تعتبر تربية الأبناء في هذا الوقت من أعقد المشكلات التي تواجه الآباء والأمهات ورجال التربية والتعليم وعلماء النفس تربية صحيحة توافق العرف والشرع. وديننا الحنيف يحث الآباء والأمهات على تنشئة الأبناء تنشئة حسنة ولا يتحقق ذلك إلا بتضافر الجهود بين البيت والمدرسة والمجتمع، لذا فإن التربية تبدأ من البيت من الآباء والأمهات وهم الذين يتمتعون بالقدرة التنفيذية لدى الأبناء، فهم المسؤولون أولاً وأخيراً عن تربية أبنائهم وبناتهم. قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}. لذا يجب على الآباء والأمهات تربية أبنائهم بغرس العادات الطيبة والمثل العليا وأن يكونوا القدوة الصالحة للأبناء، كما يجب مكافأة المحسن على إحسانه حتى يبعث في نفسه جانباً من الارتياح الوجداني. التربية لا تعني الضرب والشدة والتحقير والحرمان كما يظن البعض، وإنما مساعدة الناشئ للوصول إلى أقصى كمال ممكن. ويجب التدرج في الثواب والعقاب، فالتوبيخ العادي الخفيف ولهجة الصوت القاسي يحدثان في الطفل التأثير الذي يحدثه العقاب الجسمي الشديد، ويجب أن يتناسب العقاب مع العمر فليس من العدل عقاب الطفل في المراحل الأولى من حياته. وإذا وقع العقاب من أحد الأبوين فلا يعارض الآخر وإلا فلا فائدة من هذا العقاب. وتحاول إقناع الطفل الذي عوقب أن العقاب كان لمصلحته وليس للتشفي حتى لا يحدث انحرافاً معيناً في نفسه، فلو شعر الطفل أن العقاب كان للتشفي لكانت الخسارة مزدوجة، فلا العقوبة أدت هدفها في الإصلاح وزاد في نفسه انحراف جديد لتحقيق الذات عن طريق غير سوي، كما أرى أن العقاب يتلو الذنب مباشرة وألا يكون من الخفة بحيث لا يجدي ولا من الشدة بحيث يشعر بالظلم ويجرح الكبرياء. إن تشجيع الأولاد وحثهم على فعل الخير والإقدام عليه له عظيم الأثر وكبير النفع في صلاح الأولاد وعلوهم سواء كان هذا التحريض بكلمات التشجيع وعبارات الثناء أو بالأعطيات والهبات أو بزرع الثقة في الابن نفسه أو بغير ذلك مما يكون سبباً للدفع إلى الخير والحث عليه. وقد صدرت في ذلك جملة من المقولات عن المصطفى ص ومن أصحابه لغلمان أصبحوا فيما بعد أئمة هدى يهتدى بهديهم ويقتدى بهم ومنها: حدثنا الرسول ص عن ابن مسعود بقوله «إنك غلام معلم» وذلك فيما أخرجه ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح. عن ابن مسعود قال كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعتبة بن أبي معيط فجاء النبي ص وأبو بكر الصديق وقد فرا من المشركين فقالا: يا غلام هل عندك لبن تسقينا؟ فقلت: إني مؤتمن ولست أسقيكما، فقال النبي ص: هل عندك جزعة لم ينز عليها الفحل؟ قلت: نعم فأتيتهما بها فاعتقلها النبي ص ومسح الضرع ودعا فحفل الضرع ثم أتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فاحتلب فيها فشرب أبو بكر ثم شربت قال للضرع أقلص فقلص قال: فأتيته بعد ذلك فقلت علمني من هذا القول فقال: إنك غلام معلم فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد. ومن ذلك تولية النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد إمرة جيش كبير وأسامة صغير لم يتجاوز العشرين . صور الثواب: للثواب صورتان مادية ومعنوية، فالثواب المادي يقوم على تقديم شيء من النقود أو اللعب والثواب المعنوي يقوم على إظهار الرضى والمسرة للطفل المحسن والافتخار به وتشجيعه عن طريق الكلام أو العفو عن الذنوب السابقة والتي لم يوقع بها عقاب. ويرى المختصون أن الثواب المعنوي أفضل من المادي بدعوى أن الأول يتيح للطفل تقوية ثقته بنفسه ويشعره بأنه محسن في عمله وأنه قادر على الإتقان بنفسه والنجاح ويزرع في الطفل نفسه مبادئ سليمة لتكوين شخصيته وفهمه لمن حوله. أما الثواب المادي فيحتمل أن يؤدي إلى النفعية وتكوين الإنسان المادي الذي يحرص على الهدايا والنقود أكثر من حرصه على النمو ويعتبر النجاح لديه وسيلة من وسائل الإكثار من المال والهدايا وهذا ما يجعل الثواب يخرج عن وظيفته الأساسية ويصبح غاية في ذاته بعد أن كان في الأصل مجرد وسيلة. وحين نفكر في إثابة أطفالنا فعلينا ألا ننسى القاعدة التي تقول: إنه لا ثواب على عمل يعد واجباً من الواجبات المحتمة أو الطبيعية، فإذا قام الطفل بتناول طعامه أو نام في الوقت المناسب فإنه لا يستحق ثواباً، أما إذا تبرع بهدية أو كتاب لأخته أو لأحد أصدقائه أو أعار لعبة من لعبه إلى أحد أصدقائه من الأطفال بكامل حريته، أو ندب نفسه لخدمة جاره أو صديقه فإنه يستحق منا التهنئة والثواب. صور العقاب: للعقاب صورتان مادية ومعنوية فالعقاب المادي يشمل الضرب أو الفصل أو الغرامة والحرمان من المكافآت المادية كما يشمل العقاب المعنوي اللوم والتأنيب والسخرية وعمل المربي ومدير المدرسة اتخاذ الحرص الشديد عندما يريدون إنزال عقوبة بالتلاميذ ويجب أن تكون هذه العقوبة هي الوسيلة الأخيرة التي نحتاج اللجوء إليها وبعد نفاد جميع الوسائل والحلول التي ربما تؤدي إلى التقييم وتصحيح مسار خاطئ بدون العقوبة، ويجب أن يكون اتخاذ قرار العقوبة في وضع يكون الموقف هادئاً وغير متوتر وأن يؤخذ القرار بقصد الإصلاح والتقويم لا الضرب والانتقام. وفي الواقع إن هناك طبقة يحبذون الأخذ بفكرة العقاب البدني عند محاولة الإصلاح والتربية. ولكن جمهور المربين دعوا إلى عدم الأخذ بهذه الفكرة لاعتقادهم أن العقاب البدني يعتبر وسيلة احتقار للشخصية الإنسانية وإنزالها في غير منزلتها البشرية. وهو بالتالي لا يؤتي الثمار المرجوة والمأمولة منه، وعليه فنحن نجد أن دراسات علم النفس التعليمي والتي أجريت لبيان أثر كل من الثواب والعقاب في تعديل السلوك تشير إلى حقيقة لا يمكن إخفاؤها أو تجاهلها تقول: إن كلاً من الثواب والعقاب مؤديان إلى إحداث التعديل المرغوب في السلوك، لكن الثواب أبقى أثراً، حيث إن العقاب مرهون أثره بوجود مثير الخوف، فإذا مازال هذا المثير عاد السلوك إلى سيرته الأولى أي على طريقة غاب القط العب يا فأر. لذلك نجد أن معظم النظم التربوية الحديثة ترفض أسلوب العقاب البدني وتحرمه التشريعات في كثير من دول العالم. شروط العقاب: يشترط في العقاب عدد من الشروط أهمها ما يلي: - يجب أن يكون العقاب متناسباً مع الذنب