للدكتور الكاتب /عمار ديوب
ارتهنت الثقافة طويلاً في سوريا لصالح السياسة "سلطة ومعارضة" فكانت ترخي بظلاميتها الكثيفة على العقول ، فتتحجر ،وتتخندق ، أوتتبنى الرأي الواحد الأحد ؛ الذي ينطق به الزعيم .ومن صفاتها : الاختزال، التكفير ،التخوين ، العمالة ، الإقصاء ، التهم الجاهزة لكل زمان مكان . وبالتالي القتل على الهوية . وبتعينها كذلك ، صارت عملية تفكيكها تتطلب جهداً إراديا عالياً ، وعقلنة ومفهمة الوقائع المتكاثرة المتنوعة ، التي لا جامع بينها في الوعيّ التقليدي أو السياسيّ العصبوي . يجمعها ويمفهمها الفكر الفلسفي والأصالة الدقيقة فيه وهي نادرة ندرة السياسة الجادة والفلسفة المميزة في العقد الأخير. وبالتالي ألحقت في العقود المنصرمة الثقافة بالسياسة ، والسياسة بالسياسة السلطوية. أو انزوت –الثقافة- في ميادين تخصصية ، جزئية لا كلية ، أدبية لا نظرية سياسية ، عالمية لا محلية ،الأبرز فيها غياب النقد للتركيب المجتمعي للبنية العربية المتخلفة ومستويات ترابطها . وباستمرار إلغاء السياسة وتعقيم المجتمع من لوثات المعرفة والفكر والنقد . تدفقت في التسعينيات بالتحديد، كثرة من المؤلفات الشعرية والقصصية ، فأصبح المناضل هو الشاعر أو الأديب أو القاص . وهي بجانب منها دليل على حيوية المجتمع السوري وأنه ما يزال ينبض بالحياة ضد القائم المستمر بشموليته ومن جانب أخر يعبر عن تشدد القمع وإحكام الضبط والمراقبة والتحكم بالمجتمع..
الثقافة ، تعتبر الجبهة الأخيرة لأي حراك مجتمعي أو سياسي حين يتراجع ، فتحتفظ هي بالحدود المعرفية الفاصلة والذاكرة التاريخية وتأسس للجديد وتبحث في الخطأ في القديم وتحفز العقل المتشائم بتفاؤل الإرادة ، فتجعل العقل المهزوم يتوازن من جديد ويعيد صياغة نفسه وتأهيل بنيته الفكرية والسياسية والنفسية ، وذلك من أجل الدخول في فعاليات التغيير المجتمعي من جديد ، بممارسة ترتقي عما كان ، وتؤسس لواقع جديد لا يكرر أزمات الطبقات المسيطرة أو أزمات البديل المعارض. الثقافة السياسية التي هزمت ، كانت تنتمي لحقل اليسار، ماركسياً كان أم قومياً أم وطنياً . وهي التي استقت جلّ قوتها وأحلامها وإبداعاتها من الواقع الدولي للقطبية الثنائية المتوزعة على الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية..
مع سقوط الكتلة السوفيتية سقطت كثير من الأحزاب اليسارية ، وأعلن الكثير من السياسيين والمثقفين تغيير مواقعهم . وفتحوا نيران بنادقهم ضد تجاربهم بعجرها وبجرها. ولم يتوقفوا كي يبيّنوا لأنصارهم أو للتاريخ . ما الذي حدث؟ ولماذا أخفقوا؟ وما كُتب وسميّ نقداً كان هشاً وقليل المعرفة ، وكثير الايدولوجيا بمعناها الزائف. وتحدد بديكتاتورية البروليتاريا أو مفهوم الطليعة . وبناءً عليه إنداحت تحولات كافكا ، وبالتالي لا بد من إدارة الظهر للماضي السياسي بكل ما فيه . وقد شمل هذا التراجع ، التيار الثقافي الثوري ، الذي كان بعضه جزء من التيار السياسي الثوري ، والذي كفّر في الماضي ، القوى السياسية الأخرى والمجتمع ، لأنه لم يقف خلفه ، فإذا به وبتوفر شروط جديدة ، - يبدو أنه فكر لا يقرأ الواقع وكلما سنحت له الفرصة يعود ليترأس ما لا يمنحه ثقته - يعود إلى السياسة والمجتمع ، بحجة الواقعية والعقلانية ، ويترأس من جديد المجتمع وباسم المجتمع ذاته ولكن هذه المرة عبر المشروع الليبرالي. وبالتالي "النقد" المصوب ضد اليسار هو بالضبط من اجل إعلاء المشروع الليبرالي ..
