لأعوام طويلة ظل التنافس والجدل قائما في الأوساط الأدبية والثقافية أيهما أشعر "أحمد شوقي" أم شاعرنا الذي نتكلم عنه اليوم "حافظ إبراهيم"، فإن كان البعض قد ذهب إلى القول بأن شوقي هو شاعر القصر باعتبار تربيته فيه، وأنه اللسان المعبر عنه لفترة طويلة، فإن ما كان يوصف به "حافظ" هو أنه شاعر الشعب الذي يعبر عن معاناتهم وأفكارهم وآمالهم وآلامهم.

المولد

ولد "حافظ أبراهيم" في مركب (عوامة) راسٍ أمام بلدة ديروط بصعيد مصر.. أي على أحد جوانب النيل، الذي هو شريان الحياة الطيبة في أرض طيبة.. وكأنّه وُلِد فيه ليكون خير مُعبِّر في زمنه عن أهله الذين يشربون منه ويتجرعون المرارة على أرضه. ولكن لا أحد يعلم على وجه التحديد متى ولد إلا أن المرجح هو أن ذلك كان في عام 1872.

الأب مصري كان يعمل مهندسا مشرفا على قناطر ديروط ، والأم من أصل تركي، أي أنه جمع منذ مولده على شط النيل هذا التدفق الجاري في مشاعره المملوءة بالحياة والتي جعلت أفكاره تسير وفق مدرسة وجدت لتوصف بأنها على مستوى الشعر والأدب مدرسة الإحياء والبعث، وكأنه أخذ من الماء صفة من صفاته ليطبعها على الشعر فبدت مصريته في تمسّكه الأصيل بالتراث وميله للتجديد فيه بعد إعادته للوجود، وأخذ من تُركيته صلابة رأيه وعنده وعشقه للموسيقى وولعه بها..

خطوات على الطريق

توفي الأب و"حافظ" لا يزال في الرابعة من عمره، لينتقل مع أمه إلى القاهرة للإقامة مع خاله الذي تولى تربيته وأشرف على تعليمه، غير أنه كان كثير التنقل من مدرسة لأخرى، بل وكان سريع الملل من الحياة الدراسية رغم عشقه للقراءة وحفظ الجيد من الشعر، ولهذا لم يكمل تعليمه الثانوي..

ولأن خاله الذي كان يعمل مهندسا حكوميا انتقل إلى طنطا كان على "حافظ" أن ينتقل معه إليها، غير أن المشاكل التي لازمت "حافظ" في علاقته بخاله طوال إقامته معه أخذت في الظهور بل ووصلت للحد الذي جعل "حافظ إبراهيم" يترك بيت خاله مقررا الاعتماد على نفسه، وإن كان للخال بعض العذر في ضيقه من شخصية "حافظ" الكسولة الملولة التي لا تتحمل قيد دراسة أو قيد عمل، فإن "حافظ" كان متألما لأنه في قرارة نفسه كان يطمع في أن يتفهم خاله طبيعته وأنه ليس كسولا أو بليد الشعور غير أنه لم يجد بعد العمل الذي يناسب طبيعته ويرتاح إليه.. ولهذا بدت أبياته التي كتبها لخاله معبرة عن حالته حينها فيقول:

ثقلت عليك مودتي إني أراها واهية
فافرح فإني ذاهب متوجّه في داهية

وعلى هذا بدأ "حافظ" حياة اليتم وهو في سن صغيرة، ثم قسوة العيش في بيت الخال الذي يرفض طبيعته، وبالكاد يتحمل وجوده، ومن هنا كان "حافظ" أقرب الشعراء إدراكا لمعاناة الناس..

بين العمل والأمل!!

