إذا كانت الحضارة الغربية تفخر بوجود علماء موسوعيين في تاريخها مثل "ليوناردو دافنشي"، والذي يعدّ فلتة من فلتات الزمان، فإنه من السهل عليك –عندما تنقب في التاريخ العربي والإسلامي- أن تجد من أمثاله الكثيرين.
من ضمن هؤلاء الأفذاذ يقف "ابن سينا" على قمة سامقة من القمم. الرجل الذي مازالت حياته وعبقريته وآثاره العلمية والأدبية والفلسفية تدرس شرقاً وغرباً بمزيد من الاحترام والتبجيل والتحليل الذي لا يقف، وكأن الدراسة ستميط اللثام عن معنى العبقرية المتجسدة في بشر!
أجل. كان "ابن سينا "عبقرية بطول التاريخ وعرضه. بمعنى أدق: عبقرية كل العصور!
إنه: المعلم الثالث/ أمير الأطباء/ أرسطو الإسلام، وغيرها من الألقاب الرفيعة.
ويكفي أن نعرف من انبهار الغربيين به أنه في العصور التي تلت وفاة عالمنا، وبعد ترجمة مؤلفاته إلى اللاتينية كان الطبيب الذي يأخذ لقب "روح ابن سينا" كأن نال الوسام الفخري الذي لا مزيد عليه!
وفي "باريس"سنجد أن صورته معلقة في كلية الطب هناك، وهذا تكريم رمزي ضمن عشرات التكريمات التي تقام لهذا العالم العظيم.
حياته:
هو "أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا".. شهرته: الشيخ الرئيس، وهو يكاد يكون علماً عليه، فلا تجد عالماً أطلق عليه هذا اللقب من قبل أو من بعد.
ولد بـ"فارس"عام 370 هـ /980 م.. قضى طفولته في الدرس وتحصيل العلم، وقد حفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره، وكعادة الأطفال في زمانه فقد درس الكثير من العلوم الشرعية، وتتلمذ على يد "أبي عبد الله الناقلي"، وكان له شغف بالفلسفة والرياضيات، ثم اتجه للطب، وتشرّب الصنعة من علماء لهم ثقلهم حينذاك، وكانت نقطة البدء الحقيقية عندما استدعاه الأمير "نوح الثاني الساماني" للعلاج، ويبدو أن الأمير قد كاد يصيبه اليأس من كثرة الأطباء الذين لم يتوصلوا للعلاج، حتى أتى "ابن سينا"، ووضع النقط على الحروف، وبعد أن شُفِي الأمير كانت جائزة الشاب المتوقد أن يدخل على مكتبة الأمير ويتزود من كتبها مما يشاء، وكانت فترة مباركة في حياة الشيخ الرئيس، وكأن المكتبة كانت بوابة لعوالم مدهشة من العلم!
وعلا نجمه، وتقلد الكثير من المناصب، وألّف في كل العلوم تقريباً، ثم توفي بـ"فارس"عام 428هـ/1037 م، عن ثمانية وخمسين عاماً، بداء القولون!
شخصيته:
مفاتيح شخصية الشيخ الرئيس تكاد تكون متشعبة وكثيرة، لكن يمكن حصرها في عدة نقاط:
1. عنيد: هذه صفة "ابن سينا" الأولى. هذا العناد المتحدي الذي يشكل قوة خطيرة قد ترفع صاحبها، وقد يحدث العكس. وليس أدلّ على عناد عالمنا من أنه تمّ التقليل من شأنه في مجلس أحد الأمراء. وتفصيل الحكاية أن "أبا منصور الجبائي" عالم اللغة الشهير قد سمع "ابن سينا" يتحدث في اللغة فقال له:
أنت فيلسوف وحكيم، ولكن لم تقرأ من اللغة ما يرضي كلامك فيها.
وهنا أزمع "ابن سينا" أن ينقطع لتعلم اللغة، وعكف ثلاث سنوات حتى أتقنها، ووصل لمناطقها الدفينة الدقيقة، والتي لا تخفى على أفذاذ اللغة، بل ووصل به الأمر إلى أن ينظم قصائد دلالة على تمكنه.
ثم تمّ عرض الكتب التي ألفها الشيخ الرئيس في اللغة على "أبي منصور الجبائي" ليقول رأيه فيها، حيث أخبروه بأنهم وجدوها مدفونة في الصحراء!
وأعلن عالم اللغة انبهاره بالكتب ذات المستوى الرفيع، وعن عجزه في فهم بعض النقاط، مما جعل "ابن سينا" يظهر على مسرح الأحداث، ويخبره عن الحقيقة، وراح يفسر له ما استشكل عليه فهمه.
