الفتنة.. نار وغضب وجهل
خمسة أيام فقط، كانت الفارق بين فتنة "الصيدلية" وفتنة "المحمول" اللتين وقعتا في مدينة "إسنا" التابعة لمحافظة قنا بصعيد مصر، الأمر الذي يكشف عن أن أسلوب "الطبطبة" "وكله تمام يا معالي الباشا" لم يعد تأثيره يدوم سوى لأيام معدودة فقط، ناهيك عن أنه بلا نتيجة حقيقية ويٌبقي الرماد قابلا للاشتعال في أي لحظة.
فتنة "الصيدلية" بدأت -حسبما قالت مصادر أمنية واتفق معها الشهود- بعدما قام اثنان أحدهما يعمل بصيدلية والآخر صاحب محل -الصدفة أنهما كانا مسيحيين- بالاتفاق مع فتاة سيئة السمعة -الصدفة أنها كانت مسلمة- لممارسة الحرام معها في الصيدلية في مقابل مبلغ من المال قيل إنه وصل إلى 100 جنيه، إلا أن الأمور لم تسر كما خططا، وعلم أحدهم بالأمر، وبدلا من أن يتم إبلاغ الشرطة للتحقيق في الواقعة "المُجرمة طبعا بحكم القانون"، تحول الأمر إلى "فتنة طائفية" لأن الفتاة كانت مسلمة ولأن من مارس معها الرذيلة كانا مسيحيين، وعليه قام عدد من "المسلمين" بمهاجمة الصيدلية فحطموها هي والمحل وبالمرة حطموا في طريقهم 15 محلا آخر مملوكة للمسيحيين.
هل كان الأمر سيختلف أو بأقل خسائر لو كانت الفتاة مسيحية؟ أو لو كان الرجلان مسلمين؟ وارد جدا، صحيح أن جرائم الشرف ذات صدى مختلف في الصعيد، لكن الأكيد أن إشكالية "اختلاف الأديان" هي التي دفعت "الجماهير" إلى الذهاب إلى المحلات وتحطيمها على اعتبار أن هذا "نصر للإسلام" رغم أن "المنطق الصعيدي" يقول بأنه حتى لو قام الرجلان المسيحيان باغتصاب الفتاة المسلمة -وليس مواقعتها برضاها وفي مقابل مادي- و تحركت هذه الجماهير بدافع الانتقام لشرف الفتاة في ظل غياب الإيمان بأن القانون سيجلب الحق لأصحابه، فإن الانتقام يفترض أن يكون من نصيب من قام بالواقعة المٌجرمة أو أحد من أقربائه حتى حسبما تقول قواعد "الثأر" في الصعيد لا أن يطول أي "واحد مسيحي موجود في الشارع".
نفس الأمر تكرر بحذافيره في فتنة المحمول..
"جوزيف جرجس حلمي" صاحب محل لخدمات التليفون المحمول، اكتشف فجأة سرقة أحد أجهزة المحمول، فاندفع خارج محله لعله يلحق بالسارق الذي ظن أنه تلك السيدة المنتقبة التي كانت تتحدث من محله منذ دقائق، ولما لحق بها استوقفها -في عنف فيما يبدو من الروايات- وطالبها بالكشف عن النقاب ليتعرف على شخصيتها، هنا استغاثت السيدة المنتقبة فجاء لإنقاذها أقرباؤها، فاستغاث صاحب المحل بدوره بوالده فجاء لنصرته، واشتبك الطرفان قبل أن يتم اقتيادهما إلى قسم الشرطة لتحرير محضر بالواقعة، دون أن يعرف أحد من الذي سرق التليفون المحمول!
لم ينتهِ الأمر طبعا، من جديد جاء دور الانتقام، في الصباح التالي، قام مجموعة من الرجال المسلمين بمهاجمة محل خدمات الموبايل و12 محلا آخر مملوكة جميعها لمسيحيين بالطبع، قبل أن يشعلوا النيران في سيارتين مملوكتين لمسيحيين أيضا، ليتوجوا حفل النار الطائفي هذا بإلقاء الحجارة والزجاجات المشتعلة على كنيسة العذراء مريم الموجودة في المدينة.
