الأول للثاني: هاي مان!.
الثاني للأول: ويل كام بوي!.
الأول للثاني: عامل إيه سيادتك؟.
الثاني للأول: والله مش في المود والحالة سو باد!.
الأول للثاني: يا عم كبر دماغك.. وخليك جنتلمان.. وخلي الطاسة دايما عالية!.
لا أعرف هل فهم أحدكم مجمل الحوار بين الأول والثاني، ولكن هذه الجمل الغربية تعتبر مجرد محادثة عابرة بين اثنين من الشباب المصري، محادثة عادية قد تقال في الشارع أو في القهوة أو عبر أسلاك التليفون!.. أين اللغة العربية إذن في هذه المحادثة؟.
في العصور القديمة، كان الشاعر العربي يأتي في السوق ويجلس مع قرنائه من الشعراء، ويشب الجدال بينهم حول أكثرهم تلقائية وموهبة شعرية وفصاحة وإلمام باللغة العربية، لذلك فإن هذا الإنسان العربي قد تفنن في اللغة وبرع في هذا الفن، حتى إن الجاحظ ذكر كيف أن البلاغة هي طبع في الإنسان العربي البدوي، حيث إنه يرتجل فيأتي الكلام بليغا بلا تكلف سواء كان شعرا أو نثرا.
ولكن انتقال أي مجتمع من مرحلة إلى أخرى، ينتج عنه عادة، قاموس جديد من اللغة والسلوكيات والمفاهيم، وهو أمر يصاحب الانقلابات والثورات والحروب الأهلية والهزات الاجتماعية، فلا تعود اللغة هي نفس اللغة، ولا يعود الفرد هو نفس الفرد، وهو لا يسعى إلى التغيير في مطلق الأحوال، ولكن أحيانا ما تتسبب تلك الهزات الاجتماعية في التغيير القهري، أو حتى دون وعي أو إدراك كاف لحجم واتجاه التغير.
وفي الآونة الأخيرة ظهرت تراكيب عامية جديدة فرضت نفسها على اللغة العربية، هذه التراكيب مصدرها لغة السوق وجمل الشات والمصطلحات الأجنبية المعربة، وهذه التراكيب جعلت اللغة العربية نفسها تستقبل مفردات جديدة تستخدم في الحياة العامة في الشارع والبيت والمقهى، وفي وسائل الإعلام والأدب والسينما والتليفزيون..
والواقع أن أي لغة وخاصة اللغة العامية الدارجة، تستقبل ألفاظا جديدة مع مرور الزمن، وترتبط هذه الألفاظ والمصطلحات بتطور الزمن نفسه، وتطور عقول الناس، وأحيانا تفرض تلك المصطلحات والألفاظ نفسها على اللغة، فمثلا كلمة تليفزيون أو سينما أو كمبيوتر أو موبايل هي كلمات أعجمية معربة، ولا يمكن لأحد منع الناس من استخدامها، لأنها مهمة وتدل على تطور عقول الناس ودخول مخترعات أخرى إلى حيز الوجود والاستخدام، واستعداد اللغة نفسها لتحمل مفردات وكلمات جديدة، ولكن المشكلة تكمن في المصطلحات الوقتية والتي يخترعها الناس في وقت ما لتدل على حدث معين، ثم تبقى عالقة في اللغة دون أي فائدة، فكلمات مثل "قشطة" أو مرادف "ماشي" لتدل على القبول أو الإيجاب، ظهرت في وقت معين وقابلها الناس بالاستهجان، ولكن مع مرور الوقت تقبلها الناس وظلت عالقة في اللغة دون فائدة حقيقية، وهناك ألفاظ أخرى تنبت بسبب أحداث سياسية أو اجتماعية، فيمكن أن تصف أحدهم بأنه "بن لادن" لتدل على تشدده، أو مكره الشديد، أو خيانته وغدره، أو أي صفة يتطلبها الموقف!. أو تصف أحدهم بأنه "أمريكي" لتدل على نفوذه أو رقيه وتطوره!.
والحقيقة أن كل هذه المصطلحات ليست مهمة أو على الأقل غير مضرة، بل هناك خطورة كبرى لوجود مصطلحات أخرى مستحدثة تطغى بسرعة على اللغة، فهناك لغة الابتذال التي صارت كحقنة البنج يتعاطها كل من يشاهد مسلسلا أو فيلما، وخصوصا في الفترة التي تلت الانفتاح في القنوات الفضائية، والهزة الاجتماعية الرهيبة والمفاهيم الجديدة القادمة من الغرب، خاصة بعد أحداث سبتمبر وغزو العراق، وكأن اللغة فقدت جزءا من قيمتها، ففقد الناس بالتالي جزءا من قيمهم وتهذيبهم وطرق الحديث اللائقة، فلم يعد من المثير للدهشة أن يطلق الشاب على أي فتاة لقب "مزة"، أو تطلق فتاة هذا اللقب على فتاة أخرى، أو يطلب المذيع التليفزيوني من ضيفه أن يكون "كول"، والغريب أن تلك المصطلحات تستخدم على نطاق عائلي، فنجد تلك الألفاظ يستخدمها الأخ مع أخته، والأب مع ابنه، بل وتعدى إلى أن استخدامها إما لتدل على الرقي، مثل استخدام كلمة "please"بدلا من "من فضلك"، أو استخدام عبارات سوقية لتدل على شخصية "مخلصة" بلغة الشارع.