2. قوة ذاكرته: إن قوة الذاكرة لديه كانت معجزة علمية من معجزات الدهر، وهو ما يذكرنا بالإمام "الشافعي" الذي كان يضع يده على صفحة الكتاب ويترك الأخرى خوفاً من أن يحفظ الصفحتين في نفس الوقت!
كان "ابن سينا" يجلس في وقار العلماء يملي على الكتبة كتابة موسوعاته ومؤلفاته، فإذا ما تعبوا كان يستبدل بهم غيرهم، ومازالت قريحته قوية، متجددة.
كان لا يكلّ ولا يملّ من القراءة والكتابة، والتصنيف، والتحليل، والبحث العلمي، وكأنه يعرف أن حياته قصيرة، ومن ثمّ راح يسابق الزمن.
3. ذكاؤه وفطنته: حيث قابل هذا الرائد العظيم الكثير من الحالات المستعصية، لكنه استطاع بفطنته وذكائه أن يصل للحل.
فقد حدث أن شاباً أصيب بحالة نفسية جعلته يعتقد نفسه بقرة، ومن ثمّ فقد امتنع عن الأكل، وصار ينادي بذبحه، وعندما يئس أهله ذهبوا إلى "ابن سينا"، الذي أتى مشمراً عن ذراعيه، حاملاً سكينة، وراح يصرخ بأنه يبحث عن البقرة التي تريد الذبح!
فرح الشاب، وراح يخور كما تفعل البقر، وهنا أشاح عالمنا العبقري بوجهه معلناً أن البقرة هزيلة، ولا تستحق الذبح، وهنا أقبل الشاب على الأكل لكي يسمن ويذبح، وحدث ما توقعه الشيخ الرئيس فاسترد الشاب عافيته، وشفي نهائياً!
وهذا يثبت أنه طبيب نفسي من الطراز الأول، شخّص المرض، وعالجه بعبقرية لا جدال فيها.
4. تجرده للعلم: وهي نقطة تجدها في معظم العلماء الأوائل من المسلمين والعرب.
-دعونا نتذكر أن "ابن سينا" ليس عربياً- حيث كان العلم رسالة هادفة سامية، سيحاسبون عليها أمام ربهم، وعالمنا كان يعالج المرضى –مثلاً– بلا نقود، والطريف والمحزن في الوقت ذاته أنه كان يعالج نفسه بنفسه من داء القولون في أخريات حياته، وعندما فشل في العلاج جدد توبته، واعتكف للعبادة، وانشغل بالتصدق والصلاة حتى وافاه أجله.
5- عراكه مع الحياة:هذا العظيم واجه الكثير من الحاقدين والحاسدين كما يقول "العقاد" في كتابه الذي صنفه عن "ابن سينا"، وكان همهم أن يسقطوه عن جواده، وليس أدلّ على هذا من قولهم أنه حرق مكتبة الأمير الذي عالجه حتى لا يقرأ أحد فيها شيئاً، ومن ثم قد يتفوق على "ابن سينا"، ونسي هؤلاء الحاقدون أن عالمنا كان لا يتوانى عن التدريس والتعليم، فهو أكثر الناس علماً ببذل العلم للناس، ثم لو كانت الكتب هي المحكّ الذي يقدح زناد العبقرية لامتلأ العالم –قديماً وحديثاً– بالعباقرة!
لكن الرجل لم يكن فيلسوفاً وحكيماً وطيبياً فقط، بل كان رجلاً يحارب الكثير من الناس، ويواجه الأكثر من المؤامرات، وحياته حافلة بتلك الأحداث الرهيبة، وكأن للعبقرية ثمنا لابد أن يدفع من أعصاب ودم العبقري.. وياله من ثمن!!
إنجازاته:
للشيخ الرئيس الكثير-مما لا حصر له– من الإنجازات، سنذكر القليل جداً منها:
1. أول من توصل للحقن تحت الجلد.
2. أول من اخترع أنبوبة القصبة الهوائية –مصنوعة من الذهب أو الفضة– والتي تنجي صاحبها من الاختناق.
3. أول من وصف الحنجرة وصفاً دقيقاً وعلمياً، بكل تفاصيلها من أنسجة، وعضلات، وأربطة، وهو شرح لا يختلف كثيراً عن عالم اليوم كما يقول الدكتور "مصطفى شحاتة" في مقال له بمجلة الفيصل الطبية.
4. ميزّ بين المغص الكلوي، والمغص المعوي، وكذلك بين الالتهاب الرئوي، والالتهاب السحائي الحاد.
5. أول من اكتشف دودة الإنكلستوما، وقد سماها "الدودة المستديرة"، وهو بذلك يسبق الإيطالي "دوبيني".
6. أول من وصف داء الفيل، وقال بأن سببه ديدان "الفيلاريا"، وهو له باع طويل في أبحاث الديدان ويرقاتها وأنواعها.
