(الام فى الاسلام )
معنى الأمومة :
الأمومة مشتقة من الأُمّ ، وأُمّ كل شيء: معظمه ، ويقال لكل شيء اجتمع إليه شيء آخر فضمّه : هو أُم له (فأُمُّه هاوية) القارعة: 9.
والأمومة: عاطفة رُكزت في الأُنثى السوية، تدفعها إلى مزيد من الرحمة والشَفقة.
1. الأم في القرآن الكريم:
أم كل شيء: أصله وما يجتمع إليه غيره ، وبهذا المعنى ورد تعبير "أم الكتاب": (آل عمران 7. الرعد:13، الزخرف 4) في القرآن الكريم ، ونحوه : "أم القرى" ( الأنعام: 92، الشورى7) ، وأم القرى: مكة قال سبحانه: ( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً ) . القصص:59.
ولقد أوصى القرآن الكريم بالأم، وكرر تلك الوصية لفضل الأم ومكانتها فقال سبحانه : (ووصّينا الإنسان بوالديه حَملته أمه وَهْناً على وهن، وفِصاله في عامين أنْ اشكر لي ولوالديك إليّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما وصاحِبْهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) . لقمان:14-15 .
فرباط الوالديّة (الأبوة والأمومة) وثيق جداً لا يعكر عليه شيء حتى لو كان الوالدان مشركين ، والعطف عليهما واجب مع عدم الإصغاء إليهما إن أمراه بما يخالف شريعة الله .
وكررّ هذه الوصية فقال: ( ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كُرهاً ووضعته كُرها وحملُه وفصاله ثلاثون شهراً ).(الأحقاف:15).
وفضل الأم على الأب له موجباته وهو الحمل والرضاع والرعاية.
والإسلام قدّس رابطة الأمومة، فجعلها ثابتة لا تتعرض للتبدلات والتغيرات، فحرم الزواج من الأمهات قال سبحانه: ( حُرمت عليكم أمهاتكم ) النساء:23. كما بيّن أن رباط الزوجية لا يمكن أن يتحول إلى رباط أمومة أبداً ، وشتان بينهما قال سبحانه: (وما جعل أزواجكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتكم ) . الأحزاب: 4 . (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هُنَّ أمهاتهم. إنْ أمهاتهم إلا اللائي ولَدْنهم ).(المجادلة:2)
إلا أن هذه الرابطة تتأثر بهول يوم القيامة فقط، فيستقل الولد عن أمه، والأم عن ولدها قال سبحانه: (يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) . عبس:34-36.
هذا وإن رباط الأمومة يبيح للولد أن يأكل من بيت أمه: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم ) . النور:61 .
بسبب ما تقدم من حقوق وواجبات جعل الله سبحانه الأم مسؤولة عن تربية ولدها، فهي راعية ومسؤولة عن رعيتها، وأشار سبحانه إل هذه المسؤولية الأخلاقية في قوله: ( ما كان أبوك امرأ سَوء وما كانت أمك بغياً ) . مريم: 28. وذلك على لسان قوم مريم عليها السلام، فالملحوظ أن قوم مريم أدركوا هذه المسؤولية، فوجهوا إليها هذا الخطاب في تقرير المسؤولية الأخلاقية للوالدين، رغم ما في خطابهم من غمزٍ وتعريض لا تخفى دلالاته.
وبسبب ذلك أيضاً أوجب الله سبحانه وتعالى للأم ميراث ولدها إن مات في حياتها كما أوجب له ميراثها إن ماتت في حياته. قال سبحانه وتعالى: (فإن لم يكن له ولد ووَرِثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس) . النساء:11 .
ولما كانت الأم مصدر الحنان ومنبع الإحسان بالنسبة للولد ذكّر هارون أخاه موسى عليهما السلام بأمه حين غضب وأخذ برأسه، قال سبحانه: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبانَ أَسِفاً قال: بئسما خَلَفتموني من بعدي أَعَجِلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابنَ أمَّ إن القوم استضعفوني..) الأعراف: 150 . وفي موضع آخر قال: ( يا بنَ أُم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ) . طه:94 . وذِكْر الأم هنا دون سواها للاستعطاف والاسترحام ولما ترمز إليه من الحنان والرحمة والشفقة.
وجعل الله سبحانه زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين من حيث واجبُ البر وحرمةُ الزواج والحقوق الواجبة لهن من الاحترام والتقدير، قال سبحانه: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) . الأحزاب:6 .
ومن الأمثلة الفذة التي ضربها الله سبحانه في القرآن للأمهات المثاليات أسوة للمؤمنات مريم وأم موسى عليهما السلام.
أما مريم عليها السلام فجعل لها ربنا تبارك وتعالى سورة كاملة باسمها حكى القرآن فيها قصتها منذ أن حملت بها أمها ونذرتها لله سبحانه إلى أن حملت بعيسى عليه السلام ثم قصتها مع قومها قال سبحانه: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى رَبْوة ذات قرار ومعين) . المؤمنون: 50. ( وأمه صدِّيقة ). المائدة:75.
وأما أم موسى فاحتفل بها القرآن، وحكى قصتها مع ولدها زمن فرعون وكيف أن الله تعالى أوحى إليها فقال: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين … وأصبح فؤاد أُم موسى فارغاً إنْ كادت لتُبدي به لولا أن رَبطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) . القصص: 7-10 .