وتظهر هذه المصطلحات في الأدب والسينما، فيأتي جيل آخر بعد عشر سنوات، تكون له لغته الخاصة ومصطلحاته، فلا يفهم أي شيء من ألفاظ اللغة السابقة؟.. فيحتاج إلى "كتالوج" ليفهم هذه الألفاظ الغريبة، فمثلا في سلسلة أفلام "اللمبي" الشهيرة، والتي أعطت للغة العربية ضربة موجعة، وفتحت الباب على أشده أمام ألفاظ غريبة وشاذة وأحيانا إباحية، لتستخدم على نطاق واسع بين كافة فئات المجتمع المصري، حتى أنها أضفت على اللغة إيقاعا آخر، فمن يرى هذه الأفلام من أي دولة عربية أخرى لن يفهم اللغة المستخدمة في الفيلم، ومن يرى الفيلم نفسه من المصريين بعد عشرة أعوام فقط سيمر بنفس المشكلة، وتتبدل التراكيب الجديدة نفسها لتظهر أخرى وأخرى موغلة أكثر من الإيقاع الغربي أو لتوحي بمستويات أخرى من الانحطاط الثقافي والاجتماعي.
وظهرت أيضا تركيبات لغوية غريبة لا يمكن أن تنشأ كنتيجة طبيعية لتطور اللغة أو لعقول الناس أو لمواجهة متطلبات الحياة المتغيرة أو حتى لسبب معقول مثل "إحساس زبالة"، " شكله غبي"،" علينا ده إحنا استوينا"، "مفيش أي مصلحة؟"، "روش طحن"، "عداه العيب وقذح"!. هذا فضلا عن المصطلحات الجنسية الموحلة في الانحطاط الأخلاقي.
ووصل الأمر لدرجة أن اللغة العربية نفسها صارت مشكلة صعبة الحل، ففي أحيان كثيرة لا يفهم الشاب المصري العادي المتعلم صاحب الشهادات كلمات تقال في نشرات الأخبار، ولا يستطيع أن يصوغ جملة عادية، ولو طلب منه كتابة خطاب أو رسالة، لوقع في خطأ نحوي أو إملائي بين كل كلمة وأخرى!. ولن يكون غريبا جدا لو كتب عباراته بطريقة الشات ( 3amel eh?.)؟.
يقول الكاتب والروائي "جمال الغيطاني":
"هناك خطر حقيقي في استخدام هذه اللغة، وهذا جعل الفصحى معزولة عن الواقع، لدرجة أنني أواجه أحيانا صعوبات في فهم بعض المصطلحات المتداولة حاليا، المشكلة تتمثل في استخدام اللغة كقيمة اجتماعية يترتب عليها وضع اجتماعي معين، ومعظمنا يذكر الخبر الذي نشرته الصحف عن الزوجة التي طلبت الخلع لأن زوجها يتحدث العربية في المنزل. هذه هي الخطورة الحقيقية على اللغة العربية، وهذه المشكلة ستبلغ ذروتها خلال عشرين عاما إذا لم ننتبه إليها. سيظهر جيل يقرأ القرآن بدون أن يعرف معناه وسيحتاج إلى ترجمة معانيه مثله في ذلك مثل مسلمي تركيا".
أما د."محمود عكاشة" مدرس علم اللغة بجامعة الإسكندرية، فيرى أن اللغة العربية تستطيع أن تتعامل مع أي مصطلحات أجنبية، أو مصطلحات وقتية شاذة، فهي إما تضمها إلى كيانها من خلال التعريب أو الترجمة، أو تتركها لتتفاعل لبعض الوقت مع اللغة، قبل أن تنتهي وتأكل نفسها كالنار، فالمشكلة ليست مشكلة اللغة، بل كيفية التعامل معها، فهو مع التجديد دون ابتذال، وأن جاذبية المصطلحات الجديدة والتي يصر على استخدامها الشباب ستتلاشى بعد فترة.
أما د."هدى مطاوعة"، فترى أن الخطورة تنبت من تعامل الإعلام مع هذه المصطلحات الشبابية بطريقة غير لائقة، فلابد أن تقوم بدور الرقيب الواعي، فالكلمة قامت بأعظم حركات التاريخ، وهذا يعني أيضا أنها منشأ الانهيارات الحضارية والانكسار الثقافي، وأن ما جمع العرب حتى هذه اللحظة هو اللغة، ففي المثل "أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب"، ترى فيه أن الرابط الأول الذي يربط بين الأخ وأخيه هو اللغة المشتركة، وإلا فمن أين يعرف الأخ أخاه!. اللغة تؤثر على الترابط الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، قد تختلف الأديان، ولكن تبقى الصلة الأولى هي اللغة.
ووجهة نظرها في تلك النقطة، أنه أضحى لكل شعب من الشعوب العربية لغة غريبة عن الأخرى، فالعامية المصرية غير التونسية غير الليبية، وربما تأتي اللحظة التي ينفرط فيها عقد دولة عربية لأنها غيرت لغتها تماما!. فهل يمكن أن يحدث هذا فعلا؟