تفضيل الله لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
قسم الحقُّ سبحانه وتعالى بحياته، وإنما يقع القسم بالمعظَّم. عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "ما خلق الله وما ذرأ نفسًا هي أكرم من مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وما سمعتُ الله أقسم بحياة أَحَدٍ غيره، فقال: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (72الحجر)". قال ابن عقيل: وأعظم من قوله لموسى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (41- طه)، قولهإِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) (10الفتح)، وقوله: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) (1، 2البلد)، المعنى: أقسم لا بالبلد، فإن أقسمت بالبلد فلأنك فيه (انتهى). أقول: وظهر لي معنىً آخر، وهو أن الحقَّ تبارك وتعالى يقول: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) أي: أن هذا البلد - ولو كان عظيماً - فلا أقسم به، لأنك حَلَلْتَ به يا مُحَمَّد، وأنت أعظم منه فأنا أقسم بك أنت، إذ كيف أقسم بالعظيم وفيه الأعظم والأكرم؟!!! وقد أشار الله تعالى إلى أحوال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثم ذكر التوبة عليهم، قال الله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (121 ،122طه)، وقال في حقِّ موسى: (إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا) (33القصص)، ثم قال: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) (16- القصص). وقال في حقِّ داود: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (24- ص)، ثم قال: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) (25- ص)، وقال: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ) (34- ص)، ثم قال: (ثُمَّ أَنَابَ) (34- ص)، وأخبر تعالى بغفران ذنب نبيِّنا من غير أن يذكر له ذنبًا فقال: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (2- الفتح). وقد كان الأنبياء يطلبون تحقيق بعض المراتب والكمالات لأنفسهم، بخلاف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله مَنَّ عليه بتلك المقامات وتفضل بها عليه من غير طلب، وهذا بابٌ من العلم جليل القدر، وفيه من الفضل ما شرح الله تعالى به صدري، وَسَأُورِدُ ما وَرَدَ على قلبي من تلك الأمثلة: - فإن كان إبراهيم كسَّر الأصنام، فقد رَمَى نبيُّنا صلى الله عليه وسلم هُبل من أعلى الكعبة، ثم أشار إلى ثلاثمائة وستين صنماً فوقعت يوم الفتح، كما ثبت في الصحيح. - وإن كان هود نُصِرَ على قومه بالدَّبور، فقد نُصِرَ نبيُّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصَّبا، فمزقت أعداءه يوم الخندق. - وإن كان لصالح ناقة، فقد سجدتْ الإبلُ لنبيِّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في السنة المطهَّرة. - وإن أُعطي يوسف نصف الحسن، فقد أُعطي صلى الله عليه وسلم الحُسن كلَّه كما جاء في الحديث. - وإن كان الحجر انْفَجَرَ لموسى، فقد نَبَعَ الماء من بين أصابع نبيِّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعجب، لأنه لا غرابة في خروج الماء من الحجارة، بل الشأن في خروج الماء من بين لحم ودم. - وإن كان لموسى عليه السلام عصا، فإن خوار الجذع وحنينه أعجب من ذلك، وقصة حنين الجذع ثابتة في الصحيح: وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب عند جِذْعٍ جُعل له، فلما بُنيَ له المنبر ترك الجذع، فحنَّ الجذع إليه حتى كان يُسْمع له أنين كأنين الثَّكلى. - وإن كانت الجبال سبَّحت مع داود، فقد ثبت أن الحَصَى سبَّحت في كفِّ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم. - وإن كان سليمان أُعطيَ مُلْكَ الدنيا، فقد جِِئَ لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم بمفاتيح خزائن الأرض فأباها. - وإن كان الريح سُخِّرَتْ لسليمان غدوها شهر ورواحها شهر، فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم سار إلى بيت المقدس مسيرة شهر في بعض ليلة، وسار الرُّعبُ بين يديه مسيرة شهر، كما قال في الحديث الصحيح: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)، وعُرج به مسيرة خمسين ألف سنة إلى العرش. - وإن كان سليمان فهم كلام الطير، فقد فَهِمَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كلامَ البعير الذي جاء يشتكي صاحبه، وفهم كلام الحجر لمَّا سلَّم عليه، وغير ذلك. - وإن كانت الجن سُخرت لسليمان، فقد جاءت إلى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم طائفةٌ من الجنِّ مؤمنة به، كما ثبت ذلك في القرآن. - وقد كان سليمان يُصَفِّدُ مَنْ عَصَاهُ منهم، فلما تفلَّتَ عفريتٌ على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم تمكَّن منه وأسره، ثم أطلقه وقال: (لولا أخي سليمان قال: ربِّ هَبْ لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدى، لربطته في سارية من سواري المسجد يلعب به الصبيان)، أوكما قال، وهو في الصحيح. - وقد كانت الجن أعواناً لسليمان يخدمونه، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم وسلم أعوانه الملائكة، يقاتلون بين يديه ويدفعون أعداءه، كما ثبت ذلك في بدر وحُنين. - وإن كان عيسى يخبر بالغيوب، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كثير من ذلك مع كثير من الناس. هو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول من يُؤذن له بالسجود، وأول من ينظر إلى ربِّ العالمين والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك، وأول الأنبياء يُقْضَى بين أمَّتِه، وأولهم إجازة على الصراط بأمَّتِه، وأول داخل إلى الجنة وأمَّتُه أول الأمم دخولاً إليها، وزاده من لطائف التُّحف ونفائس الطُّرف ما لا يحدُّ ولا يعدّ. فمن ذلك أنه يُبْعَثُ راكباً، وتخصيصه بالمقام المحمود ولواء الحمد، تحته آدم فمن دونه من الأنبياء، واختصاصه أيضاً بالسجود لله تعالى أمام العرش، وما يفتحه الله عليه - في سجوده - من التحميد والثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبله، ولا يفتحه على أحد بعده زيادة في كرامته وقربه، وكلام الله له: (يا محمد ارفع رأسك، وقُلْ يسمع لك، وسَلْ تُعْط، واشفع تُشفَّع)، ولا كرامة فوق هذا إلاَّ النظر إليه تعالى. ومن ذلك تكراره الشفاعة، وسجوده ثانية وثالثة، وتجديد الثناء عليه سبحانه بما يفتح الله عليه من ذلك، وكلام الله تعالى له في كل سجدة: (يا محمد: ارفع رأسك، وقُلْ يُسْمع لك، وسَلْ تُعْط، واشفع تُشفع). ومن ذلك قيامه عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم بأنهم بلَّغوهم، وسؤالهم منه الشفاعة ليريحهم من غمِّهم وعَرَقِهِم وطول وقوفهم، وشفاعته في أقوام قد أُمر بهم إلى النار. ومنها الحوض الذي ليس في الموقف أكثر أوانياً منه، وأن المؤمنين كلَّهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته. ومنها أنه يشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم. وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة، إلى غير ذلك مما يزيده الله تعالى به جلالة وتعظيماً، وتبجيلاً وتكريماً على رؤوس الأشهاد - من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. منقوول