انحراف الابناء ثمن الامومه الغائبه
هناك صنف من الأمهات تخلين عن أبنائهنَّ وانصرفن عنهم وتركنهم لمؤثرات ضارة تحيط بهم ،فأضعنهم دون أن يشعرن ، وجنين بسبب ذلك ثمارًا مرة.
وفي القريب نشرت قصة صبي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره يتاجر في السلاح الذي يصنعه بنفسه " مسدسات " ، كان قد تم القبض عليه مرارًا ، ولكنه كان يهرب من مؤسسة الأحداث التي يسلم لها ، وكان يستخدم السلاح في تخويف المارة وسرقتهم بالإكراه .
وهذا مما يثير الفزع لدى الجميع ؛ لأن الضحايا أطفال كنا نتوقع منهم خيرًا كثيرًا ، ونعلق عليهم آمالاً كبيرة في أن يصبحوا دروعـًا واقية لأمن المجتمع ، فإذا بهم ينقلبون على رؤوسنا شرًا وإجرامـًا .
وحارت التساؤلات على الشفاه من الملوم ؟ ، وما السبيل الذي يمكن أن يساعد في مواجهة هذا الخطر ؟ وكيف نحفظ لأمتنا هذه الثروة قبل أن تهدر وتتبخر معها كل آمالنا في غدٍ مشرقٍ ، مستقبل آمن ومزدهر ؟!!
ومنذ زمن وأمثال هذه الأخبار تأتي من بعيد ، من شرق أو من غرب ، وكنا نخشى أن تنتقل إلينا العدوى ، ولكنها اليوم تخرج من بيننا ، فالخطر قد اقترب ، والنار في الثياب توشك أن تصيب الجسد ، ولازالت أمامنا فرصة للإنقاذ إذا هب القوم يدًا واحدة للنجدة بجهود صادقة وخطوات مدروسة ، فهل يعود الآباء لأداء دورهم الطبيعي والمهم في عملية التنشئة ؟ ، وهل يراعي التلفاز في مواده وبرامجه ذلك فيخلصنا من مشاهد العنف التي تشير إليها أصابع الاتهام لأنها ذات أثر خطير ومباشر في انحراف الأحداث ؟ ، وهل يرحم المجتمع كله أولئك الصغار فيساعدهم ويأخذ بأيديهم إلى شاطئ السلام ؟ ، وهل هؤلاء إلا إفراز ذلك المجتمع بما فيه من صراعات وأزمات وأطماع وتجاوزات ، حتى فهم كثيرون أنه بالقوة وحدها يحيا الإنسان ويتحقق له ما يريد ؟ وحتى لا يتشعب بنا الحديث سنكتفي بالخلل القائم في الأسرة .
الطفل يردد لغة أمه :
الأسرة هي بداية الطريق في حياة الطفل ، فهو يتصل بأمه وأبيه قبل غيرهما ، والأم هي التي تحمل وترضع وتحب وتسهر وتناغي وتهدهد ، ومع لبن الأم يتلقى الوليد الكثير من الدروس ، ويتعلم قواعد التنشئة الأولى ، حيث يرى بعض الباحثين أن تصرفات الأبناء ترجع في نسبة كبيرة منها تصل إلى " 85% " إلى تصرفات الآباء والأمهات معهم ، وبخاصة علاقة الأم بطفلها ، فإنها وحدها العامل المؤثر ذو القيمة الملحوظة في نشأة تصرفات معينة دون غيرها .
يقول " هبرت مونتاجنر " العالم الفرنسي المهتم بسلوكيات الأطفال : " لقد لاحظت أن الأطفال الذي يتمتعون بروح قيادية هم في معظم الأحوال أطفال من أسر متفاهمة تسودها روح الحب ، تقوم الأم دائمـًا بالتحدث مع طفلها بلطف وحنان ، ولا تقوم بأي عمل عدواني نحوه إن هو أخطأ ، بل تعرف كيف توجهه بحزم ، ولا تدلله إلى حد التسيب " ، ويوجه نصيحة للأم فيقول : " إن طفلك يردد اللغة التي تعلمها منك ، فأي لغة تلقنينه .. ؟ "
فمن الذي علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه القاعدة منذ أربعة عشر قرنـًا ، حتى يحض كل مسلم أراد أن يقيم أسرة على تخير الزوجة الصالحة ، فيقول صلى الله عليه وسلم : " فاظفر بذات الدين تربت يداك " (رواه الشيخان) .
إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والوحي الذي علم المسلمين أن الصلاح شرط ضروري في ركني الأسرة ( الأب ، والأم ) ، فالدين هو الذي يضاعف من مسؤولياتهما نحو أولادهما ، وبه تزداد الأسرة حبـًا وارتباطـًا بأبنائها ، والسهر على تنشئتهم تنشئة صالحة حتى ينتفعوا بهم ، ويصبحوا خيرًا وأمنـًا لمجتمعاتهم ، والآباء هنا يشعرون بأن أبناءهم أمانة عندهم إن ضيعوها تعرضوا للحساب الإلهي ، والمرأة الصالحة دون غيرها هي التي تعرف حق بيتها ، يقول الله تعالى : ( فالصالحات قانتاتٌ حافظاتٌ للغيب بما حفظ الله ) [النساء/34].
أما إذا تنازل الشاب عن هذه المزية ، وطلب ما عداها من صفات ، فلا يلومن إلا نفسه ، إن وجد هذه الزوجة تهتم بمطعمها وملبسها وزينتها أكثر من اهتمامها بأولادها ، وتحرص على عملها خارج المنزل وعلاقاتها ، أشد من حرصها عليهم وتنشغل بذلك كله عن الغاية التي من أجلها خلقت .
إننا رأينا المرأة في أحيان كثيرة تمسكت بحقها في العمل ، وخرجت تبحث عن نفسها وزاحمت فيه الرجال ، وبحثت عن أم بديلة لأولادها ، وأقنعت نفسها بأنهم في يد أمينة ، حتى لا يتكدر صفوها ولا يحول شيء دون خروجها ، وأجادت تحسين مظهرها وضيعت في ذلك كثيرًا من وقتها ومالها ، وتباهت بأنها عاملة ناجحة ، وأم ناجحة أيضـًا ، وانطلى ذلك الكلام عليها وعلى أمثالها ، وذلك لأنها اعتبرت عملها أسمى غاية وأعظم حق لها لا ينبغي التفريط فيه أوالرجوع عنه .
احتدم النقاش مرة بين أبوين ، طالب الرجل زوجته بأن تترك عملها حينـًا من الزمن لأجل الأبناء ، فهم في مرحلة حرجة ، وهم أشد حاجة إليها ، فأبت ، واشتد الزوج في موقفه ، وزادت في إبائها ، حتى خيرته بين أن تعمل أو تطلق ، فرضخ الأب المسكين حتى لا ينهار البناء كله ، ورضي الأبناء بنصف أم ، أو حتى ربع أم ، فذلك أفضل من لا شيء ، وسار الركب في طريق - الله وحده يعلم نهايته - ، وترعرع النبات كله بين غفلة الأبوين وانشغالهما ، قال الشاعر :
هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرمــــــات
تقوم إذا تعهدها المربـي على ساق الفضيلة مثمــرات
ولم أر للمكارم من محـل يهـذبها كحضن الأمهــــــــات
وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات؟!
وكان الانحراف هو الثمن :
أجريت في أمريكا دراسة عن انحراف الأحداث ، اشترك فيها علماء في التعليم وبعض أعضاء الكونجرس ومسؤولون حكوميون ،وقد أشارت هذه الدراسة إلى أن أحد أسباب انحراف المراهقين هو أن الوالدين يقضيان أوقاتـًا طويلة في العمل ، كما أشارت أيضاً إلى أن عدد الأسر ذات العائل الواحد أصبح كبيرًا مما يعني قضاء وقت أقل مع الأطفال ، وقد أجريت الدراسة على عدد من المراهقين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والرابعة عشرة ، وقال " 25% " منهم بأنهم تناولوا مشروبات كحولية ، كما أن أكثر من " 18% " منهم يدخنون السجائر ، و " 13% " يدخنون الحشيش ، وأثبتت الدراسة أن واحدًا من كل أربعة أشخاص اشترك في نوع ما من الأعمال المؤذية قبل بلوغه السابعة عشرة .
