الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن والاه.
وبعد.. فإن من تمام نعمة الله على عباده أن جعل لهم من أنفسهم سكناً يحصل به الاطمئنان والأنس والاستقرار، قال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا"[1].
وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا"[2].
ولعل من عوامل دوام هذا السكن والاستقرار ما جاءت به الشريعة من إباحة نظر الخاطب إلى مخطوبته، فعن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – أنه خطب امرأة فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"[3].
قال الإمام الترمذي[4]: ((ومعنى قوله: (أحرى أن يؤدم بينكما): أي: أحرى أن تدوم المودة بينكما)).
على أن ما جاءت به الشريعة من إباحة النظر للخاطب ليس على إطلاقه، بل لابد من مراعاة الضوابط والشروط المبيحة لهذا النظر.
ومن أجل معرفة هذه الضوابط وغيرها مما يتعلق بنظر الخاطب إلى مخطوبته استعنت بالله، ووضعت هذه الرسالة، سائلاً الله العلي القدير أن تحقق المقصود منها، فإن تكن ذا فائدة فذلك فضل الله وتوفيقه، وأن تكن الأخرى فمن نفسي واستغفر الله.
هذا وقد تضمنت هذه الرسالة المباحث التالية:
المبحث الأول: حكم نظر الخطبة والأصل فيه.
المبحث الثاني: حكمة التشريع.
المبحث الثالث: حدود النظر.
المبحث الرابع: ضوابط النظر.
المبحث الخامس: مقدار النظر.
المبحث السادس: هل يحتاج إلى إذن المخطوبة في النظر؟
المبحث السابع: وصف المخطوبة للخاطب.
المبحث الثامن: نظر المخطوبة للخاطب.
((المبحث الأول))
حكم نظر الخطبة والأصل فيه
اتفق العلماء – رحمهم الله – على إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها ونقل الاتفاق عدد منهم.
• قال الوزير بن هبيرة[5] – رحمه الله –: ((واتفقوا على أن من أراد تزوج امرأة، فله أن ينظر منها ما ليس بعورة)).
• وقال الموفق[6] – رحمه الله –: ((لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها)).
• وقال النووي[7] – رحمه الله – معقباً على ما ساقه مسلم من أحاديث النظر إلى المخطوبة –: ((وفيه استحباب النظر إلى وجه من يريد تزوجها وهو مذهبنا، ومذهب مالك، وأبي حنيفة، وسائر الكوفيين، وأحمد، وجماهير العلماء. وحكى القاضي عن قوم كراهته، وهذا خطأ مخالف لصريح هذا الحديث ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها)).
سند الإجماع:
1- عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: ((كنت عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم – "أنظرت إليها؟" قال: لا. قال: "فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً"[8].
قال النووي[9]: هكذا الرواية، شيئاً بالهمز، وهو واحد الأشياء قيل المراد: صِغَر، وقيل: زرقة، وفي هذا دلالة لجواز ذكر مثل هذا للنصيحة.
2- عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – أن امرأة جاءت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه.. الحديث[10].
قال ابن حجر[11] – رضي الله عنه – استنبط البخاري جواز ذلك من حديثي الباب، لكون التصريح الوارد في ذلك ليس على شرطه.
3- عن جابر – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"[12].
4- عن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – أنه خطب امرأة فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"[13].
5- عن موسى بن عبدالله عن أبي حميدة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة، وإن كانت لا تعلم"[14].
6- عن محمد بن مسلمة قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إذا ألقى الله – عزوجل – في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها"[15].
7- عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يتزوج امرأة فبعث امرأة لتنظر إليها فقال: "انظري إلى عرقوبيها وشمي عوارضها"[16].
8- وعن محمد الحنفية: أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم، فذكر له صغرها فقال: أبعث بها إليك، فإن رضيت فهي امرأتك[17].
((المبحث الثاني))
حكمة التشريع
كما ظهر من الأدلة المتقدمة، فقد أبيح للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة وفي حديث المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – تنبيه إلى الحكمة من إباحة النظر حيث قال – صلى الله عليه وسلم –: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"[18].
