حسنا فعل "حمدي البطران" عندما امتلك الجرأة وكتب (يوميات ضابط في الأرياف) عن فترة عمله كمأمور في مدينة بصعيد مصر لم يحددها بالاسم ووصفها بالقائدة في تفريخ قيادات الجماعات الإرهابية الذين يديرون عملياتهم من الخارج بنجاح تام.. سبعون فردا من الجماعات الإسلامية، زعيمهم مهندس ونائبه ضابط سابق في القوات المسلحة يجيد الرماية والهجوم المباغت والتدريب على الأسلحة. يهيمون في الصحراء المجاورة وحقول القصب، ومن آن لآخر يهبطون بأسلحتهم وينقضون على فريستهم سواء كانت سيارة أو رجال شرطة.. يجهزون عليهم ثم ينزعون عنهم أسلحتهم ليستخدموها ضدهم فيما بعد.
لم يكن في المسكن حينما تسلمه غير سرير ملطخ بالدم تبين أنه سرير المشرحة!! في أول ليلة هناك، وعلى خلفية من طلقات بنادق آلية ونباح كلاب وصراخ غامض حاد، كصراخ أرنب ينزعون جلده حيا، راح يتذكر دموع زوجته التي سقطت مغشيا عليها حينما قرأت اسمه في حركة التنقلات في الصحيفة اليومية. عادت إلى البيت شبه منهارة لتتوسل إليه أن يستقيل من الشرطة ولا يذهب. كانت اغتيالات الضباط في هذا الوقت عادة يومية متكررة في ذلك الصراع الدامي بين سلطة الدولة ممثلة في الشرطة وبين الجماعات الإسلامية المتطرفة، والتي حسمتها الدولة لصالحها بعد كثير من الأعوام والدماء!!
الكتاب كما يبدو من عنوانه معارضة -وهذا جنس أدبي معروف- لرواية "توفيق الحكيم" المشهورة (يوميات نائب في الأرياف).. بل إنه اقتبس نفس بنائه الدرامي حينما جعل الأحداث تسير على خلفية تحقيق في قضية قتل "عزيزة" مثلما سارت أحداث رواية "الحكيم" على خلفية من مقتل "ريم"، الفتاة التي يفرش رمشها على فدان كما كان يقول الشيخ "عصفور". في البدء تقدم والدها "فنجري إسكندر" للإبلاغ عن غيابها، بعدها يتم اكتشاف الجثة في الساقية المهجورة، لنعرف فيما بعد أن والدها ارتاب في سلوكها وبالفعل فحصتها الأم وأكدت أنها لم تعد عذراء، وفي نهاية الرواية نتبين -للأسف الشديد- أنها قتلت ظلما. تقرير الطبيب الشرعي أكد أنها عذراء!
كلتا الروايتين تظهران عجز الأداة الحكومية عن تحقيق العدل بين الفلاحين، وكأن ستين عاما لم تمر بين الروايتين، الشعب دائما مقهور الآن ووقت ذاك، ينظر إلى العقوبات الواقعة عليه نظرته إلى مصيبة تقع عليه من السماء لا يمكن دفعها. وفيما كانت الأحكام تنهال على رءوس الفلاحين -في رواية "الحكيم"- بسبب قوانين مستوردة من الخارج لا تراعي ظروفهم البيئية فإن الأسوأ يقع في رواية "البطران". إهانات يتعرض لها الأبرياء أثناء صراع الأمن مع الجماعات المتطرفة في تسعينيات القرن الماضي. قطع الطرق بمطبات هائلة توشك أن تقلب السيارات وتتلف الأجزاء السفلية منها وتفتيشها واحتجاز العشرات بلا مسوغ قانوني من أجل استجوابهم أو الاشتباه في انتمائهم للجماعات الإسلامية.
يصف الكتاب عمليات الانتقام التي كانت تقوم بها الشرطة ردا على العمليات الإرهابية والتي لم تكن تطال –للأسف- الجاني، بل الأبرياء. كان عقابهم جماعيا لتلك القرية التي أطلق أحد أبنائها الرصاص على الشرطة. قوة مسلحة مدججة بالجرارات الزراعية والبلدوزرات هاجمت القرية، وكلما قابلوا رجلا أوسعوه ضربا وركلا. أثناء التفتيش كان الجنود يقذفون بمحتويات البيوت خارجها. وتراق محتويات الأواني على الأرض. أحد الجنود رأى جرة عسل فركلها بعنف فتطاير العسل على ثياب الضباط فأوسعوه ضربا!! وصدرت التعليمات باقتياد كل شباب القرية حتى سن الخامسة والأربعين إلى مقر النقطة. بيت الأسرة تم هدمه بالبلدوزر فانهار السقف الخراساني متماسكا وانطبق على سقف الدور الأول ثم هبط على الأرض كالورق المقوى منبعثا منه غبار أسود كثيف غطى على كل الميدان.
