يشير أغلبية المؤرخين إلى الرابع من أكتوبر 1957، باعتباره يومًا مشهودًا في سجل الحرب الباردة، إذ أن الاتحاد السوفيتي أطلق قمره الصناعي الأول (سبوتنيك 1) ليبدأ سباق الفضاء بينه وبين غريمته اللدود، الولايات المتحدة..
ويرجع مصطلح (سباق الفضاء) في الأصل إلى التنافس الذي دار بشكل احتكاري بين السوفيت والأمريكيين لاستكشاف وارتياد الفضاء خلال الفترة بين (1957 – 1975)، والبعض يمدها إلى 1991، أي عند سقوط الاتحاد السوفيتي. وهذا السباق يحمل في خضمه أهمية التسليح العسكري للدولتين، بالإضافة إلى الدعاية عن مدى تقدم تكنولوجيا كل دولة في إطار سعي كل منهما إلى جذب معجبين ومريدين لأيديولوجيتهما..
قد نفهم أهمية سباق الفضاء في دور الدعاية ونشر كل قوة "للبروباجاندا" الخاصة بها، لكن دوره في التسلح العسكري كان بالغ الأهمية، الأقمار الصناعية كان غرضها التجسس بقدر أكبر من البحث العلمي وهو الغرض المعلن، وسباق الفضاء قام بأكمله على علم الصواريخ وهو مفتاح الردع المتبادل بين الدولتين، لأن الصواريخ هي القادرة على حمل الرءوس النووية وضرب الدول المعادية، وكلما زاد الإنفاق العسكري على تطوير صواريخ قادرة على الوصول إلى الفضاء، عزز ذلك قدرة الدولة على الوصول إلى الخصم وسحقه في لحظات..
تسايولكوفسكي
جذور هذا العلم قديمة للغاية، الصينيون في القرن الحادي عشر حاولوا تطوير القذائف على شكل صواريخ، ولا ننسى أن لهم فضلا في اختراع الألعاب النارية. أما الشكل الحديث للصواريخ فقد بدأ من نظريات العالم الروسي "تسايولكوفسكي" Tsiolkovskyفي أواخر القرن التاسع عشر، وبعدها صمّم العالم الأمريكي "جودّارد" Goddard فعليًا أول صاروخ يعمل بالوقود السائل في 1926، ولم ينل إلا سخرية الوسط العلمي والصحف، لكن الحكومة الأمريكية عضت أصابع الندم لأنها لم تهتم بهذا العلم الوليد، وتركت الأسبقية فيه لألمانيا النازية التي أذاقت الحلفاء الويل خلال الحرب العالمية الثانية بسبب صواريخها، خاصة مع عالمها العبقري "فون براون" Von Braun والذي أسهم في تطوير صواريخ V-2 والتي استطاعت الوصول إلى ارتفاع يناهز 100 كم ولم تتردد أمريكا بعد انتهاء الحرب في أسر العديد من علماء الصواريخ النازيين وعلى رأسهم "براون" نفسه والذي قاد المشروع الأمريكي لارتياد الفضاء..
لكن ذلك على ما يبدو لم يكن كافيًا، لأن هناك عالما سوفيتيا عبقريا هو الآخر في علم الصواريخ ويدعى "سيرجي كورولوف" Sergei Korolev، استطاع تحقيق الريادة لبلاده وأسهم في إطلاق أول قمر صناعي حول مدار الأرض، (سبوتنيك 1)..
سيرجي كورولوف
هذا القمر صغير الحجم -قطره 58 سم ووزنه 84 كجم- وعلى الرغم من مهمته العلمية المتعلقة بدراسة الجاذبية الأرضية وطبقات الجو العليا، إلا أنه أحدث صدمة هائلة وعميقة في الأوساط العسكرية والثقافية الأمريكية، إلى درجة أنه تم تعديل المناهج الدراسية والتعليمية كي تشجع مواهب الأطفال وتخرج عباقرة في علم الصواريخ. لقد صار سباق الفضاء تحديًا ملزمًا للحكومة الأمريكية خلال حقبة الحرب الباردة إلى درجة الوعد الصريح من الرئيس "جون كينيدي" لشعبه بأن قبل نهاية عقد الستينيات سيكون أول من يهبط على سطح القمر رجلا أمريكيًا، وهذا ما تحقق فعلا فيما بعد، لكن الأثر الأكبر للقمر الصناعي السوفيتي هو إنشاء (الإدارة الوطنية للطيران والفضاء) the National Aeronautics and Space Administration أو NASA..
من ضمن أهم إنجازات هذه الوكالة أن أطلقت سلسلة من سفن الفضاء التي لا تحتوي على بشر unmanned، بلغت نحو 55 رحلة سُميت بالمستكشف Explorer، وأشهرها Explorer 1 والتي تم على أثرها استكشاف (حزام فان آلين الإشعاعي)، وExplorer 53 والتي بحثت في مصادر أشعة إكس وأشعة جاما ضمن مجرتنا (درب التبانة)..