هذا التحول الليبرالي طرد من منظومته "الثقافية" السياسية، " الماركسية أو القومية أو الوطنية " وخيراً فعل ، فأعتبرها عديمة النفع والقيمة وإذا ما حاولت الإيديولوجيات القومية أو الماركسية من جديد إعادة صياغة التجربة فإن مصيرها الفشل سلفاً، وكان المسألة غائية تاريخية يقرأها الغيب والليبرالين حصراً. وطبعاً هذا الحكم القيمي ، به مسحة تدين واضحة ترافق باحثي الليبرالية وأطروحاتهم للتاريخ ، والذي يبدو أنهم يحبذون الإفتاء السياسي أكثر من التحليل . وككل فكر ديني يكره القومية والماركسية ؟!
وبحدوث ذلك وبتعمق أزمة المشروع القومي والاشتراكي عالمياً وعربياً، تهمشت أنواع الثقافة العلمانية وتعملقت السياسة السلطوية ، وبرزت إلى جانبها قيم العشيرة والطائفة والمنطقة والعصابة والشلة والفردية الذئبية والاستهلاك والمصلحة الشخصية والعائلة، أي قيم العلاقات الرأسمالية في الشرط الكولونيالي..
الطبيعة تكره الفراغ ، والمجتمع كذلك ، فما تُخليه جماعة بشرية تملأه جماعة أخرى مباشرة ، والحياة البشرية صراع مستمر ، مباشر أو غير مباشر ، يتوزع في كل حقول المجتمع. وبالتالي لا توجد أماكن خارج التاريخ ؛ خارج التأثير والتأثر البشري ، فالفرد يؤثر في الجماعة والجماعة كذلك ، السلطة تؤثر ، والمعارضة تتأثر ، والعكس صحيح.
وبالتالي ومع تراجع المد اليساري حصل تقدم ليبرالي وكذلك يميني طائفي وأحياناً يميني ليبرالي ، يمكن تلمسه من شكل التدين العام أو كثرة دور النشر ، أو تدخل رجالات الدين في مسائل عديدة كالتعليم والطعام والقبيسيات والتمييز ضد المرأة وتوسع المدارس الدينية ، وكثرة الأشرطة الدينية في الشوارع وفي الأماكن العامة وفي المكاتب الحكومية وغيرها..
المفارقة أنه مع هذا التقدم اليميني ، يتم التأكيد من قبل بعض المثقفين على مديح واستقلالية الثقافة عن السياسة وتحميل المشروع القومي والاشتراكي كل مشكلات أزمة التطور للخمسين سنة الماضية دون تمييز المشروع كفعالية سياسية أو فكرية عن مشروع الدولة ، أو حتى عن تطور الدولة نفسها . فالدولة قبل السبعينيات غيرها بعدها ، وهي بعد الألفين غيرها بعد التسعينيات ، وهذا لا يغيب وجود عناصر مشتركة في تلك العقود . ولذلك ، نتسآل : لو لم يتم إعادة طرح المشروع القومي أو الماركسي على أرضية نقد التجربة وليس تكفيرها ماذا سيطرح المثقفين والسياسيين ؟ أليس فقط المشاريع الشخصية أو الليبرالية أو الاسلاموية أو الدولة الإلهية خارج الإنتاج البشري ، أو الدفاع عن فكرة الدولة دون توضيح أية دولة هذه . وسيجتهد البعض بأن مشكلتنا ليست مع العلمانية أو الديمقراطية أي ليست في عدم تحقق الحداثة بالمعنى السياسي ، بل هي بالضبط مع الدين أو الدولة . وبالتالي ليس في الواقع إلا قضيتين :الدولة الموجودة ، ولابد من وجود بديل لها. والإسلام السياسي ولا بد من مخرج له . والأفضل أن نجمع الدين إلى الدولة ، وبتحقق ذلك ، سنكون أمام الدولة الطائفية"الديمقراطية" ، التي هي فقط كما يرى هذا البعض ، المخرج من الأزمة السياسية ؟!