توجه "حافظ" نحو مهنة المحاماة، وكانت حينها مهنة حرة يحترفها من يجد في نفسه قدرة على المخاطبة والنظر والحوار، ولم يكن هناك قيد بوجوب شهادة أو خبرة، وربما توجّه إليها ليس فقط لأنه يملك من الفصاحة والبلاغة والفهم ما يستطيع به أن يتبنى قضية ويدافع عنها، بل لأنها أيضا كانت مهنة الثراء السريع والنجاح الكبير إذا ما وُفِّق العامل بها، غير أنه وبعد تنقله بين مكاتب المحاماة ومكسبه لبعض القضايا وخسارته للبعض الآخر لم يجد بُدّا من أن يغادر هذه المهنة التي لم يجد فيها ما تستقر عليه نفسه، وتهدأ على شطآنها مراكب روحه..

ثم بدأ هذا الذي يرفض القيود ويرغب دائما في الاستقلال أن ينضم للجيش ليصبح ضابطا، ولهذا دخل المدرسة الحربية ومع استقرار أحواله المادية بدأ في الأنس بموهبته الأدبية كشاعر، فاتخذ من فارس السيف والقلم "محمود سامي البارودي" أسوة وقدوة.

تخرج وهو في سن العشرين في المدرسة الحربية برتبة ملازم ثان، ومكث في عمله كضابط بالجيش ثلاث سنوات، ثم انتقل بعدها للداخلية، ثم عاد بعد عام ونصف للحربية ليعمل بإدارة التعيينات، ومنها سافر في حملة إلى السودان بقيادة اللورد "كتشنر" فضاق بالأمر، وأحس بالضجر، وشعر بالإعياء النفسي والبدني، وليس أدل على حالته تلك من أبيات أرسلها إلى أحد أصدقائه يشكو ويتحسر فيقول:

سعيت وكم سعى قبلي أديب فآب بخيبة بعد اغتراب
وما أعذرت حتى كان نعلي دما، ووسادتي وجه التراب

ولنا أن نتخيل كم المعاناة والأسى والحسرة الذين كان يشعر بهم هذا الرجل في غربته التي زاد من ضيقه فيها وكربه بها وقوع خلاف وجفاء بينه وبين قائد الحملة اللورد "كتشنر"، ثم بينه وبين رئيسه المباشر الذي كان يكيد له، فما كان من "حافظ" إلا أن هجاه بالشعر لينفس عن غضبه..

مأساة... داخل المأساة

نعم لقد كانت غربته وخلافاته مع قادته فيها تمثل مأساة بالنسبة له، أما ما زاد هذه المأساة بأخرى، فهو قيام ثورة في السودان عام 1899، والتي اتهم على إثرها شاعرنا وسبعة عشر ضابطا من رفقائه بمؤازرتها؛ الأمر الذي أدّى بهم إلى المحاكمة والإحالة إلى الإستيداع عام 1900 بمرتب قدره أربعة جنيهات في الشهر، وبعد نحو أربع سنوات أخرى طلب إحالته للمعاش ليترك الجيش بعد قضاء اثنتي عشرة سنة في الخدمة لم تكن كافية بين كل هذه العواصف لترقيته لرتبة "ملازم"، ولتبدأ مأساة جديدة حيث رحلة البحث عن عمل ولكن دون جدوى...

بصيص أمل... باهت

اتصل بالإمام "محمد عبده" الذي عطف عليه وأحبه، ومن خلاله استطاع "حافظ" أن يتردد على مجالس الأدباء والعظماء وأخذ يسمعهم شعره ويتردد اسمه ومن خلال هذه الجلسات، قام ناظر المعارف –أحمد حشمت باشا- بتعيينه في القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، وهي الوظيفة التي ظل متمسكا بها لمدة عشرين عاما، إلى أن أحيل على المعاش في فبراير من عام 1932، وفي أثناء ذلك استطاع "حشمت" باشا أن يتوجّه بمكرُمة أخرى، حيث إنه طلب من القصر الإنعام على "حافظ إبراهيم" برتبة البكوية، ليكون لقبه "حافظ بك إبراهيم" عام 1912. ولكن هل ما حدث كان كفيلا بأن يسعد قلب هذا الرجل..؟ لا أظن ولا أعتقد أن أحدَهم قد ادّعى عليه هذا!

