من الله ويحركهم الإيمان بالله سبحانه وتعالى، هذا الجيل لا يمكن أن يتأتى إلا بتربية، ولذلك كان من حكمة الله ورحمته بهذه الأمة أن جيل الصحابة تربى التربية الكافية ولو أن الرسول من أول يوم دعا فيه الناس للإيمان جاءته كل قريش فدخلت في الإسلام في يوم واحد، ما تربى ولا خرج رجال، ولكن تأخر النصر إلى ثلاث عشرة سنة والمسلمون في الشدة العظيمة، والتعذيب والقهر والطرد والبلاء، حتى وجد الرجال، وفي السنوات الأخرى التي مكثها النبي في المدينة كانت أيضاً كلها فتن ومصائب لعلها أكثر من الفتن التي تعرض لها المسلمون في مكة، ذلك من أجل إخراج الجيل العظيم المبارك فالرسول نفسه أوذي في المدينة أعظم من الأذى الذي حصل له في مكة، وهذا كلام ليس مبالغاً فيه، بل أنا موقن من هذا، لأن الذي وقع له في المدينة أكبر بكثير من الأذى الذي وقع له في مكة، فالنبي سُبَّ في أهله، وقيل له: (أبعد عنا نتن حمارك)، وقيل له: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، وهذا الكلام في غاية الشدة، فالرسول لم يتعرض لمثل هذا الأذى في مكة ولا أوذي على هذا النحو في مكة، وكذلك قال تعالى للمنافقين: {أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون}.
فُتِنَ المسلمون في المدينة بفتن عظيمة جداً، من أعظمها فتنة الخندق، وفتنة أحد، وكان المجرمون من اليهود من أمثال كعب بن الأشرف الذي كان يسب الرسول ويُشبب بالنساء المسلمات، والرسول في المدينة ومعه السيف، فلا شك أن هذا الجيل ما تربى عبثاً، وإنما تربى على تحمل من المشاق والفتن والمآسي والبلاء العظيم، ومرَّ بتجارب عظيمة صقلته، حتى خرج بالفعل جيلاً عظيماً، وعندما انتصر المسلمون وبدأوا يرتاحون وفتحت مكة، وبدأ نوع من الراحة، أعلن الله لرسوله: (لقد انتهت مهمتك فاستعد للموت) {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً}.
قال ابن عباس في هذه السورة: (نعى الله عز وجل فيها نبيه) وكأنه يقول للمؤمنين: (إن الرسول قد انتهت مهمته فاستعدوا لأن يفارقكم) فارقهم الرسول والدولة مستقرة والحمد لله كانت الجزيرة قد هديت، ولكن بمجرد أن تُوفي الرسول بدأت الفتن أكثر مما كانت عليه فقد ارتدت العرب إلا قليلاً، وحصر المسلمون في المدينة، ومر أبو بكر والصحابة بفتن يشيب لها الولدان: فتنة الردة كانت من أعظم الفتن.
وهذا خالد بن الوليد يقول: قاتلت فارس والروم فلم أجد قتالاً أشد من قتال بني حنيفة قوم مسيلمة الكذاب حتى أن القراء من المسلمين عملوا شيئاً ما عملوه في أي معركة من المعارك، كان القراء يدفنون أنفسهم حتى لا يفروا، يحفر المسلم لنفسه حفرة لصدره، ويدفن نفسه ويقف فيها كي لا يفر، ويقاتل وهو في مكانه، لذلك قتل أكثر حفظة القرآن واستشهدوا في هذه المعركة، وهذا الذي من أجله قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: (إن القتل استحر في أهل اليمامة وإني أرى أن تجمع القرآن، إني أخاف أن يذهب كثير من القرآن) فجمع القرآن كما جاء في صحيح البخاري، ثم جاءت فتن أعظم، فما خلصوا من فتنة الردة إلا وجابهوا أعظم دولتين، وجاء أبو بكر الصديق يقول للمؤمنين: نبدأ بفارس أم الروم أم تقاتلون الدولتين معاً؟ فدخل المسلمون في فتن يشيب لها الولدان، هؤلاء العرب المسلمون بأعدادهم القليلة في ذاك الوقت -كانوا ما بين ثلاثة ملايين وخمسة ملايين- يتوجهون إلى أعظم دولتين في ذلك الوقت، والخلاصة أنه لا يعز الإسلام إلا بجيل قد تربى على الإسلام، وصقلته تجاربه.