قال الإمام الترمذي[19]: ومعنى قوله: (أحرى أن يؤدم بينكما) أي: أحرى أن تدوم المودة بينكما.
وفي شرح الحديث، قال الملا علي القادري[20]: ((يعني يكون بينكما الألفة والمحبة، لأن تزوجها إذا كان بعد معرفة فلا يكون بعدها غالباً ندامة)).
وفي حجة الله البالغة[21] أبان ولي الله الدهلوي عن الحكمة قائلاً: (والسبب في استحباب النظر إلى المخطوبة أن يكون الزوج على رؤية، وأن يكون أبعد من الندم الذي يلزمه إن اقتحم في النكاح، ولم يوافقه فلم يرده، وأسهل للتلافي إن رد، وأن يكون تزوجها على شوق ونشاط، إن وافقه، والرجل الحكيم لا يلج مولجاً حتى يتبين خيره وشره قبل ولوجه).
((المبحث الثالث))
حدود النظر
لا خلاف بين العلماء – رحمهم الله – في إباحة النظر إلى الوجه[22] وهو مجمع المحاسن، وموضع النظر، واختلف العلماء – رحمهم الله – في إباحة نظر الخاطب إلى ما سوى الوجه على أقوال:
القول الأول:
للخاطب أن ينظر إلى الوجه والكفين فقط، وبه قال الجمهور من الحنفية والمالكية، والشافعية.
قال في بدائع الصنائع[23]:
"إذا أراد أن يتزوج امرأة فلا بأس أن ينظر إلى وجهها، وإن كان عن شهوة، لأن النكاح بعد تقديم النظر أدل على الألفة والموافقة الداعية إلى تحصيل المقاصد".
وجاء في المبسوط 10/154 – 155 ((نأخذ بقول علي وابن عباس – رضي الله تعالى عنهم – فقد جاءت الأخبار بالرخصة بالنظر إلى وجهها وكفيها..)) إلى أن قال:
"وكذلك إن كان أراد أن يتزوجها فلا بأس بأن ينظر إليها وإن كان يعلم أنه يشتهيها".
وأبان الخرشي[24] عن مذهب المالكية قائلاً:
"ويندب لمن أراد نكاح امرأة – إذا رجا أنها ووليها يجيبانه إلى ما سأل وإلا حرم – نظر وجهها وكفيها فقط، بعلمها، بلا لذة، بنفسه، ووكيله مثله، إذا أمن المفسدة ويكره استغفالها لئلا يتطرق أهل الفساد لنظر محارم الناس ويقولون نحن خطاب".
وقال النووي[25]:
"إنما يباح له النظر إلى وجهها وكفيها فقط، لأنهما ليسا بعورة، ولأنه يستدل بالوجه على الجمال، أو ضده، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها، هذا مذهبنا، ومذهب الأكثرين".
وجاء في تكملة المجموع[26]: ((وإذا أراد الرجل خطبة امرأة جاز له النظر منها إلى ما ليس بعورة منها، وهو وجهها، وكفاها، بإذنها وبغير إذنها، ولا يجوز له أن ينظر إلى ما هو عورة منها)).
حجة القول:
أن النظر محرم في الأصل، وإنما أبيح للحاجة، والحاجة تندفع بالنظر إلى الوجه والكفين، فيبقى ما عدا ذلك على التحريم[27].
وقد روى ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: الوجه وبطن الكف في تفسير قوله تعالى: "وَلاَ يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا"[28].
القول الثاني:
للخاطب أن ينظر من المرأة المخطوبة إلى ما يظهر غالباً، وهذا هو الصحيح من المذهب عند الحنابلة.
قال في الانصاف[29]:
"له النظر إلى ما يظهر غالباً كالرقبة واليدين والقدمين منها، وهو المذهب".
وجاء في المغني[30]: ((قال أحمد في رواية حنبل: لا بأس أن ينظر إليها وإلى ما يدعو إلى نكاحها من يد أو جسم ونحو ذلك)).