اليتيم الحائر.. وراحة الموت

يبدو أن الحيرة كانت قد كتبت على حافظ منذ أن توفي والده ليكون اليتم أول خطوة على أعتاب الحيرة، وكما أسلفنا وتكلمنا عن علاقته الأسرية بخاله ثم تخبطاته في مجالات العمل، فإن الحيرة عنده لم تقف تلك الحدود الماضية، فربما كان يستطيع أن يكون أسرة يعوض من خلالها ما فقده وليستقر به الحال، ولكن هذا لم يحدث أيضا، فقد تزوج ولم يستمر زواجه لأكثر من أربعة أشهر، ليفترق هذا الرجل -الذي لم تهدأ له روح- عن زوجته بعدها دون إنجاب، ليقضي ما بقي له من العمر وحيدا حائرا وكأنه بقي في حالة انتظار، حتى وافته المنية في 21 يوليو من عام 1932.. وهنا يقف أمير الشعراء "أحمد شوقي" ليرثيه بقصيدة من أجمل قصائد الرثاء في العصر الحديث، ويقول في جزء منها:

كم ضقتَ ذرعا بالحياة وكيدها وهتفت بالشكوى من الضراء
فهلمّ فارِق يأس نفسك ساعة واطلع على الوادي شعاع رجاء
وأشر إلى الدنيا بوجه ضاحك خُلقت أسرّته من السراء..

رحم الله "حافظ إبراهيم" فرغم ما عاناه من بؤس وفقر وقلة حيلة، كان إذا أتاه المال جوادا كريما لا يبخل به على أحد مهما كان، ورغم ضيق العيش كان واسع الصدر إلا في النقد العلني الجارح، ورغم ما كان بين جوانحه من حزن وألم وحسرة، كان بين الأصدقاء والسُّمار بشوشا ضاحكا ذا قدرة فائقة على الفكاهة الحلوة والنوادر الطريفة.. وأخيرا ربما لم أتكلم كثيرا عن جوانب أخرى من شخصية وحياة شاعرنا المليئة بالمتناقضات والحيرة، لأن ما قصدت إليه عند التعريف بهذا الشاعر هو أن أتلمس بعض الجوانب الإنسانية في شخصيته، والتركيز على جزء من مأساته، فكم صنعت المأساة كثيرا من العظماء، وهو واحد منهم..
@@@@مختارات من شعر حافظ ابراهي @@@@

..

عمر بن الخطاب

حسب القوافي وحسبي حين ألقيها أني إلى ساحة الفاروق أهديها

لاهم هب لي بيانا أستعين به على قضاء حقوق نام قاضـيها

قد نازعتني نفسي أن أوفيها وليس في طوق مثلي أن يوفيها

فمر سري المعاني أن يواتيني فيها فإني ضعيف الحال واهيها
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

(إسلام عمر )

رأيت في الدين آراء موفقـة فأنـزل الله قرآنـا يزكيـها

وكنت أول من قرت بصحبته عين الحنيفة واجتازت أمانيها

قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بنعمة الله حصنا من أعاديها

خرجت تبغي أذاها في محمدها وللحنيـفة جبـار يواليـها

فلم تكد تسمع الايات بالغة حتى انكفأت تناوي من يناويـها

سمعت سورة طه من مرتلها فزلزلت نية قد كنت تنويـها

وقلت فيها مقالا لا يطاوله قول المحب الذي قد بات يطريها

ويوم أسلمت عز الحق وارتفعت عن كاهل الدين أثقالا يعانيها

وصاح فيها بلال صيحة خشعت لها القلوب ولبت أمر باريها

فأنت في زمن المختار منجدها وأنت في زمن الصديق منجيها

كم استراك رسـول الله مغتبطا بحكمـة لـك عند الرأي يلفيـها
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