من المهم كذلك أن نعرف مصطلح (المدارات المتزامنة)، وهي المدارات التي توضع عليها أقمار الاتصالات والبث التليفزيوني والإذاعي، وتقع على بعد 36 ألف كيلومتر من سطح الأرض، بحيث يدور القمر دورة واحدة حول الأرض كل 24 ساعة "متزامناً " مع دورتها، وبالتالي يبدو القمر وكأنه ثابت في السماء عند نقطة معينة، لكنه في الواقع يدور مع دوران الأرض بالتزامن. وأول قمر صناعي تم إطلاقه إلى هذا الارتفاع كان Syncom-2 وذلك في عام 1963، وبالتالي أصبح بمقدور المواطن العادي أن يلتقط البث التليفزيوني عبر مثل هذه الأقمار، وهو بمثابة فاتحة كبرى في مجال الإعلام والحجر الذي دشن بناء عصر القنوات الفضائية..
لكن الوكالة أيضًا برعت في مجالات تتركز على محاولة إطلاق كائنات حية ورواد فضاء إلى الفضاء وإنزالهم على أجرام سماوية أخرى، وهو فرع آخر مختلف ضمن هذا السباق الفضائي العظيم..
بشر في الفضاء
هناك خطأ شائع بأن الكلبة السوفيتية (لايكا) هي أول حيوان صعد إلى الفضاء space، فهي في الواقع أول من صعد إلى مدار orbit الأرض، أما أول كائن حي صعد إلى الفضاء، فقد كان (ذبابة الفاكهة)، وذلك بفضل جهود العلماء الأمريكيين عام 1946، أي قبل ولادة (ناسا) باثني عشر عاماً كاملة!
الكلبة لايكا أول كائن حي يصعد إلى مدار الأرض
لكن لا يهم لمن الأسبقية، فقد كانت الصفعات السوفيتية تتوالى على الكرامة الأمريكية، ففي الثالث من نوفمبر عام 1957 تم إطلاق (سبوتنيك 2) أي بعد شهر تقريبًا من إطلاق توءمه الأول، وحملت هذه السفينة الكلبة "لايكا"، التي توفيت بعدها بفترة قصيرة نتيجة الضغط والحمى، وتلا ذلك الرحلات السوفيتية القمرية (لونا -1) و(لونا -2) أما (لونا – 3) فقد صورت الجانب المظلم من القمر الذي لا نراه..
ثم كانت الصدمة الكبرى عام 1961، أول رجل يصعد إلى الفضاء ومدار الأرض كان سوفيتيًا! البطل "يوري جاجارين" الذي استطاع أن يرى الكرة الأرضية من خلال سفينة الفضاء (فوستوك – 1) ويدور حولها لمدة 108 دقيقة، محققًا واحدًا من أقدم وأعظم أحلام الإنسان، الصعود إلى الفضاء. ولا يزال يوم رحلته إلى الآن، الثاني عشر من أبريل، يومًا وطنيًا وإجازة رسمية في روسيا وغيرها من الدول..
أليكسي ليونوف
وعلى الرغم من أن رائد الفضاء الأمريكي "جون جلين" استطاع أن يتفوق على هذا الإنجاز عام 1962 بأن يدور حول الأرض ثلاث مرات، إلا أن التفوق السوفيتي ظل سائدًا حتى نهاية عقد الستينيات، أول رائدة فضاء هي سوفيتية "فالنتينا تيريشكوفا" Tereshkova، وذلك عام 1963، أول سفينة فضاء تضم طاقمًا كاملا من رواد الفضاء كان سوفيتيًا، أول رائد فضاء استطاع أن يخرج من مركبته ليخطو أول خطوة في الفضاء كان "أليكسي ليونوف" Leonov عام 1965، وكذلك نجحوا خلال الستينيات في إطلاق عدد من الرحلات الناجحة إلى كوكب الزهرة سُميت (فينيرا VENERA)، وقامت إحداها بأول هبوط على كوكب الزهرة، و(مارس – 2) استطاعت أن تهبط لأول مرة على سطح كوكب المريخ عام 1971. كان التفوق السوفيتي الفضائي هائلا وكان الأمريكيون قادرون بالكاد على متابعته.
لكن عام 1969، حمل صدق وعد الرئيس "كينيدي" لشعبه، إذ أن أشهر رحلة عرفها الكوكب (أبوللو – 11) قامت بحمل ثلاثة رجال فضاء، "مايكل كولينز" قائد السفينة، "باز ألدرين"، وزميلهما الشهير "نيل آرمسترونج" والذي سجل أول خطوة للإنسان على سطح القمر، وقام مع زميله "ألدرين" بتثبيت أجهزة علمية والعلم الأمريكي، وجمعوا عينات من صخور وتربة القمر لمدة ساعتين و32 دقيقة، قبل أن يعودا مجددًا إلى السفينة.
