الفن كما أفهمه فنان، واحد للإماتة والثاني للإحياء، الأول للفتنة وإثارة الشهوة، والثاني لترقيق الحاشية وترطيب الجوانح أو شحذ الهمة، ذلك أن الله الذي هدى النجدين وألهم النفس فجورها وتقواها قد ركب في الجمال طبيعة مزدوجة، فيمكن بإدراك الجمال وصنعة أن يهتدي الإنسان ويعبد ويزداد هدى وعبادة، ويمكن أن يضل ويفتن ويسقط في مهاوي اللذات ودركات التحلل، وليس خافيًا أن الفن الذي نعنيه من الطراز الذي يحيي وليس الذي يميت ويهدم.
نحن نتحدث إذن عن فن يخشى الله ويتقيه ويتعبد له، بالتالي فكل ما يتعلق بالمجون والتحلل والتفلُّت ليس واردًا في السياق الذي نحن بصدده، من ثَمَّ فإننا نفهم الفن بحسبانه إبحارًا في ملكوت الله، واستجابة للتوجيه القرآني الداعي إلى التفكير في الأنفس والآفاق. وفي كلام آخر فإن الفن عند المسلم هو نوع من تدبر آيات الله في الكون، وهذا التدبر قد يكون بالتعبير وقد يكون بالتشكيل، وفي الحالتين فإن الفنان يغوص في أعماق الواقع فيتحرى فيه مواضع الجمال أو يستنطقه، وقد يتعامل مع الواقع المحسوس لكنه أيضًا قد يتجاوزه وينفذ إلى ما وراءه، محاولاً السباحة في الآفاق اللانهائية، وهو في تجواله ذاك يتقلب في بديع صنع الله، ويتعلق بأهداب عظمة خلقه، حيث تتجلى تلك العظمة في كل ما تقع عليه عيناه أو يمر على خاطره.
إن المتجول في رياض القرآن يرى بوضوح أنه يريد أن يغرس في عقل كل مؤمن وقلبه الشعور بالجمال المبثوث في جنبات الكون، من فوقه ومن تحته ومن حوله، في السماء والبر والبحر والنبات والحيوان والإنسان.
في جمال السماء يقرأ المسلم قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهَمْ كَيْفَ بَنَيْنَهَا وَزَيَّنَّهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)[ق:6]. (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)[الحجر:16].
وفي جمال الأرض ونباتها يقرأ: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[ق:7].(وَأَنزَل لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ)[النمل:60].
وفي جمال الحيوان يقرأ قوله تعالى عن الأنعام: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)[النحل:6]. وفي جمال الإنسان يقرأ: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[التغابن:3]. (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار:7،8].
وهكذا فإن المؤمن يلاحظ وهو يقرأ كتاب الله أنه يُدفَع لأنه يرى يد الله المبدعة في كل ما يشاهده في الكون، ويبصر جمال الله في جمال ما خلق وصور، يرى فيه (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[النمل: 88]. ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)[السجدة:7]. وبهذا يحب المؤمن الجمال في كل مظاهر الوجود من حوله، لأنه أثر جمال الله جل وعلا، وهو يحب الجمال كذلك لأن ربه يحبه، فهو جميل يحب الجمال.
تحريض لاكتشاف مناحي الجمال:
لقد حرص القرآن الكريم في مواضع عدة على التنبيه إلى عنصر الحسن والجمال الذي أودعه الله في كل ما خلق، إلى جانب عنصر النفع أو الفائدة فيها، وكأنه يريد أن يثير انتباه المؤمنين إلى أن تعاملهم مع ما حولهم لا ينبغي أن يظل محصورًا في نطاق العلاقة الوظيفية الآلية، وإنما عليهم أن يلتفتوا أيضًا إلى البعد الجمالي في تلك العلاقة، ذلك أن الله سبحانه وتعالى شرع للإنسان إلى جانب "المنفعة" الاستمتاع بالجمال، أو "الزينة" وهو الوصف الذي يجسد الجمال في الخطاب القرآني.