فلما كان حالها كذلك رعى الله سبحانه تلك العاطفة - عاطفة الأمومة - حق رعاية وامتنّ بذلك على موسى لعظيم تلك المنة وأهميتها، فقال سبحانه: (فرددناه إلى أمه كيف تقرّ عينها ولا تحزن ) . القصص: 23 .
2. الأم في السنة النبوية:
إن الأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً نورد منها ما يفي بالغرض:
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: [أمك] . قيل : ثم من ؟ قال: [أمك] . قيل ثم من؟ قال [أمك] . قيل ثم من؟ قال: [أبوك] . رواه البخاري .
الأمر الذي يؤكد حرص الإسلام على مضاعفة العناية بالأم والإحسان إليها : أكثر من العناية بالأب مع أن كليهما (الأم والأب) أُمر المسلم بالإحسان إليه. (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً).
وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، فقال: [الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، وشهادة الزور] . رواه البخاري .
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن سَبّ الوالدين وبيّن أنه من الكبائر فقال: [إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه] . قيل يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: [يسُب الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه ويسبّ أمه] . رواه البخاري .
ومن تمام الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى أهل وُدّهما قال صلى الله عليه وسلم: [إن أبرّ البرّ صلةُ الولد أهل ودّ أبيه] . رواه مسلم.
ومن تمام الإحسان أيضاً قضاءُ ما كان عليهما من دَين لله أو للناس فقد سأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه، وتُوفيت قبل أن تقضيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فاقضِه عنها] . رواه مسلم.
وجاءت امرأة تسأله عن أمها التي ماتت وعليها صوم شهر؟ فقال: أرأيتِ لو كان على أمك دَين أكُنتِ قاضيَتَه؟ قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فدين الله أحق بالقضاء] .
وكذلك امرأة سألت عن أمها وماتت ولم تحجّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ حُجيّ عنها ] . رواه مسلم.
ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في البر فاستأذن ربّه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، واستأذن في زيارتها فأذن له. رواه مسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم شديد البر بمرضعاته ومربياته من ذلك أنه جاءت حليمة أمه بالرضاعة فقام إليها وبسط لها رداءه فجلست عليه. (الإصابة لابن حجر 4/274) .
وحين سيق إليه السّبيُ من هوازن كانت الشيماء بنت حليمة فيهم فلما انتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إني لأُختك من الرّضاعة وعرّفته بعلامة عرفها صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه، ودمعت عيناه وقال لها: [ ههنا ] ، فأجلسها على ردائه وخيّرها بين أن تقيم معه مُكرمة محبّبة أو أن ترجع إلى قومها، فأسلمت ورجعت إلى قومها، وأعطاها رسول الله نَعَماً وشاه وثلاثة أعبد وجارية.
3. الأم عند السلف
كان السلف رضوان الله عليهم يحتذون منهج النبوة فكان أبو بكر رضي الله عنه لما أسلم حمل إلى أمه الهداية ودعاها إلى الإسلام ولما تعذر عليه إسلامها طلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها فأسلمت، وكذلك فعل أبو هريرة رضي الله عنه.
وعندما سمع عمر بن الخطاب صوت صائحة تَقَصّى خبرها فعرف أنها جارية من قريش تُباع أمها، فقال لحاجبه: ادع لي (أو قال : عليّ) بالمهاجرين والأنصار فلم يمكث إلا ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة قال: فَحمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد : فهل تعلمون أنه كان مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟ قالوا: لا قال : فإنها أصبحت فاشية ثم قرأ (فهل عسَيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم ) . محمد:22.
ثم قال: وأيّ قطيعة أعظم من أن تباع أم امرئ فيكم وقد أوسع الله لكم؟ قالوا: فاصنع ما بدا لك. قال: فكتب في الآفاق: ألا تُباع أمّ حُرّ فإنها قطيعة رحم، وإنه لا يحلُّ. رواه الحاكم
-------------------------------------------------------------------------------------------------------
(اهمية الامومه)
يرى الطفل - في مراحله الأولى على الأقل - في والديه القدوة والأسوة، فينطلق إلى محاكاتهما، وتقليدهما في الألفاظ والحركات والسلوك، بل إن اللغة التي يتعلمها الطفل إنما يتلقاها عن والديه، ثم عمن يحيطون به، فمن هنا كانت مسؤولية الوالدين - والأم خصوصاً - عظيمة في تنشئة الطفل تنشئة صحيحة تتفق مع المنهج الإسلامي الحكيم.
1. الأهمية الدينية:
وهناك أولويات ينبغي غرسُها في الطفل، وأول تلك الأولويات العقيدة الإسلامية متمثلةً في أركان الإيمان ثم أركان الإسلام، فـ[ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ] . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري ومسلم) .
ومما يدل على أهمية تربية الوالدين وأثرها في عقيدة الطفل قوله صلى الله عليه وسلم: [ كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو يُنصّرانه أو يمجّسانه] . (رواه البخاري).
وهو الأمر الذي جسده القرآن في وصف والدين صالحين يدعوان ولدهما إلى الإيمان ، لكن بعد فوات الأوان حينما شب وكبر، يقول الله سبحانه وتعالى: (والذي قال لوالديه أُفٍّ لكما أَتَعِدَانِنِي أن أُخرج وقد خَلَت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلَكَ آمِنْ إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين). الأحقاف:17.