(عمر وبيعة أبي بكر)

وموقف لك بعد المصطفى افترقت فيه الصحابة لما غاب هاديها

بايعت فيـه أبا بكر فبايعـه على الخلافة قاصـيها ودانـيها

وأطفئت فتنة لولاك لاستعرت بين القبائل وانسابت أفاعيـها
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

(عمر وخالد بن الوليد)

سل قاهر الفرس والرومان هل شفعت له الفتوح وهل أغنى تواليها

غزى فأبلى وخيل الله قد عقدت باليمن والنصر والبشرى نواصيها

يرمي الأعادي بآراء مسـددة وبالفـوارس قد سالت مذاكيـها

ما واقع الروم إلا فر قارحها ولا رمى الفرس إلا طاش راميها

ولم يجز بلدة إلا سمعت بـها الله أكبـر تـدْوي في نواحـيها

عشرون موقعة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح تحصيها

وخالد في سبيل الله موقـدها وخالـد في سبيل الله صـاليها

أتاه أمر أبي حفـص فقبّله كمــا يقـبل آي الله تاليهــا

واستقبل العزل في إبان سطوته ومجده مستريح النفس هاديها
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

مصر تتحدث عن نفسها

وَقَـفَ الَخلْـقُ يَنْـظُـرونَ جَمِيـــــــعـاً
كــيـف أَبـنْـي قَـواعِـدَ الَمـجْـدِ وَحْــدِي
وبُـنـاةُ الأَهْــرامِ فــي سـالِـفِ الـدَّهْـر
كَفَـــوْنـيِ الـكَــلاَمَ عـنــد الـتَّـحَـدِّي
أَنـا تاجُ الـعَــلاءِ في مَـفْـرِقِ الـشَّـرْقِ
ودُرَّاتُـــه فَـــــــرائــدُ عِــقْــدِي
أنـا إنْ قَـــدَّر الإلـــهُ مَمـــاتـــي
لا تَـــرَى الشَّـــرْقَ يَرْفَعُ الـرأسَ بَعْـدِي
مـــا رَمـانِــي رامٍ وَراحَ سَلـيِـمـاً
مِـــنْ قَـــدِمٍ عـنـايَــةُ اللهِ جُــنْــدِي
كـم بَـغَـتْ دَوْلَةُ عَـلَـيَّ وجــــارَتْ
ثــمّ زالَــتْ وتـلْـكَ عُقْـبـىَ التَّـعَـدِّي
إنّ مَجْـدِي فـي الأُولَيـاتِ عَرِيــــقُ
مَـن لـه مِـثـــل أُولَيـاتِـي ومَـجْـدِي؟
أَىُّ شَعْب أَحَـقُّ مِـــنِّى بَعْـــــيشٍ
وارِف الظِّـــلِّ أخضـــرِ اللَّــوْنِ رَغْـدِ؟
اَمِــنَ الَـعـدْلِ أَنّـهْـم يَــرِدُون الـمـاءَ
صَـــفْــوًا وأنْ يُـكَـــــدَّرَ وِرْدِي؟
قد وَعَــدْتُ العُــلَى بـــــكلِّ أبِِّي
مِن رجالـــي فأَنْجِـــزُوا اليـومَ وَعْـدِي
إِنّنا عند فْجـــرِ لَيــْلٍ طَوِيٍـــل
قـد قَطَعــْنـاهُ بَيْـنَ ســـهْـدٍ ووَجْـدِ

 

MohamedYahya578

Acc. Mohamed Yahya Omer Egypt , Elmansoura ,Talkha

  • Currently 105/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
35 تصويتات / 1522 مشاهدة
نشرت فى 26 نوفمبر 2007 بواسطة MohamedYahya578

MOHAMED YHYA OMER

MohamedYahya578
وارحب بكل من يزرو هذه الصفحة واتمنى ان ينتفع بما فيه من معلومات »

أقسام الموقع

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

223,490