في معرض الامتنان بالإنعام يقول الله سبحانه وتعالى: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)[النحل:5] هذا إشارة إلى الشق المتعلق بالمنفعة والفائدة. ثم يقول: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)[النحل:6]. وفيه إشارة وتنبيه إلى الجانب الجمالي في العلاقة. في نفس السياق يقول سبحانه وتعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)[النحل:8]. ذلك أن الركوب يحقق المنفعة المادية وتتحقق العلاقة الوظيفية، أما الزينة فهي متعة جمالية تريح النفس وتبهج العين. وفي ذات السياق بنفس السورة، تحدث الله تعالى عن تسخير البحر فقال: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)[النحل:14]. إذ لم يقصر فائدة البحر على العنصر المادي المتمثل في استخراج ما يؤكل منه، بل ضم إليه الحلية التي تلبس للزينة، فتستمتع بها العين والنفس.
هذا التوجيه القرآني تكرر في أكثر من مجال، مجال النبات والزرع والنخيل والأعناب والزيتون والرمان، متشابها منه وغير متشابه، ففي سورة الأنعام يذكر البيان الإلهي الزرع وجنات النخيل والأعناب فيقول: (انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأنعام:99]. في هذا التوجيه يقول سبحانه وتعالى: لا تقفوا عند حد الأكل وإشباع البطون، ولكن تفكروا في الأمر وانظروا كيف جاءت الثمرة ثم أينعت، ولا تنسوا أن ذلك من بديع صنع الله، وآياته التي ينبغي أن يعيها المؤمنون.
والقرآن لا يدعو المؤمنين فقط إلى ملاحظة الجمال والزينة في بديع الخلق، ولكنه يدعوهم أيضًا لأن يتجملوا هم أنفسهم، بل وينكر عليهم عدم الاكتراث بأسباب الزينة، مثل ذلك في قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ)[الأعراف:31، 32]. فالآية تبدأ بالحث على التزين لحاجة الوجدان، ثم تنتقل إلى الأكل والشرب لحاجة الجثمان، ثم تستنكر بعد ذلك تحريم زينة الله التي أخرج لعباده، وتحريم الطيبات والرزق، وإذا لاحظت أن البيان الإلهي استخدم مصطلح "زينة الله" فستجد أن ذلك يرفع في مقام الزينة ويشرفها، ومن ثم يحبب فيها ويجعل تحصيلها قريبًا إلى الله سبحانه وتعالى، إذا ما خلصت النية بطبيعة الحال.
إنها زينة الله يا سادة:
في كل ذلك فإن القرآن يدعو الخلق كافة إلى تذوق ما في الكون من جمال وإبداع فضلاً عن دعوتهم إلى الاستمتاع بذلك وهذه الثقافة تنمي عند المسلم حاسة تذوق الجمال والسعي إليه، وتوفر للموهوبين من المسلمين أفقًا واسعًا للإبداع إبحارًا في الملكوت الواسع الحافل ببدائع الخالق في مختلف الآفاق.
إن الإسلام حين دعا إلى تذوق جماليات الحياة لم يكن يسعى فحسب إلى تحقيق التوازن في نفس المؤمن بين احتياجاته المادية وأشواقه الوجدانية والروحية، وإنما كان يتجاوب في الوقت ذاته مع فطرة الإنسان وطبيعته، وهي الطبيعة التي ما كان يمكن كبتها أو تجاهلها، وإلا فقد الإسلام أحد أهم مميزاته، من حيث كونه دين الواقعية والفطرة، الذي هذب نوازع الإنسان ولم يقمعها، أهم من هذا وذاك أن تلك الدعوة اعتبرت سبيلاً إلى تثبيت الإيمان وتأكيد الثقة في قدرة الله، خالق الأكوان ومبدعها، الأمر الذي جعل من الفن الإحيائي الذي ندافع عنه سبيلاً إلى تعزيز الإيمان بالله وبابًا من أبواب التقرب إليه سبحانه عبر الإعلاء من شأن نعمه التي أسبغها على الكون.