أما أبو المتهم فالضرب والصفع وأقذع الشتائم كان أقل ما تعرض له. بعدها رفعوا جلبابه وربطوه في رقبته ثم ضربوه على مؤخرته بعصا رفيعة من الخيزران. وحينما أقسم إنه لا يعرف مكان ابنه -منذ أطلق لحيته وانضم للجماعات المسلحة- هددوه بفعل نفس الشيء مع ابنته!!
إنصافا يجب ألا ننسى أن تلك التجاوزات حدثت بينما كان الرصاص يحصد شهداء الشرطة والوطن. كانت الصحف تنشر حوادث الاغتيالات بصورة يومية. ضباط كبار برتبة اللواء. وذلك الضابط الشاب الذي تلقى كمية من الرصاص والمتفجرات تكفي لنسف كوبري على النيل. وقبله عميد أطلقوا عليه تسعين طلقة من أربع بنادق آلية. هذه الحوادث وغيرها تكشف عن رغبة ملحة في الانتقام فرصاصة واحدة كانت تكفي لتحقيق الهدف!
مصيبة تلك الأيام السوداء لم تكن فقط في دماء شهدائها ولا الضرر العميق الذي حاق بالسياحة والاقتصاد المصري، بل تمزق الوطن الواحد بين شمال وجنوب، عاصمة وصعيد. وكأن "مينا" موحد القطرين لم يولد بعد. الضباط القادمون من كل أنحاء مصر.. الإسكندرية وبورسعيد والقاهرة كانوا يقولونها بصراحة: متى نعود لبلادنا!!؟
مازلت أذكر ذلك السائق النوبي الذي اختفت وداعته الفطرية تحت حنقه العميق وهو يقول لي في حقد وأسى:
- إنهم لم يكتفوا باحتلال بلادنا بل ضربونا واحتقرونا!!
حقا. كم أسأنا إليه.. صعيد مصر المبارك.. مهد الحضارة البشرية. هناك في طيبة حيث بزغت شمس العلوم والفنون والعظمة الفرعونية فيما كان الوجه البحري مجرد أحراش ومستنقعات. وبقية العالم في حياة الهمجية وعدم الاستقرار.
....................
في إحدى الاجتماعات مع مدير الأمن تشجع أحد الضباط وقالها بصراحة: ينبغي تطوير جهاز الشرطة ليكون على مستوى المواجهة. لا يمكن للمخبر الذي تعود على التعامل مع لصوص الدواجن أن يتعامل مع متطرف له قضية يموت من أجلها. بعض هؤلاء المتطرفين يتمتعون بقدرات عقلية فائقة ومقدرة هائلة على الجدل والإقناع ويحفظون القرآن الكريم وكتب الأحاديث والشريعة. وحتى حراسهم كانوا يتعاطفون معهم بل ويسمحون لهم بالخلوة مع زوجاتهم!! حتى إن بعضهم تزوج وأنجب داخل السجن!!
قال الضابط أيضا: ينبغي أن يتفرغ ضباط الأمن العام للأمن الجنائي فيما يتفرغ ضباط أمن الدولة والأمن المركزي لعمليات الإرهاب بدلا من طغيان الأمن السياسي على الأمن الجنائي. حوادث السرقة بالإكراه زادت على المعدلات السابقة فضلا عن انتشار حوادث الخطف والاغتصاب والتحرش وسرقة المساكن نهارا وحمل السلاح علنا. كان رد مدير الأمن بأنهم مكلفون بتحقيق نتيجة لا رسم شئون الوزارة!!
والحق أن هذا الكلام مازال حكيما حتى اللحظة. لقد طغى أمن النظام على أمن المواطن حتى تم اختزال الوطن في أفراد معدودين فلم يعد المصري العادي يشعر بانتماء للوطن.
وكانت النتيجة كما لابد لنا أن نتوقع. تعاطف الناس مع المتطرفين الذين برروا قتل الجنود والضباط باعتبارهم من أعوان الطاغوت، والناس يتابعون الموقف ويشفقون عليهم، ويخافون -في الوقت نفسه- من سطوة الشرطة. إنها لا تعدو –في نظر الناس– مباراة بين الشرطة وبين المتطرفين ومن ينتصر سيقدمون له الولاء ويجهزون له كرسي الحكم!! لذلك لم يندهش المأمور كثيرا حينما كانوا يدفنون بعض قتلى الجماعات المسلحة فقام الإمام ليصلي عليهم ويقول:
- اللهم اغفر لهم، وأنزلهم جنتك فهم عبادك وماتوا من أجل إعلاء كلمتك.
ثم أقام الصلاة وكبر لصلاة الجنازة وخلفه الناس قائلا:
- نويت أقيم صلاة الجنازة على أرواح (الشهداء). الله أكبر!
....................