وثاني الأولويات بعد العقيدة: التشريع، وهو ما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم وجعل مسؤولية ذلك تقع على عاتق الوالدين يقول صلى الله عليه وسلم: [مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء السبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع] . (رواه أبو داود) .
ثم يأتي بعد التشريع: الأخلاق ويكون بتعويد الأولاد على محاسن الأخلاق كالصدق والأمانة… وتحذيرهم من مساوئ الأخلاق كالسرقة والكذب والخيانة والسباب والشتائم …، وعلى الأم أن تحرص ألا تأمر بما تذهب هي إلى ما يخالفه، فإن ذلك سينعكس على سلوك الولد.
2. الأهمية الاجتماعية:
من المعلوم أن البيئة الاجتماعية لها أثر كبير في شخصية الإنسان، وهو الأمر الذي لم يكن يجهله قوم مريم عليها السلام حين قالوا: ( يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمُّك بَغِيّا ). م ريم:28.
وهناك تداخل بين النواحي الأخلاقية والاجتماعية والنفسية فالإيثار: هو خُلق له طابع اجتماعي ونفسي لا ينفك عنه وكذلك العفو.
لكن ما نريد أن نركز عليه في الناحية الاجتماعية هو الانبساط في سلوك الطفل الذي تؤدي فيه الأم الدور الأكبر، فعليها أن تنشىء ولدها على الاختلاط بالناس، وتجنبه العزلة والانطواء ليكون له دور فاعل في المستقبل، من هنا سنّ الإسلام تشريعات تكفل تحقيق الألفة بين الأفراد، وهي الآداب الاجتماعية كآداب السلام والاستئذان والحديث والتهنئة والتعزية والعطاس وعيادة المريض.
فالأم هي أول من يكوّن عند الطفل منطلق العلاقات الإنسانية، فلا بد للطفل أن يتجاوز أمه إلى العالم الخارجي، ولا شك أن العلاقة بين الأم والأب ستنعكس على سلوك الطفل ونفسيته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
3. الأهمية النفسية:
من سنن الله في الأنفس أنه أودع المحبة والسَّكَن في الأم للولد، وفي الولد للأم، هذه هي السنة القويمة السوية، ومن ثم أوجب الله على الأم إرضاع ولدها فقال تعالى: (والوالدات يُرْضِعن أولادهن حولين كاملين). والرضاع يولّد العلاقة الحميمية بين الأم والطفل فيكون لصيقاً بها، الأمر الذي أكده البحث العلمي (فأوجب وضع الوليد على تماسّ حسي مع الأم بعد الولادة مباشرة وذلك لأهمية هذه اللحظات في مستقبل العلاقات اللاحقة بين الطفل والأم، وبين الطفل ومجتمعه ) (الأمومة. د. فايز قنطار، عالم المعرفة، ص72).
وذلك ليشعر بدفء الأم وحنانها منذ اللحظات الأولى من عمره فإن لذلك أثراً كبيراً في تكوين الطفل الاجتماعي ، ومن ثمّ فإن الأم اليَقِظة لسلوك ولدها وحاجاته والقريبة منه تعزّز لديه الثقة بالكبار فيعممها على الآخرين ولا يشعر بالرهبة والفزع عند رؤيتهم ، بينما تكون الأم القليلة الحساسية على العكس من ذلك مما يخلق لديه عدم الثقة والتعلق بالقلق. (انظر فايز قنطار، الأمومة، ص50).
إن الطفل إذا شعر بالأمن في علاقته بأمه يكون أقدر على التفاعل الاجتماعي مع أقرانه والغرباء عنه ، ومن ثمّ كان الجوّ الذي يُحاط به الطفل له الأثر الكبير في حياته.
لذلك كله كانت المحاضن والمراضع نقمة على الطفل، لأنها لا توفر له تلك الضروريات التي تكلمنا عليها.
يقول " إيريك فروم ": ( وفائدة حبّ الأم للطفل أنه ضمان مؤكد لاستمرارية حياته وتلبية حاجاته.
أما أنه ضمان لاستمرار حياته فإن لذلك مظهرين:
المظهر الأول: أن رعاية الطفل والمسؤولية عنه ضرورة مطلقة لحفظ حياة الطفل ونموه.
المظهر الثاني: يذهب إلى أعمق من مجرد الرعاية فهو يغرس في أعماق الطفل ومشاعره أن هناك ما يستحق أن يعيش من أجله، وأن الحياة شيء مفيد وجميل…) (مها عبدالله الأبرش، الأمومة ومكانتها في الإسلام ص:103-104) .
فالأم هي النافذة التي يُطل منها الطفل على العالم، لذلك عليها أن تنشئه على حب الخير للآخرين والجرأة، حتى يشعر بكيانه وقدرته على التفاعل مع المجتمع، فإنه إذا تربى على الخجل والخوف والشعور بالنقص ولّد ذلك في نفسه الحسد والغضب وكره المجتمع ومن ثم يصبح عدوانياً.
4. الأهمية الخُلقية:
سبق أنْ قررنا ما بين الجوانب الاجتماعية والنفسية والخلقية والدينية من تداخل فيصعب الفصل بينها بشكل حدّي.
