.أيمن محمد الجندي

الطريق نقطعه بالحديث، وأنا أسير جواره لا تكاد رأسي تبلغ منكبيه.. يجر أقدامه بصعوبة ويلهث، وبرغم لهاثه لا يكف عن الكلام.. لم يتصور أبي قط أنه سيبلغ الستين.. مات أبوه قبلها بكثير وكذلك جده.. ولذلك صار يعتبر شروق كل شمس عمرا إضافيا منحته له الحياة ربما تسترده في أية لحظة.. كنت صغيره المدلل الذي يود أن يلقنه حكمة الأيام كيلا أتعثر في حياتي المقبلة.. منذ ولدت وهو ينظر لي كيتيم محتمل، ويود أن ينفث في روحي تجاربه.. أستمع بنصف أذن وبنصف عين أتأمله.. طويلا منهكا له صلعة توحي بالحكمة وملامح حفرتها الأيام.. وجه قاضٍ شاهد الجانب الأسوأ من العلاقات الإنسانية.

الجو صيف، والعرق ينحدر على جبينه ويتسلل لعينيه، برغم هذا كان يتكلم.. يهديني الحكمة مقطرة، الحكمة التي لا أريدها.. هو ينتمي إلى عالم آخر وجيل مختلف.. أما عالمي فمنسجم بالكامل مع أصدقائي.. يفهم بعضنا البعض بدقة ونحزن لنفس الشيء ونضحك لذات النكات.. أما حكم الآباء فتدخل أذنا وتخرج من الأخرى دون أن تعلق بالذاكرة.. لذلك تجدني الآن عاجزا عن الفهم.. لماذا أنه قال لي: "الرجل يبقى في كامل قوته حتى يبلغ الخامسة والأربعين، بعدها يتدهور بسرعة"!!

ما مناسبة هذه الجملة ولماذا قالها؟، صدقوني لا أتذكر.

...........

25 أكتوبر 2007

يوم ليس كسائر الأيام، على الأقل بالنسبة لي، اليوم تحققت نبوءتك يا أبي وبلغت الخامسة والأربعين.. هل تصدق أن صغيرك صار يحمل فوق كاهله كل هذه السنين؟.. ينتشر في رأسه الشعر الأبيض وفي قلبه حزن مميت!!.. حينما قلتها لم تهتز مني شعرة فقد بدت الخامسة والأربعين أبعد من آخر كوكب في المنظومة الشمسية.. من بلوتو الذي طردوه بقسوة وكأنه لا يكفيه أن يمضي ملايين السنين باردا تعيسا مظلما في أبعاده السحيقة لا يصله ضوء الشمس قط.

كيف تمر الأعوام بتلك السرعة الخارقة؟ هذا هو السؤال المهم.

زمان كنت أقرأ قصيدة "كامل الشناوي" وأترنم "عدت يا يوم مولدي/ عدت يا أيها الشقي/ الصبا ضاع من يدي/ وغزا الشيب مفرقي/ ليت يا يوم مولدي/ كنت يوما بلا غد".. أقوم بقراءتها بإعجاب ولا أصدق أني سأكون مكانه يوما.. أبلغ بعد طرفة عين هذا الرقم العجيب 45، يبدو موسيقيا، مميزا، حزينا.. أبلغه دون أن أكتسب حكمة الأيام/ راحة البال/ سكون النفس.. وكأنه لا يتبقى من مرور الأيام إلا حسرتها.. وقتها لم أكن أصدق أنني سأكبر.. وحتى لو سلمت فإن هذا سيحدث بعد ملايين السنين.

لم أكن أعلم، لم أكن أفهم أن الأيام تمر سراعا وكأن وحشا يطاردها.. وكأنها تتعجل بلوغ غاية مجهولة.. تحن إلى ذرة الكربون المحايدة.. إلى الحالة الأولى التي كنا عليها في عالم الذر قبل الخلق.