هل كان الأمر سيختلف لو كانت السيدة المنتقبة مسيحية؟ أو لو كان أصحاب المحل مسلمين؟ وارد جدا، صحيح أن اتهام امرأة -وفي الصعيد تحديدا- بالسرقة أمر غير مقبول وله تبعات خطيرة تتعلق بشرفها، إلا أن الأكيد أن الأمر لم يكن ليتطور إلى حد إشعال النيران في بيت ديني "الكنيسة" لو كان أصحاب المحل والسيدة المنتقبة ينتمون إلى ديانة واحدة، ربما كان الموقف سينتهي في قسم الشرطة أو بجلسة صلح بين العائلتين المتصارعتين على أن يقبل الطرف المتضرر تعويضا مناسبا على ما حدث له، ثم ينتهي الموضوع، لكن هذا للأسف لم يحدث.
الثابت في فتنة "الصيدلية" و"المحمول" أنهما متصلتان ببعضهما البعض، ربما لأن الأنفس لم تهمد أو تبرد أو تصفو بسبب الواقعة الأولى، فإن رد الفعل جاء ملتهبا في المرة الثانية، مع أن واقعة الصيدلية -لو صح القول بأن الفتاة أجبرت على ممارسة الرذيلة- هي التي تستوجب رد الفعل الأقوى، إلا أن سياسة "كل شيء هادئ في إسنا" أبقت النيران مشتعلة، وجعلت رد الفعل في واقعة "المحمول" "هيستيريا" متخذا بعدا دينيا في قضية لا علاقة لها بالدين أساسا.
وهو أمر مقلق جدا، لأنه في كل حوادث الفتنة الكبيرة الأخيرة "الكشح، محرم بك" وغيرهما، كان السبب دينيا بالأساس "النزاع على تحويل قطعة أرض إلى كنيسة أو إلى مسجد، تعدي مسلم على رهبان كنيسة بالسكين بسبب تطرف ديني"، أما الفتنة الأخيرة فأسباب الاشتعال لم تكن دينية بل كانت "أخلاقية" أو -قانونية- هذه المرة لكن رد الفعل اتخذ الطابع "الديني"، وهو ما يعني اتساع مساحات النيران وزيادة فرصة ظهور "الفتنة" بسبب أي "اختلاف" بسيط يمكن معالجته لو كانت النفوس صافية وتدرك الخطوط المشتركة بين الأديان والتي تعلي جميعها من قيم الشرف والأخلاق وتجلب العدل والحق لأصحابه.
لكن لماذا لا تكون النفوس صافية؟ ثمة أسباب كثيرة.. ربما ضعف الحال الاقتصادي وتردي الوضع الاجتماعي، الأمر الذي يؤدي إلى جعل البشر -وخصوصا في الصعيد المتمتع بأوضاع معيشية متدنية-أشبه بـ"العصب العاري" الذي تسري فيه النار بمجرد اللمس، لكن الأكيد أنه إذا كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة سببا في "حفلات الفتنة المرعبة" التي نشهدها بين الحين والآخر، فإنها -بكل تأكيد- ليست السبب الرئيسي الذي ربما يكون -بل لعله أكيد يكون- في تلك المفاهيم والأفكار التي يكونها المسلمون والمسيحيون كل عن الآخر، وهي تلك المفاهيم والأفكار التي تخرج من المسجد والكنيسة، ومن الوسائط الأخرى التي أصبحت تقوم بدور المسجد والكنيسة مثل القنوات الدينية المتخصصة وشرائط الكاسيت وسيديهات الخطب والوعظات، التي ربما تجدها جميعها -كل على حده- تتحدث عن أشياء لها علاقة بالدين دون أن تهتم بالحديث عن العلاقة بالآخر الذي ينتمي إلى دين آخر، والأكيد أنه لم نكن لنرى فتنة في الصيدلية أو أخرى بسبب محمول لو كانت هذه الوسائط تتحدث -بصدق- عن ضرورة وجوب وجود علاقة جيدة متينة وقوية بين المسلمين والمسيحيين، إلا أن الكل ارتضى -فيما يبدو- أن يقلد صورة شيخ الأزهر والبابا.