التبشير بالانزواء الثقافي"الاستقلال الثقافي" ، عدا عن التقدم اليميني- الليبرالي ،الطائفي- يشكل إعاقة أمام إعادة إنتاج المشروع الثقافي العلماني وطبعاً أمام نمو الحركات اليسارية. وبالتالي وإذ تخطينا أثار المد اليميني فإن الدعوة لإنتاج ثقافة مستقلة- كلاسيكية المعنى ، دون تحديد والتي من الممكن أن تكون ثقافة تراثية أو ثقافة ليبرالية - ليست مسألة جديدة على أمة البشر ، بل إن هذه الثقافة على أية حال موجودة في الكتب المترجمة أو المؤلفة عربياً وهي لا تتجاوز الماضي أو الحاضر في أقصى الحالات . وبالتالي هذا المعنى للثقافة إذا ما كان تنظيراً للوعي السياسي ، يصبح موجهاً ضد المستقبل . ولذلك يؤكد هذا التيار السياسي هذه الرؤية ضد مقولة ماركس في موضوعات عن فيورباخ وضد الفكر السياسي الثوري- إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره-. أي يكفينا هزائم من قبل السياسة وتحديداً الأحزاب الشيوعية والقومية التي هي هي في هذه الرؤية السلطة نفسها- والخلاص أنه لا بد من إعمال الفكر وفهم الماضي والحاضر ثقافياً وتأسيس البنية الليبرالية؟! . وهذا التبشير يأتي في زمن اشتداد الاستبداد وتدهور معيشة الأكثرية وصياغة المشروع الأمريكي للمنطقة بأكملها وتعثر هذه الصياغة ومحاولة فرنسا استعادة دورها الاستعماري مع ساكوزي ، وهيمنة الرؤى الليبرالية الجديدة على العلاقات بين الدول.
أردنا من الاسترسال السابق توضيح خطورة دعوات من هذا القبيل وإظهار النزعة النرجسية لدى مثقفينا . ونحن نرى أن الثقافة حقل خاص دون أدنى شك ولكنها ليست كالعلم كميدان محدد مع أن العلم ثوري ونقدي بمقدار ما هو اختصاصي. وأما القول أن الثقافة يجب أن تستقل كلية فإن هذا القول هو تمويه لموقف سياسي ، يراد منه خدمة مشروع سياسي محدد .ونضيف أنه حق للمثقف أو للسياسي . ففي الوقت الذي تكفّر فيه المشاريع الأخرى- القومية والماركسية- وليس مشروع الدولة أو السلطة فقط والأخيرة يجب إزالتها بالضرورة ، يتم العمل من أجل سلطة ليبرالية فاقدة المبررات التاريخية..
وبالمقابل ، ندعو لاستقلال الثقافة عن السياسة بالمعنى المباشر وأن تصان حرية وكرامة المثقفين ، حيث بالاستناد إلى إبداعاتهم يمكن أن تكون السياسة فاعلة ، أية سياسة كانت : ماركسية أو قومية أو ليبرالية أو وطنية أو ديمقراطية..
الثقافة بما هي حقل مستقل ، ليست فكر إلهي ، بل هي فكر عضوي ، تحرث الأرض ، وتهيؤها لتشكل جديد ، وهي فعل تغيير وتحرر دائم ومساواة فعلية . وبالتالي الثقافة بالأصل وبعد إخفاقات المشروع الرأسمالي العالمي منذ بداية القرن العشرين وتأزم العالم بمشكلات لا حل لها في هذا المشروع لا يمكن أن تكون إلا ثقافة يسارية مقاومة .هدفها : مقاومة التيارات البرجوازية المتخلفة ، مقاومة الامبريالية المعولمة بكل تجلياتها ، البنية الاجتماعية المتخلفة ، إستغراب الحداثة الأوربية على حد تعبير المفكر الأردني هشام غصيب . وبالتالي حراثة الأرض واستخراج تربة جديدة .هي تلك مهمة الثقافة..