خمسة وأربعون عيد ميلاد.. خمسة وأربعون تورتة.. في البدء كان عدد الشموع محدودا وتكفي نفخة واهنة لإطفائها.. بالتدريج صارت تتكاثر عاما بعد عام، وفي كل مرة أبذل جهدا أكبر لإطفائها.. تحتل حيزا أكبر من التورتة وكأنها تملك حياتها الخاصة المستقلة.. ثلاثون شمعة.. خمسة وثلاثون شمعة، كلها تتوهج، كلها تتراقص.. أربعون شمعة.. الشمع يتسلل إلى عالمي في بطء وتصميم.. ولم يعد ممكنا -مهما تنهدت!!- أن أطفئه.. شمع شرير يحرقني ويفترس عالمي.

أواه يا أبي!!
فاتك أن تخبرني بأن العمر حرامي والسنين غادرة والخمسة والأربعين عاما طرفة عين.. من أخبر الأرض بأن عليها أن تدور بسرعة؟ من طلب منها ذلك؟.. يتعاقب الليل والنهار، ويكر الشهر وراء الشهر والعام وراء العام، يختبئ الشيب في شعري منذ ولادتي والحزن في قلبي وأغرق في أحلام مزيفة.. أولد في الفجر، أتعلم المشي عند الشروق، وأمارس العشق قرب الضحى، أركض عند الظهيرة بأشواق مجنونة حتى يدركني التعب، وحينما أغفو قليلا وقت الأصيل أجد شمس عمري تنحدر نحو المغيب، ثم لا شيء.. أيها الليل القاسي، الممعن في ظلمه وظلمته أين قمرك؟ أين نجومك؟

ملمس الهواء الرطيب لوجهي في الصباح الباكر في طريقي للمدرسة حقيقة أم وهم؟، رائحة ساندويتشات الجبن في حقيبتي، هلعي من المعلم الغاضب، بهجة الفسحة، وعودتي للبيت في الطرقات المبتلة بالمطر المنهمر وثمرات البرتقال المغسول على العربات الخشبية، وأحذيتنا الموحلة تتورط أكثر وأكثر في الطين، ثم عتاب أمي وحسائها الساخن قبل أن أندس تحت اللحاف البارد. هل حدث هذا كله أم لم يحدث؟.

أيام الكلية وعذاب الحب الأول، لقاء الأصدقاء، وتعاقب الصيف والشتاء.. تخرجنا، حفلات زفاف أصدقائنا، ورقصنا المحموم حولهم في دائرة.. يتزوج الواحد تلو الآخر حتى أفقنا يوما فوجدنا كافة الأصدقاء تزوجوا.. صاروا من جيل الآباء. لم أفطن أني كبرت حقا إلا حينما ذهبت لحفل زفاف ابنة أختي وكانت المفاجأة أن أصدقاء العريس يمارسون نفس طقوسنا.. يرقصون كما كنا نرقص، يضحكون كما كنا نضحك، تعلو أصواتهم بالغناء، ويحملون وجوهنا النضرة -التي لا أدري كيف انتقلت إليهم؟- وابتسامات غافلة عن المصير المنتظر.. القادم حتما بلا إبطاء.. في غمضة عين يصبحون الجيل الماضي، الزمان المنصرم.

..........

واليوم أغني بصوت محشرج
"عدت يا يوم مولدي..
عدت يا أيها الشقي..
الصبا ضاع من يدي
وغزا الشيب مفرقي".

..........

25 أكتوبر 2007
خمسة وأربعون عاما!!

..........

ليت يا يوم مولدي
كنت يوما بلا غد..........

..........

<!-- InstanceEndEditable -->
MohamedYahya578

Acc. Mohamed Yahya Omer Egypt , Elmansoura ,Talkha

  • Currently 93/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
31 تصويتات / 196 مشاهدة
نشرت فى 1 نوفمبر 2007 بواسطة MohamedYahya578

MOHAMED YHYA OMER

MohamedYahya578
وارحب بكل من يزرو هذه الصفحة واتمنى ان ينتفع بما فيه من معلومات »

أقسام الموقع

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

223,507