أعود فأقول لابد من اعتماد التربية وسيلة لإخراج الجيل، وكثير من الشباب المتحمس يريد أن يبني دولة الإسلام عن طريق قرار وجرة قلم من الحاكم، ولو كان هذا الحاكم في شعب منسلخ عن الدين، بعيد كل البعد عن الإذعان لمنهج الله، ومآل ذلك إلى أن يتحول الحاكم المسلم قبل هذا الشعب إلى سفاح وجلاد إذا أراد أن يقيمهم على الجادة، أو يسكت على انحرافهم، وهذه مصيبة أخرى.
* والخلاصة أنه لابد من جيل قد تربى وفق مواصفات الكتاب والسنة بتربية متدرجة ودخل الإيمان فعلاً قلبه، ويستطيع أن يتحمل تبعات الدعوة إلى الله وحمل هذه الأمانة.
<!--<!-- الوصية الرابعة
تجييش الأمة كلها للدعوة إلى الله، وألا تكون الدعوة مهمة مجموعات
أو أفراد أو هيئات فقط، بل مهمة الأمة كلها
لابد من تجييش الأمة كلها، وأعني بالتجييش أن تكون أمة الإسلام جيشاً واحداً، وهذا لا يتأتى إلا بأن يعلم كل مسلم أنه جندي، وأنه مأمور من قبل الله بحمل هذه الأمانة، وبالتالي واجب الدعوة إلى الله ليس على طائفة معينة، ليس على الحكام وحدهم، أو على العلماء وحدهم، أو على طلاب العلم وحدهم، بل على كل أحد بقدر جهده وبقدر عطائه: هذا يجاهد بماله، وهذا يجاهد بكلمته، وهذا يجاهد بنفسه، إذا أصبح الجهاد هاجس الأمة، وكل مؤمن يعتقد بأنه واجب عليه ويتحمل جزءا من هذا الجهاد، إنه لا يقوم للإسلام قائمة والناس قاعدون، وما أقوله هو الذي أراده الله تماماً لهذه الأمة، جميعها أن تكون مجاهدة داعية إلى الله سبحانه وتعالى، ومن أعظم الأدلة على ذلك أن الله هدد بالنار القاعد عن الهجرة، قال تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}، أي: بالقعود في ديار الكفر وعدم تمكنهم من تطبيق الدين {قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}.
فهذا الإنسان الذي لم تدفعه عقيدته لأن يترك بيته ووطنه ليعلن ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيم شرائع الإسلام، لا عذر له أن يقول كنا مستضعفين في الأرض.
الناس تخرج وتهاجر وتترك أوطانها لتكسب الدينار والدرهم، فإنه يجب أن يكون الدين أعز من النفس والدنيا.
هل عذر الله إنساناً عن التأخر عن الجهاد؟! إلا من لم يستطع بالفعل حمل السلاح، قال تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}، هؤلاء هم الذين عذرهم الله، وأما من سوى ذلك فلم يكونوا معذورين ما داموا يقدرون.
وباختصار أقول: لابد من تجييش الأمة كلها وتحميلها أمانة الدعوة، والدعوة الآن فرض عين على كل مسلم بقدر ما يستطيع الدعوة والجهاد فرض عين على كل مسلم، قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} والمعنى كونوا جميعاً أمة على هذا النحو.
* والخلاصة تجييش الأمة واجب، والدعوة إلى الله والجهاد فرض عين، ولابد من تحريك كل قوى الأمة، وتفجير كل طاقاتها نحو هذا الأمر وحمل أمانة الدعوة.