استقلالية المثقف وحريته ، ضرورية من أجل استيعاب العلم التاريخي المتراكم وإنتاج المعرفة النقدية وإعادة ربطها بالايدولوجيا العضوية؛ أيديولوجيا التغيير المجتمعي واستنهاض البنية الاجتماعية على أرضية مشروع الحداثة والاشتراكية والقومية ، استجابة للشرط الكولونيالي ولحلم التغيير نحو تاريخ مستقل وعالم أفضل..
نتوسع أكثر لشرح فكرتنا : لقد استقل حقل الثقافة مع تشكل الحداثة الأوربية ، وانفصال الدين عن الدولة ومساواة البشر بالمعنى المواطني وعلى أرضية العلمانية كنظام سياسي بشري بامتياز. وبالتالي لم تعد الكنيسة بتراتبيتها أو النص الديني هو المعيار أو القيمة في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الثقافة أو العلاقات البشرية..
أصبح التاريخ البشري تاريخ يصنعه البشر، كل البشر لا القادة أو المثقفين دون قيود التكرار الأزلي والعقل المقدس. وبالتالي مركزية العقل والإنسان هي التي أصبحت الأصل ، وبهذا استقلت الثقافة فأصبحت ثقافة بشرية بامتياز، ساهمت في حقل الحداثة ، وحدّثت بنى المجتمع، فكر وسياسة وعلاقات اجتماعية واقتصاد وأبدعت في كل هذه الميادين. وبالتالي استقلالية الثقافة تتضمن نقداً كلياً إيجاباً وسلباً لبنى المجتمع بالكل أو بالجزء وهذه الاستقلالية ليست هي الهدف بل الهدف منها هو تغيير الواقع والابتعاد عن الضيق والمحدودية في فهم ترابطاته واشتراطاته ومستوياته المتعددة . وبالتالي هدف الاستقلالية الوصول إلى الماهية ، الجوهري ، القانون ، جملة الترابطات التي تحكم الواقع بكليته ، والعمل على تغييره..
ثقافة ما بعد الحداثة هي الارتداد عن حقل الحداثة ، حيث لا اشتراطات في البنية المجتمعية ولا دور للمثقف أو السياسي ، والعقل ملغى كذلك ، والتاريخ وصل لنهايته ، والإنسانية بكليتها لن تتجاوز المرحلة الرأسمالية . وبالتالي، وما دامت الدائرة أغلقت ، وكل المشاريع المضادة للرأسمالية استبدادية وليس كمشاريع سياسية فقط وإنما بأصل الماركسية أو القومية ؟ وهي أصلاً استطالات ميتة ومقاومات وممانعات سيأتيها الموت الذي لا بد آتٍ.وما دام الأمر كذلك، فإن هذا التاريخ ، الذي نعيشه، سيكون لكل فرد فيه ، مطلق الحرية ، أن يلهو به كما يشاء- دون أن نسي مفارقة هذا الفهم مع الانتقاص المستمر لحقوق المواطنة عالمياً بحجة محاربة الإرهاب ولكنه أمر مرتبط بمشاريع الليبرالية الجديدة بالتحديد-؟! إذن لن نسمح لأحد بان يوجع رأسنا بعد اليوم ، والادعاء بأن هناك أخر، وبالتالي لا علاقة للإنسان بأخيه الإنسان ، ولا علاقة بين الفقر والغنى ولا بد من استقلال الثقافة عن السياسة .وإذا سرنا مع هذا التوجه فإن دعوة استقلال الثقافة تنحصر في فكر يمكن توصيفه ضمن فكر ما بعد الحداثة، وهو نوع من الانفصال والانعزال والغرق في مشكلات لا واقعية خيالية بأغلبيتها رغم إدعائها بالواقعية والعقلانية..