7. أول من وصف داء الجمرة الخبيثة، وسماه "الحمى الفارسية"، والمدهش أنه وصف طريقة التشخيص، وذكر السلّ الرئوي، بالإضافة للكثير من أبحاثه في الأمراض التناسلية والجلدية.
8. وصف أعراض حصاة المثانة وميز بينها وبين حصاة الكلى، دعكم من مناقشته العقم، وحمى النفاس، وحالات الإجهاض، وحديثه عن الأورام الليفية والانسداد المهبلي.
9. له إنجازات عظيمة في الأمراض العصبية مثل "شلل الرعاش" و"السكتة الدماغية".
10. وكذلك له أبحاث متميزة في الأمراض النفسية، فقد ذكر الصدمات التي تلي علاقات الحب الفاشلة –وله في هذا طرفة مشهورة– وغيرها من الحالات التي عالجها طبيبنا بمهارة وحذق لا شكّ فيهما.
11. له وصف دقيق للعين بعضلاتها، وبكل ما يتصل بها، وكذلك له باع في علاج الأورام السرطانية، فهو أول من أخبر بوجود أورام المخ، وكذلك أبحاثه في التخدير، وقياسات الدم، والتحاليل الطبية.
وغير هذا كثير. كثير، مما يعجز هذا المقال القصير عن تحمله.
مؤلفاته:
يخبرنا الدكتور "عبد الحليم منتصر" بأن مؤلفات الشيخ الرئيس قد بلغت 276 مصنفاً، ما بين رسالة وكتاب وموسوعة شاملة.
1- القانون: هذه الموسوعة الطبية المذهلة، والتي ترجمت للاتينية، وظلت عمدة الطب هناك حتى وقت قريب، والطريف في الأمر أن الأوربيين كانوا ينظرون لما فيها بتبجيل وتقديس، دون شكّ أو مناقشة!
يحتوي الكتاب على خمسة أجزاء:
الجزء الأول: الاهتمام بالكليات –الأمور العامة– من الأخلاط والأمزجة، وماهية الأعضاء، والعظام والعضلات- وتصنيف الأمراض وأسبابها، وطرق علاجها.
الجزء الثاني: المفردات الطبية. بمعنى أدق: الأدوية العلاجية، وآثارها الجانبية، وما تفعله في الجسم!
الجزء الثالث: أمراض جميع الجسم (من الرأس للقدم)، ووصف الأعراض، وطرق التشخيص.
الجزء الرابع: الأمراض الجامعة التي تصيب أكثر من عضو، كالحميات مثلاً، وتكلم فيه عن البثور والأورام، والكسور وجبرها، ومرض الجذام.
الجزء الخامس: الحديث عن الأدوية المركبة.
وجدير بالذكر أن "ابن سينا" قام بكتابة "أرجوزة" طبية تقع في 1329 بيتاً، وهي مذكرة مختصرة للطبيب ليستعين بها في عمله، إذا كان لا يجد الوقت لقراءة "القانون".
2- موسوعة الشفاء: موسوعة معرفية طبيبة فلسفية ضخمة تحدثت في المنطق والفلسفة والطبيعيات.
3- أسباب حدوث الحرف: وهو كتاب سابق لعصره يتحدث فيما يسمى الآن بعلم "الصوتيات".
وكما قلنا من قبل فإن الرجل ألّف الكثير، وصنف وعدّل، وأضاف الكثير في تراثه الفذّ خلال حياته القصيرة.
قالوا عن "ابن سينا":
"كان أعظم هؤلاء المنسقين، ومن أكثر الفلاسفة الذين ازدهروا في العصر العباسي الذهبي تنوعاً".
المفكر، والوزير البريطاني السابق: "أنتوني ناتنج".
"ابن سينا" واحد من أكبر الأطباء في كل العصور، وهو مع "الرازي" و"ابن زهر" يكونون أركان هرم الطب الإسلامي".
الطبيب اليوغسلافي د/ سيرسر.
"كان الطب معدوماً فأوجده "أبقراط" وميتاً فأحياه "جالينوس"، ومشتتاً فجمعه "الرازي"، وناقصاً فأتمه "ابن سينا".
المستشرق الهولندي: "دي بور"
"منذ حوالي تسعمائة عام توصل العالم المسلم "ابن سينا" إلى سرعة الضوء".
المؤلف البريطاني: "برنارد جاف".
"وقد خرجت من قراءاتي لبعض أعمال "ابن سينا" بأنني أمام عبقرية نادرة المثال، أو على غير مثال، حتى قدرت قول "سارتون": إن "ابن سينا" ظاهرة فكرية ربما لا تجد من يساويه في ذكائه أو نشاطه الإنتاجي".
أستاذ علم النبات،
وباحث الحضارة الإسلامية الشهير
د."عبد الحليم منتصر"
..................................