<!--<!-- الوصية الخامسة
البناء من كل المواقع، والعمل في كل اتجاه
بعد تجييش الأمة، بأن يكون كل مؤمن جندياً لله تبارك وتعالى لابد من التوجه إلى البناء في كل موقع، أعني أننا لا نريد أمة من صنف واحد، تتوجه إلى عمل واحد، لا نريد جميع الدعاة إلى الله خطباء، فالخطابة وتعليم الناس باب من أبواب الدعوة، وتربية الأبناء باب، وكل هذه ولا شك من عمل الدعوة ومن عمل البناء.
الأمة احتياجاتها عظيمة جداً، وبالتالي لابد من التوجه إلى كل مجال يمكن للمسلم أن يثمر فيه وأن يعمل من خلاله، وهذا الذي كانت عليه أمة الإسلام في عهد النبي، لقد ربَّى أمة ولم يكن صاحب مدرسة، هناك فرق بين شيخ له مدرسة ويأتي الناس إليه ليعلمهم مقرراً دراسياً ويقول لهم بعد ذلك مع السلامة!! والمربي الذي يريد أن يبني أمة.
إن الذي يبني أمة يحتاج إلى كل فرد، وكل فرد ينبغي أن يكون في موقعه، ولا يوجد فرد مسلم، وإلا وفيه نفع ما، وأعلانا منزلة أكثرنا نفعاً، وأبو بكر رضي الله عنه ما كان خطيباً ولا واعظاً، كان رجلاً تاجراً، لكنه كان داعية بكل ما للكلمة من معنى، وطريقته الاتصال الشخصي: يلتقي الناس الذين يتعامل معهم فيدعوهم للإسلام، كان نساباً يعرف أنساب العرب، كان رجلاً فاعلاً للخير لا يجد ثغرة إلا ويسدها، في مكة أعتق سبعة عبيد منهم أربع نساء، وقال له أبوه يا بني: إن كنت فاعلاً ولا بد أعتق الرجال الأشداء حتى يمنعوك، فقال له: يا أبت إنما أفعل ذلك لله!!.
هذا الرسول يسأل الناس يوماً بعد صلاة الفجر: [من شيَّع اليوم جنازة] فيقول أبو بكر: أنا!! فيقول: [من عاد اليوم مريضاً] فيقول أبو بكر: أنا!! فيقول: [من أطعم اليوم مسكيناً] فيقول أبو بكر: أنا!! فيقول الرسول: [ما جمعهن أحد في يوم إلا نودي من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء].
كان أبو بكر خير داع إلى الله بعد الرسول، هذه دعوته: لم يكن مدرساً ولا خطيباً، كان أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحسن الخطابة كما يحسنها كثير من الناس، إنما يحسن الإيمان والدعوة، وفعل الخير، وكان رجلاً نافعاً بكل معاني النفع، وعندما قاد الأمة قادها بمنتهى الحزم وبمنتهى الفهم وبمنتهى التقوى لله عز وجل وبالإرادة الصلبة فهو من حيث الرجال رجل مواقف وتربية، لقد كان شيئاً فوق التصور والخيال.
تسلم أمر الأمة وهو يقول: والله ما طلبت الإمارة سراً ولا جهراً، وهذا منتهى النزاهة، مواقف في منتهى العجب!! ولنترك الصدّيق الآن ونأتي إلى فرد آخر من أمة محمد: امرأة، يقول ابن حجر: "بحثت عن اسمها فلم أجده" هذا المرأة لا اسم لها في السيرة، هذه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل من الصحابة، هل كانت لها مهمة؟ نعم، كانت تكنس مسجد النبي وتنظفه والرسول الذي يبني ويربي هل نسي هذه المرأة؟ ما نسيها، لأنها جزء من الأمة، فقدها النبي يوماً فسأل عنها فقيل: يا رسول الله إنها ماتت بالليل، فقال: [هلا آذنتموني]، قالوا: يا رسول الله ماتت بالليل فساءنا أن نزعجك. فقال النبي: [دلوني على قبرها].
ساحة النقاش