فالأسرة التي يعمل فيها الرجل والمرأة تحطمت لأنها فقدت رباطها العاطفي والوجداني الذي كان يمسك بالأطفال في ترابط ، ويبذر في قلوبهم الحب وينشئهم متوازنين .
ونحن نوقن بأن الله سائل كل راعٍ عما استرعى .. حفظ أم ضيع ؟ ، ونخشى الإثم العظيم المترتب على تضييع أبنائنا وفلذات أكبادنا ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " كفى بالمرء إثمـًا أن يضيع من يقوت " (رواه أحمد والحاكم) .
وأمامنا دائمـًا وفي قلوبنا وصية ربنا سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودهـا الناس والحجارة ) [التحريم/6] .
وهذه المسؤولية لا يقدرها إلا الآباء المسلمون ، فهم العيون التي تراقب ، والقلوب التي تحنو ، والعقول التي ترشد ، والمثل التي يقتدي بها الصغار .
والوالد في هذه الأسرة قيم على الأسرة كلها ، وهو الذي يصنع زوجته ، ثم يصنع أولاده ، وقدوة الوالد أعظم من قدوة المدرس وإمام المسجد ، وعلى المسلمين أن يكوّنوا أنفسهم ولا ينتظروا أن يكوّنهم أحد ، وعلى الرجال أن يكوّنوا أزواجهم وأولادهم .
وينشأ ناشئ الفتـيان منَّـــــا على ما كان عـوَّدهُ أبــوهُ
وما دان الفتى بحجي ولكن يعــوِّده التديـن أقربــــوهُ
فمهما كانت درجة التأثيرات الخارجية ،ومهما بلغ مداها فالأسرة الصالحة تعمل جاهدة لتقوية البناء حتى يصمد في مواجهة الأعاصير العاتية ، لا شغل لها ولا هم يفوق تلك المهمة السامية ، والطفل الذي نشأ في أسرة تحترم التقاليد الحسنة ، وتجل الدين ، وتظلل أبناءها بالحب والرحمة والتسامح والمودة ومحبة الخير والبر ، وتهيئ لهم المناخ الذي ينمي فيهم الاستقامة والمسؤولية ، وتحبب إليهم الأهل والأوطان ، وتربيهم على الشدة في حماية الحقوق والذود عنها ، لا يمكن لمثل هذا الطفل أن يستوي مع آخر خلّفه أبواه يعاني الغربة واليتم ، ويقع فريسة سهلة لتأثير عوامل غريبة غير التي تحبها أو تريدها الأسرة ،وشيئـًا فشيئـًا ينمو السلوك المنحرف ، فإذا كبر الصغار وكبرت معهم ميولهم الجانحة شقوا عصا الطاعة وأصبحوا مصدر خطر على المجتمع كله ، اسودت الدنيا في عيون الآباء ، وعضوا أناملهم حسرةً على ما كان بعد أن انهدم ما بنوه أو ما ظنوا أنهم بنوه . وإنهم في الحقيقة بنوا قشورًا وصنعوا ثيابـًا زاهية تسر الناظرين ، وتخفي تحتها قسوة وغلظة على هذه الأسرة التي لم ترحمهم صغارًا ، وحرمتهم أدنى ما لهم من حقوق ، العطف ، والرحمة ، والسهر ، والتوجيه ، وحراسة النبت من العواصف التي يمكن أن تجتثه من الجذور .. لأنه عاش بلا جذور .
هل يرحم الآباء أبناءهم ؟
إن التحديات التي تواجهنا خطيرة ، ولن يتصدى لها إلا جيل قوي الجذور ، وثيق الارتباط بعقيدته ، يقدِّر مهمته في الحياة ، ويدرك غايته ، وهذا لن يتأتى من جيل مفرَّغ من المبادئ ، جاهل بعقيدته ، تربى في غيبة الأسرة التي تخلت عنه وتركته للرياح تعبث به فانحرف به القصد ، وهوى في دائرة الضياع ، وتلفت الأبناء حولهم فرأوا أنفسهم كاليتامى ، بل أشد ، فاليتيم قد اشتهر أمره وأحاطه المجتمع برفق ورعاية ، أما هم فالناس عنهم في غفلة وأشدهم غفلة آباؤهم ، وهنا جرى على لساني قول الشاعر الحكيم :
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحـياة وخلّـفـاه ذليــلاً
إن اليتـيم هو الذي تلْقــــى لـه أُمّـًا تخلّـت أو أبـًا مشغـولاً
وذكرت قول الله تعالى لعباده محذرًا من الإعراض عن أمره : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) [الأنفال/ 20 ـ 21] .