حين يفقد المثقف ، نتيجة سياسة الاستبداد المديدة ، إرث ارتباط الثقافة بالحداثة وبالسياسة ودورها في بناء الدولة الحديثة المدنية والعلمانية ، ومعنى النقلة النوعية في تاريخ البشرية من بنية الإقطاع إلى بنية الرأسمالية المنفتحة ، أي البنية المنفتحة على بعضها وتأثير بعضها على بعضها الأخر والتي لا تراتبية فيها ولا حواجز خالدة ومقدسة ولا سلطة كنسية مطلقة . وأن الثقافة مجال عام وليس لخاصة القوم ، يكون قد تماهى مع بنية الماضي وكذلك مع بنية اجتماعية يؤبدها الحاضر المتعين في طبقات متباينة تهيمن إحداها على الأخرى . وباستقرار البنية المنفتحة بنية تراتبية ومنغلقة ، فإن من أخطر ما تواجهه هذه البنية ويزيدها تماسكاً بذات الوقت هي مشكلة التخصص أو استقلال العنصر عن البنية ، والتي على أهمية ما تعطيه من إبداعات في الحقل الأدبي والعلمي، تبقى إبداعاتها محصورة في الحقل الجزئي ؛ الذي لا يربط بينه وبين بقية الحقول روابط ، تتجاوز الحاضر بقدر ما تؤبده ، وهو ما تستهدفه سياسة الدولة القائمة..
الثقافة التغييرية أي المرتبطة بالسياسة ، هي التي تستطيع إقامة ذلك الرابط ، والنظر إلى عمق تأزمات البنية الاجتماعية البرجوازية ، وإلى أوضاع البشر من جراء تلك التأزمات ، والاستناد إلى ثقافة التنوير والإرث النهضوي وتجارب الشعوب الحديثة في التطور، والعمل من أجل التغيير نحو أوضاع أفضل لصالح الكل الاجتماعي..
في سوريا ، لا يمكن تأييد الدعوة لاستقلال الثقافة عن السياسة ، اقصد أنه ، ورغم أن النظام قد أقصى السياسة عن المجتمع وألغى الثقافة التغييرية وفصل بين السياسة والثقافة ، فإن القول باستقلال السياسة هو تكملة لما فعله النظام سابقاً.
الدفاع عن تفسيرية الثقافة لا عن دورها التغييري هو من ناحية أخرى تجاهل ممعن وغير مبرر للكم الثقافي والمعرفي الذي فُسر به التاريخ وبالتالي مهمة التفسير فقط ، تعنى إلغاء تراث النهضة والمشروع القومي والمشروع الماركسي لصالح هؤلاء المفسرين والبدء من نقطة الصفر . والسؤال هل يمكن البدء من نقطة الصفر؟ أخشى إن استمرينا بالدعوة للصفر أن نصل إلى ما دونه. عدا عن أنه لا مكان للصفر في تاريخ البشر ، لان التاريخ حتى لو انهار ، هناك شروط موضوعية أدت لذلك الانهيار، وهو حصيلة شروط سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية ، تدور فيها صراعات ذات مستويات متعددة ، تحسم تلك الشروط لصالح مشروع مجتمعي ما..
وبالتالي العودة إلى التفسير كمهمة رئيسية للمثقفين فقط ، وعلى أهميتها ، هي دعوة لتجاهل التاريخ السياسي لقرنين على الأقل في تاريخ العرب ولجهد المثقفين والأحزاب السياسية ، عدا عن إعتبار كل ما قُدم وكأنه جهداً عبثياً وفوضوياً لا طائل منه.
المفارقة أن ما تم في سوريا من تراكم معرفي وثقافي ، لم يقرأ حتى الآن ، وأن الجهد النظري الذي قُدم عربياً لا يزال مُخزناُ في الكتب وعلى الرفوف ومستقل فعلياً عن السياسة .
أخيراً لا بد من فهم التفسير السابق – المشاريع الثقافية للمفكرين العرب وتراث النهضة الأوربية والفكر الماركسي – كتعليم أولي ومفهمة بنية المجتمع العربي والاقتصاد والسياسة والفكر والأدب . وإعادة إنتاج ذلك التفسير، كتطور واقعي في شروط تاريخية مميزة ولكن كذلك كعلم تاريخي والانتقال به نحو العمل السياسي العلماني كأحزاب وتجمعات وحركات ومثقفين . وبتحقق ذلك في شرطنا الكولونيالي المتجدد نؤكد :"إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره"...
ساحة النقاش