إن انحراف الأم والأب الأخلاقي سيولّد - لا محالة - الانهيار الأخلاقي في الأسرة؛ لأن الوالدين هما القدوة العليا للطفل - خاصة في سنيه الأولى - فإذا كان ربّ البيت بالدف ضارباً فما بال الولد ؟ ذلك أن الطفل لا يُحسن سوى التقليد في سنيه الأولى حتى يتهيأ له مصادر أخرى للمعرفة فيما بعد كالمعلم والصديق…إخ.
ولقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً للأم الصالحة (أم مريم) (وما كانت أمك بغياً ) مريم 28. بشهادة القوم ، ولذلك اتجهت إلى تنشئة ابنتها مريم تنشئة صالحة (إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم). وكذلك الأب: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْء). مريم:28.
فهذه البيئة الصالحة أنتجت ذلك الفرد الصالح في المجتمع وهو (مريم)، لذلك كان للبيئة الدور الأكبر في التنشئة الأخلاقية ، ومن ثم كانت ظاهرة السباب والشتائم تعكس سوء التربية الأخلاقية للولد.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------
(الام قدوه متحركه فى ارجاء البيت)
يقول الشيخ محمد قطب : " إن من السهل تأليف كتاب في التربية ، ومن السهل تخيل منهج ، ولكن هذا المنهج يظل حبراً على ورق ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض وما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه ، وعندئذ فقط يتحول إلى حركة .. يتحول إلى حقيقة".
ولقد علم الله سبحانه وتعالى بحاجة هذا المنهج إلى بشر يحمله ويحوله ويترجمه بسلوكه وتصرفاته إلى واقع محسوس وملموس لذلك بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليترجم هذا المنهج وليكون خير قدوة للبشرية جمعاء، وذلك عندما وضع في شخصيته الصورة الكاملة للمنهج .
لقد كان عليه السلام خير بشر متحرك لترجمة القرآن إلى سلوك واقعي على مرأى من البشر الذين اقتدوا به واهتدوا.
لذلك فالإسلام يعترف بان أعظم الوسائل نجاحاً في التربية وأجداها في توصيل المبادئ والقيم هي القدوة .. ولابد أن تكون هذه القدوة ملازمة للإنسان سنين حياته كلها ابتداء من لحظة إدراكه ووعيه بما يدور حوله ..
لا بد للطفل من قدوة ينهج نهجها ويكّون مبادئه وقيمه وعقائده منها ، لا بد للطفل من أسرة بل أم تكون نموذجا متحرك في أرجاء المنزل تترجم كل ما تعلمته و ما خبرته من الحياة إلى سلوك مادي يلمسه طفلها إذ أن من غير المعقول أن يكون سلوكها وتصرفاتها مخالفا لما تقوله وقد استنكر ذلك الباري الأعظم في قوله تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف:2،3]. ويقول الباري تبارك اسمه :(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة:44] .
إن الطفل بمثابة الرادار الذي يلتقط كل ما يدور حوله فإن كانت الأم صادقة أمينة خلوقة ،كريمة ، شجاعة ، عفيفة ، نشأ ابنها على هذه الأخلاق الحميدة والعكس نجده إذا كانت الأم تتسم بسمات عكس السمات السابقة سمات ما أنزل الله بها من سلطان كأن تكون كاذبة جبانة غير خلوقة ينشأ الطفل على الكذب والخيانة والتحلل والجبن ، لأن الطفل مهما كان استعداده طيبا ومهما كانت فطرته نقية طاهرة سليمة صافية فإنه ما لم يوجه التوجه السليم وما لم يجد القدوة والنموذج الموجه الصالح فإنه بلا شك سينحرف إلى الجانب السلبي من جانب شخصيته وصدق رسول الهدى عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى عندما قال :" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " رواه مسلم .
نعم هي فطرة سليمة نقية لكن عوامل التربية والتوجيه من القدوة التي أمام بصره هي التي تلعب الدور الفعال في جعل الطفل يستمر على فطرته التي ارتضاها الباري له أو ينحرف وينسلخ إلى اتجاهات عقائدية مغايرة لتلك الفطرة .
إن الأم الواعية الحريصة على الأمانة التي أسندها الباري إليها في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8] ؛ لابد لها من أن تتخذ من كتاب الله وسيرة رسوله العطرة ومنهاجه المنير الذي استقاه من رب العالمين على يد الروح الأمين جبريل عليه السلام المنبعين اللذين تستقى منهما المبادئ للقدوة الحسنة .
ولها في تلك المصادر أروع الأمثلة نذكر منها بعض ما ورد في السنة :
فعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال : دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت يا عبد الله تعال حتى أعطيك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه، فقالت أردت أن أعطيه تمراً فقال : " أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتب عليك كذبة." رواه أبوداود .
وهذا مثال آخر يوضح كيفية أن تظهر الأم بمظهرالعدل
فعن عائشة رضي الله عنها قالت دخلت امرأة ومعها بنتان وهي تسأل فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم خرجت فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار .
لذلك فعلى الأم أن تسلك مع أطفالها جميع السبل التي سلكها الهادي البشير مع الأطفال، وعليها أن تتحلى بها في حياتها اليومية لينشأ وليدها على الأخلاق الفاضلة ، ويتربى على المكارم ولينشأ على العقيدة الإسلامية الراسخة والخلق القرآني الرفيع .
إن الأم باعتبارها القدوة لابد لها وأن تكون صادقة في أقوالها مع ابنها وأبيه ومع غيرهما من الأشخاص سواء من أفراد الأسرة أم من بقية أفراد العائلة أو مع الآخرين من أفراد المجتمع .