قال أبو بكر: ((لا بأس أن ينظر إليها عند الخطبة حاسرة)).
وقيل: ينظر إلى الوجه فقط، صححها القاضي وابن عقيل وغيرهم.
وعنه: له النظر إلى الوجه والكفين فقط وقيل: له النظر إلى الرقبة والقدم والرأس والساق.
حجة القول:
أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أذن في النظر إلى المرأة من غير علمها، لمن أراد خطبتها، علم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر عادة، إذ لا يمكن إفراد الوجه بالنظر مع مشاركة غيره له في الظهور، ولأنه يظهر غالباً فأبيح النظر إليه كالوجه، ولأنه امرأة أبيح له النظر إليها بأمر الشارع فأبيح النظر منها إلى ذلك[31].
القول الثالث:
له النظر إلى جميع بدنها ما ظهر منه وما بطن، وبذلك قال داود، وابن حزم. جاء في المحلى[32] ((ومن أراد أن يتزوج امرأة حرة أو أمة، فله أن ينظر منها متغفلاً، وغير متغفل إلى ما بطن منها وما ظهر)).
حجة القول:
عموم الأحاديث المتقدمة، حيث أضاف النظر إلى المخطوبة على سبيل العموم ولو لم يرد جميع جسدها لحصص العضو المراد النظر إليه، فلما لم يخصص كانت الأحاديث على إطلاقها.
وأجيب: بأن هذا خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع، كما ذكر النووي[33] – رحمه الله –.
وفي حديث جابر المتقدم ما يدل على أن المراد إباحة النظر إلى بعض البدن، حيث قال – صلى الله عليه وسلم –: "فقدر أن يرى منها". ومن نظر إلى وجه إنسان سمي ناظراً إليه، ومن رآه وعليه أثوابه سمي رائياً له[34]، كما قال تعالى: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ"[35].
وذكر البجائي[36] نقلاً عن ابن القطان قوله:
"إن هذه الرواية عن أبي داود لم يرها عنه في كتب أصحابه، وإنما حكاها عنه أبو حامد الاسفراييني والأدلة المانعة من النظر إلى العورة تمنع من ذلك".
الراجح:
لعل الأرجح – والله أعلم – ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من تحديد النظر بالوجه والكفين، فبالنظر إليهما تندفع الحاجة لدلالة الوجه على المحاسن والكفين على الخصوبة، ويبقى ما عداهما على التحريم)).
((المبحث الرابع))
ضوابط النظر
كما سبق بيانه في حكمة التشريع، فإن الشريعة من أجل قيام حياة زوجية سعيدة مبنية على الوئام، والوفاق، أباحت النظر للراغب في الزواج، لأن النكاح بعد تقديم النظر، أدل على الألفة والموافقة الداعية إلى تحصيل المقاصد.
وحتى لا يتذرع أهل الفساد باتخاذ ذلك وسيلة للنظرة المنبعثة عن نية سيئة فينتج عن ذلك إيذاء الناس في أعراضهم، قيدت الشريعة هذا النظر بضوابط يمكن حصرها فيما يلي:
1- أن لا يخلو بها عند النظر، فلابد أن يكون ذلك بحضور عدد من محارمه من النساء، أو أحد محارمها من الرجال، لأن الشرع لم يرد بغير النظر إليها، فتبقى الخلوة بها على التحريم، واجتماعه بها وحدها خلوة بالأجنبية والخلوة بالأجنبية محرمة، لقوله – r –: "لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم"[37].
2- أن لا ينظر إليها نظرة تلذذ وشهوة، وقد قال الإمام أحمد – رحمه الله – في رواية صالح: ((ينظر إلى الوجه ولا يكون عن طريق اللذة))[38].
3- أن يغلب على ظنه إجابته لنكاحها، لأن النظر لا يجوز إلا عند غلبة الظن المجوز.
4- لا يجوز له مصافحتها، ولا مس أي عضو من أعضائها لأنها أجنبية عنه.