في كميته ونوعه. - يجب أن يوقع العقاب بعد اقتراف الذنب أما تأجيله إلى فترة طويلة فيفقده المعنى والفائدة. - لا يجوز أن يوقع العقاب إلا بعد أن ينبه الطفل إلى خطئه ويعطى فرصة لكي يقلع خلالها عن خطئه فإذا أصر على الخطأ عوقب. - علينا حين نعاقب أن نلتزم بالهدوء والأناة والبعد عن الانفعال وذلك كيلا تأخذ العقوبة طابع التشفي والانتقام. - يجب الابتعاد ما أمكن من لغة التهديد والوعيد فهو إما أن يؤدي إلى خوف كبير وهلع، وإما أن يعرف الطفل أن هناك تهديداً بدون صنع شيء فيبدأ في عدم المبالاة. - يجب ألا تتحول العقوبة إلى إهانة للطفل وإهدار لكرامته. - يجب عند العقاب بالضرب الابتعاد عن الأماكن الحساسة لدى الطفل والخطرة والمؤذية كأن يضربه في وجهه أو رأسه أو الصدر اتباعاً لقول الرسول ص «ولاتضرب الوجه». - ألا يضرب الطفل بأداة مؤذية قد تؤدي إلى إلحاق الضرر الشديد به. - في حالة العقاب بالضرب أن يقوم المربي أو الأب بالضرب بنفسه فلا يترك هذا الأمر لأحد من الإخوة الكبار أو الزملاء حتى لا تتأجج بينهم الأحقاد والمنازعات. - على المربي العدل بين الأبناء في إعطاء المكافآت وإذا كان الخطأ مشتركاً بين الأبناء فعليه العدل في العقاب قال ص «واتقوا واعدلوا بين أبنائكم». - علينا أن نعيد النظر في وضع العقوبة التي اعتدناها لتقويمها وطرح الطرق السيئة منها غير المعقولة. المدرسة والعقاب وضعت العقوبة المدرسية لإصلاح الخطأ وحماية بقية الطلاب بالمدرسة، فالطالب الذي يعبث بمحتويات المدرسة يجب أن يكون هناك حد لممارساته الخاطئة وذلك حماية لبقية زملائه من شره ويجب أن تكون البداية هنا بالعقاب الأدبي فهو أبلغ في التأثير على التلميذ المخطئ من العقاب البدني، فالطالب المكلف بمراقبة الطلاب في الفصل الدراسي (العريف) ويخطئ يجب أن ينتخب تلميذ آخر لمراقبة التلاميذ داخل الفصل الدراسي وهذا العقاب بدوره سوف يؤثر تأثيراً نفسياً وسكيون أبلغ وأكثر وقعاً على الطالب من العقاب البدني وسيبدأ هذا الطالب المبعد بمحاولة استعادة ثقة معلميه فيه ليعود للمراقبة مرة أخرى ويجب على المربي التذكر دائماً أن هناك فروقاً فردية بين الطلاب في الطبع والميول والعادات والتقاليد فما ينفع لعقاب طفل في ناحية من النواحي قد لا يجدي مع طفل آخر اقترف نفس الذنب والخطأ وعلى المربي أن يعامل كلاً منهم بالمعاملة التي تليق به، فالتلاميذ يختلفون فمنهم من تكفيه إشارة ومنهم من يتألم بالحجز.. وهكذا. ولكي ينجح العقاب المدرسي يجب على المربيين أن يعاقبوا كل تلميذ بما يناسبه بعد وزن ذنبه ومعرفة الحافز لاقتراف ذلك، وإذا شعر الطالب بذنبه وتقصيرة وبدأ يتقبل العقوبة من معلمه شاعراً بعدالة ذلك المعلم وملتمساً للرحمة وبدأت عليه التوبة والرغبة في عدم العودة إلى ما فعل نكون بذلك قد وصلنا إلى الهدف التربوي من العقوبة وهو الإصلاح وتعديل السلوك الخاطئ. وعند تنفيذ العقوبة يجب ألا تصل للمساس بكرامة الطفل وألا يكون فيها إهانة أو تحقير وألا تعلن العقوبة ونوع الذنب أمام زملائه الطلاب، فالطفل له كرامة يجب مراعاتها وشخصية