وحين تريد تعويد طفلها على الأمانة فلا بد لها أن تكون أمينة مع زوجها في ماله وبيته ومع أهلها .
وعندما تريد تعويده على الرحمة فلا بد وأن تبدأ هي بالقيام بالأعمال التي تشعر طفلها بمدى رحمتها وعطفها وحنانها ، كأن ترحم الضعيف ، وتعطف على المسكين ، وتعين الفقير ، وترأف بالحيوان .
فالأم عندما تقوم بمثل الأعمال أمام طفلها فإنها تغرس في نفسه أهم مبادئ المحبة والتعاون والأمانة والصدق وبهذا تنمي الجانب الأخلاقي في طفلها .
والطفل الذي يرى والدته تكذب وتغش فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتعلم الصدق والأمانة في يوم من الأيام.
والأم التي تكون في تبهرج وميوعة واستهتار لا يمكن أن يتعلم ابنها الفضيلة وحسن الخلق.
والأم التي تتلقط بالعبارات الهدامة وتستهزئ بالغير وتتسم بالغضب والانفعال والقسوة ؛ لا يمكن أن يكون طفلها على درجة من الأخلاق ولا يمكن أن ينطق بجميل عبارة ولا يمكن أن يتسم بالاتزان في تصرفه وصدق الشاعر عندما قال :
وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
وخلاصة الأمر أن الأم لكي تتمكن من تربية طفلها التربية الجسمية والخلقية والروحية، ولكي تكون القدوة الحية المتحركة في المنزل ولكي تكون نموذجاً رفيعاً لما تلقنه من القيم والمبادئ وما تصوره من المثل ومكارم الأخلاق، لابد لها أن تكون صورة تعكس حقيقة السلوك الذي تنادى به وتحث ابنها على ضرورة الالتزام به حتى لا يقع طفلها في تناقضات خطيرة ، فيختلط عليه الأمر وتلتبس عليه الحقائق والمفاهيم فلا يستطيع وقتها بل لا يعد قادراً على التمييز بين الزائف والصحيح .
-----------------------------------------------------------------------------------------------------
(الام بين الامس واليوم)
|
||||||||
|
||
للأم دور بالغ الأهمية في تربية الأطفال خلال السنوات الأولى من أعمارهم لأنها أكثر التصاقاً بالبيت والطفل ولأن عاطفتها أقوى من عاطفة الأب نحو الطفل فهي أقرب إلى قلوب الأطفال منه . ولقد زود الله الأم بعاطفة الحنان - الأمومة - ولم يزود بها الأب . وهذا الدافع العضوي أقوى الدوافع العضوية جميعاً ، ولذلك فإن الأم مهيأة لرعاية الطفل والتضحية من أجله براحتها ونومها وهي راضية . وهذا الحنان يمكن الأم من السهر على راحة الطفل وخاصة في السنتين الأوليين ولهاتين السنتين أثر كبير في شخصية الفرد ومن هذه الأمور أن الرضيع يتعرف على أمه من رائحتها . ثم يتعرف على صوتها بعد ذلك . كما أن لغة الأم هي أول لغة يقلدها الطفل وتكون معظم انفعالاته في السنة الأولى مرتبطة ومركزة في الأم أو من يحل محلها وإذا عرفنا أن الرضيع يبدأ منذ الشهر السادس من عمره في تكوين الأطفال ، وعلينا ألا نغفل دور الأم في حمل الأمانة . والقيام بواجب المسؤولية وتوجيههم ، ولقد بيّن الله في محكم تنزيله ، ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبثُ لا يخرج إلا نكداً ، كذلك نصرف الآيات لقومٍ يشكرون ) ( الأعراف : 58) . فالأم في تحمل المسؤولية كالأب سواء بسواء ، بل مسؤوليتها أهم وأخطر باعتبار أنها ملازمة لولدها منذ الولادة إلى أن يشب ويترعرع ويبلغ السن التي تؤهله ليكون إنسان الواجب ، ورجل الحياة ، والرسول صلوات الله وسلامه عليه قد أفرد الأم بتحمل المسؤولية حين قال : "والأم راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" . ويزداد الأمر سوءاً عندما يقضي الأبوان جل وقتهما في حياة الإثم والغواية ويتقلبان في أتون الشهوات والملذات . ويتخبطان في طريق الانحلال والإباحية . فلا شك أن انحراف الولد يكون أبلغ وأخطر ويكون تدرجه في الإجرام أكبر وأعظم ، فلننظر بعين فاحصة وعقول نيرة تبحث عن الحق والصدق في أمانة التربيةبين أم الأمس واليوم . ونتتبع نتائج هذه النظرة . أما اليوم ولست أعني من تقوم بتربية أبنائها على الدين القويم والأخلاق والقيم ، ولكنني أعني الوجه الآخر ، فعمل البيت ليس من مسؤوليتها في شيء ومن ذلك تربية الأبناء ، فانها وكلتهم إلا للأم المستوردة ( المربية) التي تقوم مقام الأم الحقيقية في تدبير كل شؤون الأولاد من غسيل وملبس وأكل وشرب وهي أيضاً التي تقوم باللعب معهم وكذلك هي التي تقوم بالرضاعة من الألبان المجففة ولا يخفى على أحد أثر الرضاعةالصناعية على نمو الطفل الجسماني والنفسي وكذلك فإن المربية هي التي تتصنع لهم الحنان والعطف وتقوم بنفسها على تعليمهم أمور دينها وأخلاقها وقيمها التي نشأت عليها فإن كانت شرقية كانت أخلاق الأبناء شرقية وإن كانت غربية كانت أخلاقهم غربية ، ومن ذلك يتحول الولاء والبراء إلى ما كانت تربيتهم عليه ويتحول الاحترام والتقدير والعطف والطاعة إلى المربية . هل المربية تستطيع أن تقوم مقام الأم فعلاً ؟ هذه الأسئلة تبحث عن الإجابة . فمتى أجبنا عليها بصدق فإننا سوف نعلم الفرق بين الأم الحقيقية والأم المستوردة . وكذلك من هذه النتائج الوخيمة عدم خدمتهم ومنفعتهم للوطن أو المجتمع الذي يعيشون فيه لأنهم لم يعلموا منذ صغرهم على احترام دينهم والدفاع عنه والذود عن أوطانهم وممتلكاتهم ، فالولد الذي يعق والديه يسهل عليه خيانة بلده وتحطيم مجتمعه . ومن هذا كله ينتج أيضاً انحراف الأبناء عن الدين والحق ، وذلك بارتكاب المعاصي الظاهرة والباطنة من إدمان الخمر والمخدرات وانتشار الجريمة والزنا وهذا كله نتيجة طبيعية لعدم المبالاة لتربية الأبناء . فإذا أردنا أن نرى جيلاً صالحاً ونافعاً يخدم أمته ويوحد كيانه ويفرض احترامه على الخلق لا بد أن تعود الأم أم اليوم التي فرطت في دورها الأساسي إلى رشدها وإلى واجباتها الحقيقية وتكرس ما تعلمته في دراستها لخدمة وتربية أبنائها وبالتالي سيعود ذلك على انتاج أبنائها وخدمتهم لوطنهم وأمتهم جميعاً . ولكي نقوم وننهض من هذا السبات العميق كي نواكب ما فاتنا من تخلف حضاري وإقتصادي ولكي تعود الأمة الإسلامية إلى سابق عهدها .< p> |
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
وجزيت اخيراا....دعوه لام احسنت التربيه
في ليلة من ليالي الصيف المقمرة .. عاد الفارس المجاهد بعد ثلاثين سنة من الجهاد .. وقد ترك زوجه العروس تحمل بين أحشائها جنينًا . تلفّت الفارس يمنًة ويسرًة محاولاً استعادة ذلك البيت الذي يضم زوجه ووليده ، الذين لا يعرف عنهما شيئًا .
لقد تغيّرت معالم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي قبل ، وكَثُر فيها سواد الناس ، لا أحد يحفل به وهو في طريقه إلى داره ، بل لا أحد يهتم لعودته بعد طول غيبته ، ولكن هل يذكره أحد ؟!
هل يتذكر أحد ذلك الفارس المجاهد الذي ما إن سمع نداء الجهاد حتى أسرع ملبيًا ، تاركًا زوجه الحامل ، والتي لا تزال عروسًا لم ينقضِ على عرسها غير أشهر معدودات .
ثلث قرن والفارس ينتقل مع جيوش المسلمين من فتح إلى فتح ، ومن نصر إلى نصر ، لا يكاد يهزه حنين إلى زوجه وولده ذكرًا كان أم أنثى .
لقد كان انتظار الزوجة له حتى انقطع في عودته الرجاء ، والناس مختلفون في مصيره ، ومع طول المدة و انقطاع الأخبار ، ترجَّح في نفس الزوجة والجميع استشهاد الفارس المجاهد ، مضى الفارس إلى حيث تعَّرف على موضع داره ، ألجمته الدهشة فلم يطرق بابها ، ومن ذا يرده عن داره ؟! دخل الفارس الدار ، فإذا برجل في الثلاثين من عمره ينقض عليه انقضاض الأسد على فريسته ، إذ كيف لهذا الشيخ بسيفه ورمحه أن يلج الدار معتديًا على من فيها من محارم ، احتدم الأمر بين الرجلين ، يدفع الشاب الشيخ ذائدًا عن حرماته المستحلة ، والشيخ يقسم أن الدار داره ، يرتفع صوت الرجلين فيفزع الجيران محيطين بالشيخ إحاطة السوار بالمعصم ، مدافعين عن جارهم الشاب ، والشيخ يحاول أن يذكرهم بنفسه ولا أحد يعرفه ، أو يصدّقه ، يصل الضجيج إلى حيث الأم النائمة ، تستيقظ على جلبة بين الرجال ، تنظر من أعلى البيت ، يا لهول ما رأت .
لم تكد تصدق عينيها ، أعادت النظر مرة ثانية لعلها تستوثق مما رأت ، إنه فّروخ زوجها الفارس المجاهد بشحمه ولحمه منذ وقعت عيناها عليه ، آخر مرة منذ ثلاثين عامًا ، لقد تذكرت على الفور يوم ودَّعها موصيًا إيّاها خيرًا ، مذكِّرًا إيّاها أنه قد خلَّف لها ثلاثين ألف دينار هي غنائمه من جهاده قبل أن ينال حريته من قائده الصحابي الجليل الربيع ابن زياد الحارثي ، لا زالت تذكر كلماته : " صونيها - أي الثلاثين ألف دينار- وثمريها ، وأنفقي منها على نفسك ووليدك بالمعروف حتى أعود إليك سالمًا غانمًا ، أو يرزقني الله الشهادة التي أتمناها " ، نزلت الأم ولا يزال رنين كلمات زوجها كما لو كان لتوه ، أمرت الجميع أن يتفرقوا شاكرة لهم حسن صنيعهم ، فإنما الرجل فرّوخ زوجها ووالد جارهم الشاب .