في الكتاب شخصيات لا تنسى. الحق أن الكاتب يتمتع بموهبة بصرية عالية تجعله يلاحظ التفاصيل الدقيقة. هناك أمين شباب الحزب الذي تجاوز الخمسين بكثير!! يرتدي بذلة صوفية كاملة وصديريا مختلف اللون ورباط عنق عريضا يظهر تحت الصديري. وهناك عسكري المكتب .. فارع الطول بطريقة مبالغة فيها. يتكلم بسرعة وقوة، وله ستة أصابع.. حينما يطلب منه شراء شريط موسيقى فإنه يمضي على الفور لتنفيذ الأمر ثم عاد أدراجه متسائلا:
من الأجزاخانة يا باشا؟
وهناك هواة دخول مراكز الشرطة والتطلع إلى العساكر دون هدف واضح.. يرتادون المراكز دون أي سبب ويفرضون أنفسهم على هؤلاء.. أما العمدة "همام" فمفرط السمنة يرتدي جلبابا ثقيلا وشالا سميكا كالسجادة.. رقبته ضخمة ولامعة وعليها سائل يشبه الزيت. يذكره في سمنته وسواده بالإمبراطور "بوكاسا" الذي قالوا عنه إنه يأكل الأطفال.
يتطاير الرذاذ من فمه وهو يقول للمأمور:
- يا باشا. احنا شفنا النور مرتين. مرة لما الكهربا دخلت بلدنا. والتانية لما حضرتك شرفت المركز. يا بختنا يا سعدنا يا هنانا. سمعتك يا باشا زي الطبل.. حضرتك أول ما شرفت عندنا النيل فاض ع الآخر. وبقرة "سلمان أبو حنين" ولدت جوز. وحق جلال الله النور في وش الباشا زي نور الأوليا!!
وبرغم أن العمدة "همام" مجرم ضالع في الإجرام تحوم حوله الشبهات لكن أحدا لم يتقدم للشهادة خوفا من بطشه. يغتصب المرأة التي تروق له ثم يقتل زوجها.. ويذهب للحج على نفقة أتباعه ثم يعود دون أداء المناسك مكملا المدة في منزل عشيقته ليعود إلى قريته مع أول فوج من حجاج الطائرات!! وبرغم ضلوعه في تهريب الآثار فإنه عضو في لجنة العمد له قبول عند مدير الأمن.
هناك أيضا حوادث مضحكة في الكتاب مثل قصة السائحين الرومانيين اللذين عقدا قرانهما في القاهرة، وقررا أن يقضيا شهر العسل متنقلين على الدراجة حتى أسوان ونظرا للخوف الشديد على حياة السياح فقد تقرر تأمينهما بسيارة شرطة أمامهما وسيارتين خلفهما بالإضافة لسيارة لاسلكي تسير أمام الجميع. المضحك أن الزوج اعتقد أن ما يحدث نوع من التعبير عن حفاوة الحكومة المصرية بالزواج الذي تم على ترابها!! وقال إنه يشعر الآن بأنه أكثر أهمية من الرئيس الأمريكي وزوجته!! فيما طلبت الزوجة من أحد خفراء الآثار الذين يحسنون الحديث بالإنجليزية أن يشكر الحكومة المصرية لحسن إعدادها حفل الزفاف!!
.......................
تنتهي الرواية بشيء كالأعاجيب. رئيس وحدة المباحث نفسه تعاطف مع الجماعات المسلحة وأبلغ النيابة عن أسماء ضباط أطلقوا النار بلا مسوغ قانوني على مشتبه فيه. كان ذلك إحراجا بالغا للمأمور. والأدهى أنه لم يكتفِ بذلك بل أبلغ أسماءهم أيضا لوالد القتيل. في الحق لم يكن المأمور غافلا عن التغيرات التي ألمت برئيس المباحث. ندرة جلوسه معه وتفضيله البقاء منفردا، إطالته الصلاة وذلك الألم النفسي الواضح كلما اضطرته مسئوليات منصبه لفعل ما لا يرضى عنه ضميره. المسكين عانى صراعا طويلا مزمنا انتهى باعتكافه في بيته بعد أن رفضوا استقالته من الشرطة.
وهيمن على المأمور شعور بالاكتئاب وإحساس بالفشل وأنه غير جدير بهذا المنصب وينبغي عليه أن يتركه لمن هو أكفأ منه. بالفعل لم يتأخر الأمر كثيرا. صدر قرار مدير الأمن بنقله من المركز وتعيين العقيد "عبد المجيد" مأمورا بدلا منه.
وتنتهي الرواية التي فتحت جرح الوطن. وأثارت تساؤلات أكثر مما أعطت أجوبة. لماذا حدث كل هذا العنف وأريقت كل هذه الدماء؟ هل هو الفساد الذي بث اليأس في قلوب الناس من إمكانية حياة نظيفة؟ أم تراجع دور الأزهر بما سمح ببروز الأفكار المتطرفة البعيدة عن سماحة الريف المصري والمستوردة من الخارج؟ أم هو الفقر والغبن والمجتمع المحافظ الذي يحتمل شظف العيش لكنه لا يقبل إهانة العرض؟ أم كل هذه الأسباب مجتمعة؟
كتاب في مجمله يتميز بالصدق والصراحة وحب الوطن. إننا نحب الوطن، لكن السؤال المهم: هل يحبنا الوطن كما نحبه؟!