يجب احترامها. ولربما أخطأ بعض المعلمين بظنهم أن الشدة على التلاميذ والقسوة ربما تؤتي ثمار الإصلاح والإقلاع عن الذنب وهذا خطأ كبير فلربما أدت هذه الطرائق إلى جعل الطفل ميت النفس ضعيف الإرادة مضطرباً قليل النشاط والحيوية، وفي اعتقادنا أن العقوبة البدنية هي الوسيلة الأخيرة التي يلجأ إليها بعد نفاذ جميع الوسائل. على المعلم أن يقنع التلميذ بالذنب الذي عوقب من أجله وبعدالة العقوبة وعليه ألا يعاقب التلاميذ وهو في حالة غضب ونرفزة وعليه إعطاء فرصة كافية للهدوء والتفكير ولربما أدى التفاهم على انفراد إلى تصحيح الوضع الخاطئ وأدى إلى نتائج إيجابية أفضل من الضرب والتحقير. ولعل أجدى الطرائق التي تتبع في تأديب الأبناء ما ذهب إليه ابن مسكويه في الموازنة بين الثواب والعقاب، يقول في ذلك «يمدح بكل ما يظهر به من خلق جميل وفعل حسن ويكرم عليه فإن خالف في بعض الأوقات ألا يوبخ عليه ولا يكاشف بأنه أقدم عليه بل يتغافل من لا يخطر بباله أنه قد يتجاسر على مثله ولا هم به ولاسيما إن ستره الصبي واجتهد أن يخفي ما فعله عن الناس. فإن عاد فليوبخ سراً ويعظم عنده ما أتاه ويحذر من معاودته فإنك إن عودته التوبيخ والمكاشفة حملته على الوقاحة، وحرضته على معاودة ما كان استقبحه وهان عليه سماع الملامة في ركوب قبائح اللذات التي تدعو إليها نفسه وهذه اللذات كثيرة جداً. فالعقاب ليس وسيلة التربية المجدية، فإنه قد يؤدي إلى كف الطفل عن العمل المعيب لكنه لن يؤدي إلى حبه للخير المطلوب، ومن ثم فسيعاود إلى ما منع عنه لإثبات ذاته ولإغضاب الآخرين، ولكن لو شعر واستحسن عمله في المحافظة على أدوات غيره وأدائها له فإن احترام حقوق الآخرين يصبح له عادة يعملها بسرور». (فالترغيب أفضل من الترهيب والاعتدال هو الميزان) أن الثواب يتيح للطفل تقوية ثقته بنفسه ويشعره بعمله الحسن، وأنه قادر على الاتقان والنجاح، فالثواب وبلا أدنى شك وسيلة من وسائل التشجيع والدعم ورفع المعنويات مما ينعكس أثره في زيادة ونماء المواهب الإيجابية لدى الأطفال وتأصيلها وتعويدهم على الابتكار والتعبير عن الذات وبالتالي التفوق والمشاركة الإيجابية داخل المدرسة وخارجها، وهذا ما يعزز أهمية مبدأ الثواب وأنه النهج السليم والتربوي الذي يجب السير عليه لرفع معنويات التلاميذ ودعمهم في مختلف المراحل والمستويات. وفي المقابل فإن العقاب من الأمور التي ربما يلجأ إليها المربون والآباء عند حدوث خطأ أو تجاوز غير مرغوب من الأطفال وعلى الآباء والمربين الحرص عند محاولة إنزال العقوبة بالتلاميذ، ويجب أن تكون هذه العقوبة هي الوسيلة الأخيرة التي نحتاج اللجوء إليها وبعد نفاذ جميع الوسائل والحلول والتي ربما أدت إلى تصحيح ذلك المسار الخاطئ. كذلك فإن من أهم الآثار المترتبة على العقاب في المدارس بوجه عام هو اهتزاز شخصية الطالب وفقدانه الثقة بنفسه وبالتالي تعطيل مهاراته وفكره الإبداعي إلى جانب إكسابه مهارات عدوانية وبروز سلوك الضدية لديه ويصبح لدى التلميذ كره للمدرسة وكل ما يتعلق بالعملية التربوية.
موقع : المختار الإسلامي .