على كل حال، فقد أنهت هذه الرحلة سباق الفضاء بشكل غير رسمي، تحققت أعظم أحلام الإنسان، وخفت وتيرة الحدة بين الاتحاد السوفيتي والأمريكيين، ولا ننسى هنا أن هذا لم يأتِ إلا نتيجة سياسة الانفراج بين الزعيمين "نيكسون" و"بريجينيف" في أوائل ومنتصف السبعينيات، حتى كانت النهاية التامة في يوليو 1975، إذ أن آخر رحلة من (أبوللو) التحمت مع السفينة السوفيتية (سويوز soyuz) وقام رواد الفضاء من كلا البلدين بالعبور إلى سفينة البلد الآخر وتبادل الخبرات والتجارب، وصار صعود الفضاء أمرًا اعتياديًا ولم يعد سباقًا، خاصة مع اشتراك دول أخرى في ارتياد الفضاء، وأولها تشيكوسلوفاكيا عام 1978 عندما صعد أول رجل غير أميركي وغير سوفيتي "فلاديمير ريميك" Remek إلى الفضاء، لكن أول سفينة فضاء يقودها بشر، كانت صينية وذلك عام 2003..
الفضاء منذ 1975 وحتى الآن
شهد الفضاء غزوًا جديدًا من نوع آخر من المركبات، وهو المكوك الفضائي Space Shuttle إذ يمكن إعادة استخدامه وذلك لنقل البشر والحمولات بين الأرض والمحطات الفضائية أو الأقمار الصناعية، وأول جيل منها كان مكوكا أمريكيا وتم إطلاقه عام 1981، ولم ينجح السوفيت في اللحاق بهم إلا عام 1988 عن طريق المكوك (بوران Buran)..
كذلك في عام 1983 عاد الفضاء ليكون مجال تسليح عسكري، وذلك بتوقيع الرئيس "ريجان" لمبادرة الدفاع الاستراتيجية Strategic Defense Initiative أو ما عُرف باسم (حرب النجوم) تيمناً بسلسلة أفلام "جورج لوكاس" الشهيرة، وذلك لاستخدام المحطات/القواعد الفضائية الأمريكية من أجل حماية الولايات المتحدة من الصواريخ الباليستية التي تحمل رءوساً نووية..
حدثت كذلك في عام 1986 كارثة كبيرة في مجال الارتياد الفضائي، إذ تحطم مكوك الفضاء الأمريكي (Challenger) أثناء إطلاقه في مهمته العاشرة، وذلك بعد 73 ثانية فقط من عملية الإطلاق، وقُتل جميع ركابه السبعة، وهي كارثة تحاول السينما الهوليوودية رصدها وتخليدها من خلال فيلم يحمل نفس اسم المكوك يتم تصويره ليُعرض 2008 وإخراج "فيليب كوفمان" أما البطولة فلـ"ديفيد ستراثيرن" والذي يتذكره جميع عشاق فيلم (Good Night and Good Luck)، لأنه لعب دور "إدوارد مورو"..
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، صار الفضاء مفتوحًا للتجارة والاستثمار الرأسمالي، إذ أن برنامج الفضاء الروسي صار يسمح للمستثمرين بجولة في الفضاء والدوران حول الأرض، وذلك مقابل مبلغ يعادل نحو 20 مليون دولار أمريكي، وقد قام رجل الأعمال الأمريكي "دينيس أنتوني تيتو" بالدوران حول الأرض 128 مرة عبر المركبة (Soyuz TM-32) الروسية، وإذا كنت تفكر يا عزيزي القارئ بالذهاب أنت الآخر، فلن تستطيع للأسف حتى لو تمتلك هذا المبلغ؛ لأن الرحلات كلها تم حجزها حتى 2009!
كذلك أعلن الرئيس "بوش" في 2004 جدول إطلاق المركبة (أورايون) والتي كانت تعرف بمركبة الطاقم الاستكشافيCrew Exploration Vehicle، حيث إن هذا النوع من المركبات سيحل بديلا عن المكوك الفضائي والذي سيتوقف عمله عام 2010، بل وستكون عنصرًا رئيسيًا في استكشاف القمر والمريخ بعد 2015، وهذا يأتي بالتزامن مع جهود وكالة الفضاء الأوربية ESA والتي تسير جهودها في نفس الاتجاه تقريبًا، مع فارق أن الأوربيين يستعينون بالجهود والخبرات الروسية في هذا المجال..
على الرغم من غرور البشر والذي صوّر لهم أن التنافس بين أيديولوجياتهم على الأرض قد يتسع ليشمل الفضاء، فقد أثبت الفضاء أنه أكثر رحابة واتساعًا لتقبل استكشافه وارتياده من جميع الأجناس وأيًا ما كانت الأيديولوجية..