حمى الله أبناءنا وهداهم إلى الخير والصواب .
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
صور من حب الاباء وكيف يربو اطفالهم
قال محدثي : أعن حب الآباء لأبنائهم تتحدثون ؟ لقد رأيت من أبي مشهداً قام مقام المجلدات التي تسطر في هذا الموضوع، لقد عرفت والدي هادئاً متزناً وقوراً، خاصة بعد أن علاه الشيب وانحنى ظهره ، وقد فوجئت أيمـا مفاجأة إذ رأيته ينفجر باكياً وقد كاد القطار أن ينطلق بي وبأسرتي مسافرين إلى مقر عملي ، ولكن ما رأيته بعدُ كان أعجب ، بدأ القطار مسيرته فإذا بالأب الباكي يساير القطار في مواجهتنا ينظر إلينا من خلال دموعه الهاطلة ، وينطلق القطار يعدو وإذا بوالدي يجري جرياً يلوح لنا بيديه ، ويدعو بلسانه ، وقد نسي أنه ابن الستين ونسي وقاره واتزانه ولم يلتفت إلى العيـون التي ترمقه من هنا وهناك ، ولم يلتفت إلينا ونحـن نشير إليه بأن يكف ويرجع ، وإذا بي وقد شدهني المنظر أغلق النافذة رحمة به ليكف ، ولأنني لم أستطع أن أرى أكثر مما رأيت . وذكرني محدثي بذلك الرجل المتأنق في لباسه المعتني بمظهره ، حتى إذا ما سجن ولده ذهل عن نفسه ، وأهمل العناية بهندامه ، وحل مكان البشـاشة التي كانت تلازمه كآبة تعلوه ، ونظراته أصبحت هائمة زائغة . وقد يصل حب الآباء للأبناء أن يُصـاب الآباء بمرض جسماني إذا ما حدث للولد شيء أو غاب عن أبيـه ، أوَلم يفقد نبي الله يعقوب بصره لشدة حـزنه على ابنه يوسف ؟! ( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وأبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) يوسف:84 . وقد خشي عليه أبناؤه الهلاك لكثرة ذكره ليوسف : ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين ) يوسف:85 . روى الترمذي في سننه عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : فمـاذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً، وسمُّوه بيت الحمد ] هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ ولو فعل الولد ما فعل ما جزى والده [ إلا أن يجـد الولد والده مملوكًا فيشتريه فيعتقه ] كما صح بذلك الحديث من رواية مسلم ، ذلك أن الحرية والخلاص من العبودية حيـاة جديدة تقابل تلك الحياة التي كان الوالد هو المتسبب بها . كيف نبر آباءنا بعد وفاتهم ؟ التحذير من عقوق الوالدين : وفي الحديث الذي يرويه البخـاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : [ إن الله حَرّمَ عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات ( أي منع ما وجب عليه ، وطلب ما ليس له ) ووأد البنات ] . عاقبة البر : وقد يكون البر سبباً للنجاة من البلايا ، وقد يعطي الله به الرزق والخير ، أمـَّا في الآخرة فالبر مركب يوصل إلى الجنة إذا تحقق الإيمان ، فهذا صحابي اسمه "جاهمة" يستأذن الرسول في الجهاد فيقول له الرسـول: [ هل لك من أم ؟ ] قال: نعم . قال: فالزمها فإن الجنة عند رجله ا] رواه أحمد والنسائي والبيهقي وإسناده جيد . وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم : [ رغم أنفه ، رغم أنفه ، رغم أنفه قيل : من يا رسول الله ؟ قال: [ من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخلانه الجنة ] . رواه مسلم . وفي الحديث القدسي يقول الله تعـالى للرحم عندمـا استعاذت به من القطيعة : [ ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟] رواه البخاري ومسلم. ويأمر الرسول صلى الله عليه وسلم صحابيـاً بأن يطيع أمه بقوله : [ الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه ] رواه الترمذي وابن ماجه. وصية الإسلام بالوالدين : وهذا العبد الصالح لقمان يوصي ابنه فيحذره من الشرك ، لأنه ظلم عظيم: ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بُني لا تُشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم ). لقمان:13. ويأمرنا الله تعالى بشكره ويثني بالأمر بشكر الوالدين ( أن اشكر لي ولوالديك ) وأحق الناس بإحسانك أمك وأبوك ( يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ) البقرة:21 . ولمكانة الوالدين وعظم حقهما قَدّم الرسول برهما على الجهاد ، فعن ابن مسعود قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال:[ الصلاة على وقته ا] قلت: ثم أي ؟ قال : [ بـر الوالدين ] قلت : ثم أي ؟ قال : [ الجهاد في سبيل الله ] . رواه البخاري . وهذا صحابي يقدم ليبايع الرسول على الجهاد والهجرة فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : [ فهل من والديك أحـد حي؟] قال: نعم كلاهما . قال :[ فتبـتغي الأجر من الله تعالى؟] قال : نعم . قال : [ فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما ] رواه البخاري ومسلم. الأب المشرك :
ويشم الأب المحزون ريح يوسف عندما قدم أحدهم بقميصه ولمـَّا يصل إليه، حتى إذا ما ألقاه على وجهه ارتدّ بصـيراً ، ألا ترى كيف أعاد الله إليه بصـره بفرحته بالبشرى ؟.
فما دامت هذه مكانة الأبناء في نفوس الآباء ، ولهما الفضل السابق ، إذ هما سبب وجود الإنسان ، ولهما عليه غاية الإحسان ، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق ، فحقٌ على الأبناء أن يعترفوا بالإحسـان ، وأن يشكروا النعمة ( أن اشـكر لي ولوالديك إليّ المصير ) لقمان:14 . خاصة عندما يبلغـان من العمر عتيـًّـا فيجب التواضع لهما ، ومخاطبتهما بالقول اللين، وتكريمهما والدعاء لهما ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا ) الإسراء:23 .
ومن بر الوالدين ألا يتسبب الابن في إيصـال الأذى إليهما . يقول صلى الله عليه وسلم : [ من الكبائر شتم الرجل والديه ] . قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟! قال : [ نعم ، يَسُبُّ أبا الرجل فَيَسُبُ أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ] . رواه البخاري ومسلم .
ويستطيع الولد أن يبر والـديه بعد وفاتهما بالدعـاء والاستغفار لهما ، والتصدق عنهما ، وصلة أصدقائهما ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : [ إن من أبر البر صلة الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولي ] روى الحديث مسلم في صحيحه . ويحدثنا الإمـام مسلم في صحيحه أن راوي الحديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - سافـر من المدينة إلى مكة ، فمر به أعرابي فناداه فقال له : ألست فلان بن فـلان ؟ قال : بلى ، فأعطاه حماراً وقال له : اركب هذا، وأعطاه عمامة وقال : اشدد بها رأسك ، وقد كان عبد الله يتروح على الحمـار إذا تعب من ركوب الراحلة ، ويشد رأسه بالعمامة، ولما سأله أصحابه عن سر هذا العطاء مع حاجته لما أعطى حدّث بالحديث الآنف الذكر ، ثم قال : وإن أباه كان صديقاً لعمر رضي الله عنه .
وقد حذرنا الله وخوفنا من عقوق الوالدين فقال تعالى: ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصـل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) ، وممن أمر الله أن يوصلوا : الوالدان ، فقطيعتهم تدخل في اللعنة ، ويكون القاطع ممن استحق سوء الدار ، وفي الحديث الذي يرويه البخاري يقول عليه الصلاة والسلام : [ لا يدخل الجنة قاطع ] .
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين أحد ثلاثة ذنوب هي أعظم عظائم الذنوب ، يقول عليه السلام: [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ] قالها ثلاث مرات قلنا : بلى يا رسول الله . قال : [ الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ] وكان متكئاً فجلس فقال : [ ألا وقول الزور ، وشهادة الزور ] . رواه البخاري ومسلم.