لم يتمالك الرجلان نفسيهما فأكب كل منهما على الآخر معانقًا إياه ، والابن يجثو على يد أبيه يلثمها معتذرًا فرحًا - لقد اختلطت المشاعر عند كليهما ، وتقاطرت الدموع منهما ، فرحًا بلقاء لم يكن في حسبان أحدهما أو كليهما ، جلست الزوجة إلى زوجها يحدثها عن مسيرة ثلث قرن من الجهاد مع جيوش المسلمين ، مبينًا لها سبب غيبته وانقطاعه ، ظل الفارس يتحدث ولكن الزوجة كانت في هواجس أخرى ، تحاول أن تجد إجابة مرضية لزوجها إذا سألها عن ذلك المبلغ الذي تركه على أن تثمره وتنفق منه بمعروف ، إنها تحاول أن تعثر على إجابة لا تغضبه ، ولكن كيف ؟ ها هو يسألها وهي تتشاغل عنه ، هل تخبره أنه لم يعد من الثلاثين ألف دينار شيء ، أيقنعه أنها جميعًا أنفقت على تعليم ولده وتأديبه ؟ وأي علم ذلك الذي يستغرق كل هذا المال ؟! ، أيصدق أن ولده سخي النفس كريم الطبع ، لا يكاد ينقطع عن النفقة في كل وجوه الخير والبر ؟
وبينما هي في خواطرها المتسارعة ، والتي قطعت عليها فرحتها بشمل جمعه الله بعدما ظنت كل الظن ألا يتلاقيا ، وبينما هي كذلك إذ قطع عليها تفكيرها بقوله : " لقد جئتك - يا أم ربيعت - بأربعة آلاف دينار ، فأخرجي المال الذي أودعتك إياه ، نشتري به عقارًا أو بستانًا نعيش من غلته ما بقيت بنا الحياة ، حاولت الزوجة أن تتشاغل عنه ، فلم تجبه ولكنه ألحّ في الطلب - إنها تخشى غضبته ، فيما لو عرف الحقيقة ، فماذا تفعل ؟ ردت في حكمة وثبات : لقد وضعته حيث يجب أن يوضع ، وسأخرجه لك إن شاء الله ، هنا انطلق صوت المؤذن لصلاة الفجر ، فقطع حديثهما ، وهَمَّ بالخروج إلى المسجد متسائلاً عن ربيعة ، ولكن ربيعة كان قد سبقه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخالجه شوق إلى روضة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ويدفعه حنين ثلاثين سنة عاشها مجاهدًا ، بعيدًا عن مدينته صلى الله عليه وسلم ، وها هو يؤدي الصلاة ثم يجلس في الروضة الشريفة ، يملأ نفسه وعينه بذكر وصلاة ودعاء طالما اشتاق إليه في هذا المكان ، وها هو يخرج من المسجد ، ولكن ساحة المسجد تغص بالناس ، فلم يعد فيها موطأ لقدم .
الكل يتحلق حلقة في إثر حلقة حول شيخ مهيب ، لم يتبين ملامحه لبعده عنه ، ولكن بيان الشيخ يأخذ باللبيب ، إذ ينثال على الشفاه علم متدفق يدل على حافظة واعية ، لا تكاد تغيب عنها شاردة ، لقد أدهش الرجل خضوع الناس بين يدي الشيخ ، وتزاحمهم عليه وإحاطتهم به ، واندفاعهم خلفه بعدما ما أنهى حديثه ، دارت برأس فرّوخ أسئلة كثيرة إذ من يكون ذلك الشيخ الشاب الذي عليه كل ذلك الوقار ، والذي يُشيَّعُ ممن حوله بكل ذلك الإجلال ؟ بادر الفارس العائد إلى رجل يجلس إلى جواره يسأله عن ذلك الشيخ الوقور ، فيعجب الرجل أن أحدًا لا يعرفه ، ويستنكر على رجل من أهل المدينة ، ألا يعرفه ولكنه غياب ثلاثين سنة ، فكيف يتسنى له معرفة شيخ كهذا ، ثم إنه لم يتعرّف ملامحه ، فيعتذر للرجل عن عدم معرفته لطول غيبته عن المدينة ، يعرف الرجل السبب فيعذره لجهله بمثل هذا الشيخ ، ينطلق الرجل معرفًا بالشيخ ، " إن من لا تعرف يا أخي سيد من سادات التابعين ، وعلم من أعلامهم ، وهو محدِّث المدينة ، وفقيهها وإمامها ، رغم حداثة سنه ، ألا ترى مجلسه يضم مالك ابن أنس وأبا حنيفة النعمان ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد وغيرهم كثير ، وهو فوق ذلك ذو تواضع جم ، وكف أندى من السحاب ، فما عُرف أسخى منه نفسًا ، ولا أكثر منه عطاء . يقاطعه فرّوخ ، ولكنك لم تذكر لي اسمه ، رد الرجل ، إنه ربيعة الرأي ، التفت فرّوخ ربيعة ، ولم يكمل حتى عاجله الرجل إنه سمي بهذا الإسم لرجاحة رأيه فيما أشكل على المسلمين مما لم يرد فيه نص قياسًا على ما ورد فيه نص ، اشتاق فرّوخ ليعرف نسب ربيعة الرأي هذا ، فيرد عليه الرجل إن ربيعة الرأي هو ابن فرّوخ المكنى بأبي عبد الرحمن ، وقد ولد بعد أن غادر أبوه المدينة جهادًا في سبيل الله ، فتولت أمه تربيته وتأديبه وتعليمه ، وإن الناس ليقولون إن أباه عاد الليلة الماضية .