5- الأولى أن يكون هذا النظر قبل الخطبة لا بعدها، لأنه قد يرد أو يعرض فيحصل التأذي والكسر.
6- إذا لم تعجبه فليسكت، ولا يقول: إني لا أريدها، لأن في ذلك إيذاء لها[39].
7- أن يكون نظره إلى الوجه والكفين فقط – كما سبق ترجيحه.
8- لا يجوز له أن يسافر بها. لأنه ليس زوجاً، ولا محرماً، وقد قال – صلى الله عليه وسلم–: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثاً إلى ومعها ذو محرم منها"[40].
9- له أن يحادثها ويسألها ما بدا له في حدود الآداب الشرعية، لأن صوتها في كلامها العادي ليس بعورة على القول الراجح.
((المبحث الخامس))
مقدار النظر
الذي تدل عليه أقوال العلماء – رحمهم الله – أن هذا النظر إنما أبيح للضرورة، وما أبيح للضرورة فإنه يتقدر بقدرها، فإذا حصل الغرض بنظره حرم ما زاد عليها.
قال في نهاية المحتاج[41]: ((وله تكرير نظره، ولو أكثر من ثلاث فيما يظهر حتى يتبين له هيئتها، ومن ثم لو اكتفى بنظرة حرم ما زاد عليها، لأنه نظر أبيح لضرورة، فيتقدر بها، وسواء في ذلك أخاف الفتنة أم لا، كما قاله الإمام والروياني)).
وجاء في رد المحتار[42]: ((وتقييد الاستثناء، أي قولهم، إلا لحاجة كخاطب، يفيد أنه لو اكتفى بالنظر إليها بمرة حرم الزائد، لأنه أبيح للضرورة فيتقيد بها)).
وفي الروض المربع[43]: ((ويباح لمن أراد خطبة امرأة وغلب على ظنه إجابته نظر ما يظهر غالباً، كوجه ورقبة ويد، وقدم.. مراراً، أي يكرر النظر، لأنه – صلى الله عليه وسلم – صعد النظر وصوبه، ويتأمل المحاسن لأن المقصود إنما يحصل بذلك)).
((المبحث السادس))
هل يحتاج إلى إذن المخطوبة في النظر؟
لا يشترط استئذان المخطوبة من أجل النظر عند جمهور الفقهاء ويجوز للخاطب أن ينظر إليها وأن لم تأذن أو يأذن وليها.
قال في تكملة المجموع[44]: ((وإذا أراد الرجل خطبة امرأة جاز له النظر إلى ما ليس بعورة منها وهو وجهها وكفاها، بإذنها وبغير إذنها)).
وجاء في نهاية المحتاج[45]: ((وإن قصد نكاحها سن نظره إليها وإن لم تأذن هي ولا وليها اكتفاء بإذنه – r – ففي رواية: (وإن كانت لا تعلم)، بل قال الأذرعي: الأولى عدم علمها، لأنها قد تتزين له بما يغره)).
وذكر البهوتي[46]: ((أنه يباح لمن أراد خطبة امرأة وغلب على ظنه إجابته النظر، ويكرره، ويتأمل المحاسن، ولو بلا إذن إن أمن الشهوة من المرأة، ولعل عدم الإذن أولى)).
حجة القول:
1- ما رواه جابر بن عبدالله – رضي الله عنه – أنه – صلى الله عليه وسلم– قال: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل"، فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزويجها[47].
2- ما رواه أبو حميد – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تعلم"[48].
وذهب المالكية إلى كراهة النظر إلى المخطوبة بدون إذن منها مخافة من وقوع نظره على عورة.
جاء في شرح الخرشي على خليل[49]: ((ويكره استغفالها لئلا يتطرق أهل الفساد لنظر محارم الناس ويقولون نحن خطاب)).
ولعل الأرجح – والله أعلم – ما ذهب إليه الجمهور لاستناده إلى نصوص جيدة السند، ولأن المرأة غالباً تستحي من الإذن.
ولأن في ذلك تغريراً، فربما رآها فلم تعجبه فيتركها فتنكسر وتتأذى ولهذا استحب العلماء – رحمهم الله – أن يكون نظره إليها قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة.
((المبحث السابع))
وصف المخطوبة للخاطب
على الخاطب أن ينظر إلى مخطوبته بنفسه، وليس له أن يوكل رجلاً ينظر إليها ثم يصفها له.
ونقل عن المالكية القول بجواز ذلك على أن لا يكون نظره إليها على وجه التلذذ وإلا منع من ذلك[50].
فإذا لم يتيسر للرجل أن ينظر إلى المرأة بنفسه، أو نظر إلى وجهها وكفيها ولم يكتف بذلك فله أن يرسل من يحل له نظرها ليتأملها ويصفها له ولو بما لا يحل له نظره، فيستفيد بالبعث ما لا يستفيد بالنظر، وهذا لمزيد الحاجة إليه مستثنى من حرمة وصف امرأة امرأة لرجل[51].
وفي حديث أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث أم سليم إلى امرأة، وقال: "انظري إلى عرقوبها وشمي معاطفها"[52].
فاستدل بذلك على أنه يستحب للرجل إذا لم يتمكن من النظر أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره، ويكون ذلك قبل الخطبة[53].
وينبغي أن يلاحظ أن العلماء – رحمهم الله – ذكروا أن على من استشير في خاطب أو مخطوبة، أن يذكر ما فيه من مساوئ وعيوب وغيرها، ولا يكون ذلك غيبة محرمة، إذا قصد به النصيحة لحديث: "المستشار مؤتمن"الدين النصيحة"[55].[54]. وحديث: "
وإن استشير في أمر نفسه بينه، كقوله: عندي شح، وخلقي شديد، ونحوهما، لعموم ما سبق[56].
((المبحث الثامن))
نظر المخطوبة للخاطب
كما أن للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته من أجل أن تدوم الألفة والمودة فإن للمخطوبة أن تنظر إلى خاطبها، بل هي أولى منه، لأنه يمكنه مفارقة من لا يرضاها بالطلاق، وهو بيده، أما هي فلا تملكه، ولأنه يعجبها منه ما يعجبه منها.
وإليك من أقوال العلماء – رحمهم الله – ما يوثق ذلك:
قال في تكملة المجموع[57]: ((يجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه، لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها، ولهذا قال عمر – رضي الله عنه –: ((لا تزوجوا بناتكم من الرجل الذميم، فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن))[58].
وجاء في نهاية المحتاج[59]: ((يسن للمرأة أيضاً أن تنظر من الرجل غير عورته إذا أرادت تزويجه، فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها، وتستوصف كما في الرجل)).
وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار[60]: ((إن المرأة أولى من الرجل في النظر، لأنه يمكنه مفارقة من لا يرضاها بخلافها)).
وفي مواهب الجليل[61] ذكر أبو عبدالله الطرابلسي المقري أنه لم ير في ذلك نصاً للمالكية، والظاهر استحبابه، وفاقاً للشافعية، قالوا: يستحب أن تنظر إلى وجهه وكفيه.
وذكر في كشاف القناع[62]: المعتمد عند الحنابلة في هذه المسألة فقال: ((وتنظر المرأة إلى الرجل إذا عزمت على نكاحه، لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها، وهذا إنما يظهر على قول من يقول ولا تنظر المرأة إلى الرجل.
والمذهب: أنها تنظر إلى ما عدا ما بين سرته وركبته. وإن كان المراد أنه يسن فهو إنما يتمشى على قول الأكثر)). وذكر ابن الجوزي[63] – رحمه الله – ((أنه يستحب لمن أراد تزويج ابنته أن ينظر لها شاباً مستحسن الصورة، لأن المرأة تحب ما يحب الرجل)).
وفي مصنفه ذكر عبدالرزاق: أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: ((فيعمد أحدكم إلى ابنته فيزوجها القبيح الذميم إنهن يردن ما تريدون))[64].
هذا ما تيسر جمعه في هذه الرسالة، أسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه، أولاً وآخراً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.