في حديث في صحيحي البخاري ومسلم يخـبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة رجال ممن كانوا قبلنا كانوا يتماشون ، فأخذهم المطر فمالوا إلى غار فانحطت على فم غارهم صخـرة من الجبل ، فتوسل كل واحد منهم إلى الله بأرجـى عملٍ صالح عمله ليخلصهم مما هم فيه . فقال أحدهم: "اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ، ولي صِبية صغـار كنت أرعى عليهم ، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالديّ أسقيهما قبل ولدي ، وإنه قد نأى بي الشجر يوماً فما أتيت حتى أمسيت ، فوجدتهما قد ناما فحلبت كما أحلب ، فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أو أوقظهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما ، والصبية يتضاغون (يبكون) عند قدمي، فلم يزل دأبي ودأبهم حتى طلع الفجـر، فإن كنت تعـلم أني فعلت ذلك ابتغـاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء". فاستجاب الله دعاء هذا الرجل الصالح في وقتٍ من أحرج الأوقات فجعل له مخرجاً ببره بوالديه .
جاء الإسلام ليهدي البشرية إلى الصراط المستقيم الذي يوصل العبـاد إلى رضوان الله ، ويعيدهم إلى جنته ، ويوفر لهم الحياة الطيبة، ولذلك عَرفّهم بالحقوق، وأمرهم بأدائها ، وأعظم الحقوق حقه سبحانه وتعالى لأنه المنشئ الموجد الذي خلق فسوى، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة ، والأيدي التي نأكل بها ، والأرجل التي نمشي عليها ، وجعل لنا الأرض التي تقلنا بسهولها وجبالها ونباتها وحيوانها ، وسخرها لنا، وسخر لنا السماء التي تظلنا، وأمدنا بشمسها وقمرها وجعل لنا في كل ذلك منافع شتى ، ويأتي بعد حقه سبحانه ، حق الوالدين ولذلك كثيراً ما يأمر سبحانه بعبادته وحده لا شريك له ، وطاعته فيما أمر وذلك حقه وحده ، ثم يثني بالأمر بالإحسان للوالدين يقول تعالى: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً . وبالوالدين إحساناً ) .
ويقول: ( قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربـكم عليـكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) . النساء:36.
وقال: ( إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنـة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون ووصيـنا الإنسـان بوالديه إحساناً ) . الأحقاف:13.
وفي مقابل وصية العبد الصلاح تأتي الوصية بالوالد غير مصدرة بيا بني: ( ووصينا الإنسان بوالديه ) العنكبوت:8 .
ولما كانت التكاليف التي تتحملها الأم أكثر ، خصّها الله بمزيد من العناية في الوصية ببيان مدى ما تقاسيه ( ووصينا الإنسـان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين ) لقمان:14.
وفي الآية الأخرى يقول : ( حملته أمهُ كُـرهاً ووضعته كُرهاً وحمله وفصله ثلاثون شهراً ) . الأحقاف:15. ولذلك عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم فقيل له : " من أحق الناس بحسـن صحابتي ؟ قال : أمك ، ثلاثاً ، وفي الرابعـة قال له :أبوك . رواه البخاري ومسلم .
أما صلة الابن المسلم بأبيه المشرك فقد حَدّها قوله تعالى: ( وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما إليّ مرجعكم ) . العنكبوت:8 .
وقال تعالى في سورة لقمان : ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا ) . لقمان:15 . والمعنى وإن حرصـا على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين فإياك وإياهما فلا تطعهما في ذلك . وأمـره بالإحسان اليهما وذلك بإمدادهما بالمال وخدمتهما وقضاء حوائجهما وهذه الآيات نزلت في سعد بن مالك رضي الله عنه، وكان بأمه باراً ، فلما أسلم أقسمت أمه ألا تطعم طعاماً ، ولا تشرب شـراباً حتى تموت أو يرجع عن دينه ، وقد بقيت أياماً كذلك ، فلما يئست من رجوعه أكلت وشربت. والقصة في صحيح مسلم ومسند أحمد . وهذه أسماء بنت أبي بكر الصديق قدمت عليها أمها وهي مشركة في عهـد قريش فقالت: يا رسول الله! إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نعم صليها" وفي القرآن ما يشير إلى ذلك ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتـلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله يحب المقسطين ) الممتحنة:8.