هنا تحدرت من عيني فرّوخ دموعٌ لم يعرف لها سببًا ، ولا تزال عبراته تنحدر على وجهه ، حتى وصل إلى بيته ، فسألته زوجه متهلفة عما به ، فيرد الفارس المجاهد " ما بي إلا الخير ، لقد رأيت ولدي في مقام من العلم والشرف والمجد ما رأيته لأحد من قبل " ، هنا تهللت أسارير الزوجة والأم الصالحة الواعية ، فقد حان لها أن تجيب على سؤاله الذي شغلها ، فاغتنمت الفرصة وقالت : " أيهما أحب إليك ، ثلاثون ألف دينار أم هذا الذي بلغه ولدك من العلم والشرف ؟ فيرد المجاهد : " بل - والله - هذا أحب إليّ وآثر عندي من مال الدنيا كله " ، قالت : " إذن فلقد أنفقت ما تركته عندي عليه ، فهل طابت نفسك بما فعلت " ؟! فيقول : " نعم ، وجُزيت عني وعن المسلمين خير الجزاء " .
بمثل هذا الوعي في التربية تسود الأمة ، فهل من أمهات كأم ربيعة في زمن عَزَّ فيه أمثالها ؟ .
للأم دور بالغ الأهمية في تربية الأطفال خلال السنوات الأولى من أعمارهم لأنها أكثر التصاقاً بالبيت والطفل ولأن عاطفتها أقوى من عاطفة الأب نحو الطفل فهي أقرب إلى قلوب الأطفال منه . ولقد زود الله الأم بعاطفة الحنان - الأمومة - ولم يزود بها الأب . وهذا الدافع العضوي أقوى الدوافع العضوية جميعاً ، ولذلك فإن الأم مهيأة لرعاية الطفل والتضحية من أجله براحتها ونومها وهي راضية .
وهذا الحنان يمكن الأم من السهر على راحة الطفل وخاصة في السنتين الأوليين ولهاتين السنتين أثر كبير في شخصية الفرد ومن هذه الأمور أن الرضيع يتعرف على أمه من رائحتها . ثم يتعرف على صوتها بعد ذلك . كما أن لغة الأم هي أول لغة يقلدها الطفل وتكون معظم انفعالاته في السنة الأولى مرتبطة ومركزة في الأم أو من يحل محلها وإذا عرفنا أن الرضيع يبدأ منذ الشهر السادس من عمره في تكوين الأطفال ، وعلينا ألا نغفل دور الأم في حمل الأمانة . والقيام بواجب المسؤولية وتوجيههم ، ولقد بيّن الله في محكم تنزيله ، ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبثُ لا يخرج إلا نكداً ، كذلك نصرف الآيات لقومٍ يشكرون ) ( الأعراف : 58) .
كما قال الشاعر :
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيبَ الأعراق
فالأم في تحمل المسؤولية كالأب سواء بسواء ، بل مسؤوليتها أهم وأخطر باعتبار أنها ملازمة لولدها منذ الولادة إلى أن يشب ويترعرع ويبلغ السن التي تؤهله ليكون إنسان الواجب ، ورجل الحياة ، والرسول صلوات الله وسلامه عليه قد أفرد الأم بتحمل المسؤولية حين قال : "والأم راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" .
وما ذاك إلا لإشعارها بالتعاون مع الأب في إعداد الجيل وترتبية الأبناء وإذا قصرت الأم في الواجب التربوي نحو أولادها لانشغالها مع معارفها وصديقاتها واستقبال ضيوفها وخروجها من بيتها إلى الأسواق والعمل لغير ضرورة وتركت الأولاد إلى المربية وأهملت الاهتمام بما يحدث لهم من عناية ورعاية ، فلا شك أن الأبناء سينشأون نشأة اليتامى ، ويعيشون عيشة المشردين بل سيكونون سبب فساد وأداة إجرام للأمة بأسرها فماذا ننتظر من أولادٍ أمهاتهم على هذه الحال من الإهمال والتقصير .
فحتماً لا ننتظر منهم إلا الانحراف ولا نتوقع إلا الإجرام لانشغال الأم عن رعاية الولد وتربيته .
ويزداد الأمر سوءاً عندما يقضي الأبوان جل وقتهما في حياة الإثم والغواية ويتقلبان في أتون الشهوات والملذات . ويتخبطان في طريق الانحلال والإباحية .
فلا شك أن انحراف الولد يكون أبلغ وأخطر ويكون تدرجه في الإجرام أكبر وأعظم ، فلننظر بعين فاحصة وعقول نيرة تبحث عن الحق و�
عدد زيارات الموقعMOHAMED YHYA OMER
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول