معنى الالتفات في الاصطلاح:
ومعناه في مصطلح علم البلاغة هو العدول من أسلوب في الكلام إلى أسلوب آخر مخالف للأول... وهذا من أعم التعريفات وأخصرها، وعرفه قدامة، فقال: هو أن يكون المتكلم آخذا في معنى، فكأنه يعترضه إما شك فيه أو ظن بأن رادا يرد عليه قوله، أو سائلا يسأله عن سببه، فيعود راجعا على ما قدمه، فإما أن يؤكده أو يذكر سببه
وأما الزمخشري، فكان له في الالتفات رأي ، حمله من بعده كثير من المفسرين والبلاغيين ورددوه، نورد هنا جزءا منه، يتناسب وما نحن فيه، فإن قلت لم عدل عن لفظ الخطاب، قلت هذا يسمى الالتفات في علم البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم.
وأرى من مجموع هذه التعريفات وغيرها أن الصفة العامة التي تشترك فيها هي العدول عن كلام إلى غيره، أو هو الخروج عن كلام منتظم إلى غيره، وهذا ما مثله الالتفات في السورة،فهو قد نفى الرتابة عن النص وخرج به من نسق إلى نسق.
وهذا ما دعته الدراسات الأسلوبية الحديثة انحرافا، والنتيجة الطبيعية التي ترتبت على ذلك هي النظر إلى الأسلوب الأدبي باعتباره انحرافا عن الأسلوب المعياري، من حيث أنه منبه متميز يحدث استجابة متميزة، ولقد شاعت عبارة "فاليري" التي قال فيها إن الأسلوب هو في جوهره انحراف عن قاعدة ما، وشاركه في ذلك الرأي كثير من النقاد ودعوا إلى ضرورة أن يتعود الباحث تماما على قاعدة أولا، حتى يتمكن من اكتشاف الانحرافات المتفرعة عنها.
ولم يكتف أصحاب هذا المنهج بعدّ الانحرافات وبيانها، ولكنهم كشفوا عن القصد من ورائها، وهذا ما سنراه حين التعرض لموضوع الالتفات، وأغراضه التفصيلية في السورة.
الالتفات في السورة:
لم يقطع هذا الأسلوب، الذي ظهر في السورة، صلته بالالتفات بوصفه أسلوبا من أساليب العرب والعربية، ولما كان الأمر كذلك، فلا مندوحة لنا من التعرض لخصائص الالتفات، بوصفه أسلوبا يرمي إلى لفت انتباه السامع، وجذبه إلى النص، حتى يغدو مكونا من مكوناته، بما يلتحم معه ويندغم فيه، وقد تنبه إلى ذلك البلاغيون والمفسرون وهم يتذوقون آيات القرآن الكريم.
وقد تعرض حازم القرطاجني لأثر الالتفات العام فقال: وهم يسأمون الاستمرار على ضمير المتكلم أو ضمير مخاطب، فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة، وكذلك أيضا يتلاعب المتكلم بضميره، فتارة يجعله تاء على جهة الإخبار عن نفسه، وتارة يجعله كافا، فيجعل نفسه مخاطبا، وتارة يجعله هاء، فيقيم نفسه مقام الغائب.
فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير المتكلم والمخاطب لا يستطاب، وإنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض، وهو معنوي لا لفظي، وشرطه أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى الملتفت عنه.
ولم يبتعد المحدثون كثيرا عن آراء البلاغيين العرب، فقد نقل لنا الدكتور صلاح فضل رأيا ل"شلوفسكي" يقول فيه: عندما نختبر القوانين العامة للتلقي نجد أنه في الوقت الذي تصل فيه الأفعال إلى أن تصير عادة تتحول إلى الآلية، هذه الآلية المتولدة عن التعود هي التي تحكم قوانين خطابنا النثري.
وقد أدلى الدكتور محمد مفتاح برأي مماثل فقال: واللغة الأدبية: تحرير من الآلية؛ لأنها ترتكز على مجموعة من الاحتمالات السياقية المنتظرة، ومدى وقوع ما يتوقعه المتلقي.
وقد جاء الالتفات في السورة، في كل مرة، بعد حدوث النسق وانتظامه، فحدثت حينها المغايرة.
أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب:
لا يعزب عن الذهن أن أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، يوفر جو المواجهة والصراحة، ويجلي مادة الخطاب ويعلي من شانها، ويبث فيها الحياة، كما يضفي عليها الراهنية، وهو أسلوب يقصر المسافة بين المرسل والمستقبل ويحصرها...
جاء ذلك في قوله تعالى: (فاتقون)، بعد أن كان الخطاب جاريا على طريق الغياب: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده)،
وهنا سؤال ، وهو ، لماذا تم الالتفات في هذا الموقع؟
ولماذا حصلت المغايرة بين قوله: (ينزل الملائكة) وقوله: (فاتقون)؟
وتكمن الإجابة في خصوصية أسلوب الالتفات، وفي التباين القائم بين الموضوعين، فالأول أمر عقدي، وإنزال الملائكة وما تبعه فعل لله، يتبعه إيمان، والإيمان شأنه الرسوخ والاستقرار في القلب...
وأما مادة (فاتقون) فهي من الأحكام التكليفية العملية، ومحلها الجوارح، وشأنها الظهور والانكشاف والحضور، وثمة تباين واختلاف بين شكل الخطاب في: (لا إله إلا الله)، التي جاءت على طريقة الخبر، وشكل الخطاب في (فاتقون) التي جاءت على طريقة الطلب، وقد فرق الرازي بين الأمرين قائلا: فاعلم أن النفس لها قوتان، إحداهما: استعدادها لقبول صور الموجودات من عالم الغيب، وهذه القوة المسماة بالقوة النظرية، وسعادة هذه القوة في حصول المعارف، وأشرف المعارف وأجلها معرفة أنه لا إله إلا هو، وإليه الإشارة بقوله: (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا)، والقوة الثانية للنفس: استعدادها للتصرف في أجسام هذا العالم، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة العملية، وسعادة هذه القوة بالإتيان بالأعمال الصالحة، وأشرف الأعمال الصالحة هو عبودية الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: (فاتقون)، لكنه كما نرى لم يفسر سبب تقمص كل موضوع شكلا لغويا ونمطا أسلوبيا مغايرا للآخر. وقد أثبت حصول الالتفات في هذه الآية أبو السعود، فبين أنه"خطاب للمستعجلين على طريقة الالتفات".
وحين يريد القرآن لأمر أن يتم، أو يمتثل،فإنه يوجه الخطاب إلى المكلف صريحا وواضحا، مراعيا بذلك الفروق في مستويات المتلقين، جاء ذلك في قوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال..)، وذلك بعد نص جرى على طريقة الغياب."وهذا الالتفات إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي".
وهذا يذكر بطبيعة النص القرآني وغايته، وهو جعل آيات الأحكام صريحة واضحة، مع غنى دلالاتها وكثافة عباراتها، وقد أفاد الالتفات المعنى في تتمة الآية: (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون)، وعززه، لأن طرح هذه الفكرة إلى الناس يستأهل المواجهة، لما لطبيعة الإنسان من اعتداد بعلمه وصعوبة اعتراف المرء بجهله، وإن كان.
ويوصل الالتفاتُ إلى المخاطب النصَّ (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا...) إلى الذروة، وذلك بما يوفره هذا الأسلوب من مواجهة ومباشرة، وقد تحدث المفسرون عن هذا الأسلوب، عند تعرضهم لتحول النص إلى الخطاب في سورة الفاتحة، فقال البيضاوي: "ثم إنه ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام، تميز بها عن سائر الذوات، وتعلق العلم بمعلوم معين، خوطب بذلك، أي يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة، ليكون أدل على الاختصاص، وللترقي من البرهان إلى العيان، والانتقال من الغيبة إلى الشهود، فكأن المعلوم صار عيانا، والمعقول شاهدا والغيبة حضورا...".
وصرح أبو السعود بهذه المرتبة التي وصل إليها النص بالالتفات، فقال: "(فتمتعوا) أمر تهديد والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط"
ولا يخفى أن توجيه الإهانة والتقريع للإنسان في وجهه أشد إيلاما عليه، وأكثر استصغارا لشأنه من رميه بها غائبا، وعلى هذا جاء قوله تعالى: (تالله لتسألن عما كنتم تفترون)، بعد قوله تعالى: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم)، ولهذا أثر نفسي بالغ.
أسلوب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:
يقصي الالتفات في قوله: (فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون)، المشركين وشركهم عن المشهد، ويغيبهم عن الذهن، ويجنبهم الفاعلية والمشاركة، "والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم لغيرهم"
وتلك الدلالات آتية من طبيعة ضمير الغياب، ومن السياق الذي توافق معها، بل إنه عززها"...ولقد شهد بسداد الاستعمال النحوي العربي ودقته بعض اللسانياتيين الغربيين، فذهب إلى أن هذا الضمير (الغائب) يحيل على شيء خارج الجملة، وأنه لا يعتزي إلى شخص بذاته وإنما يعين الشخص الغائب" وربما أشار الالتفات في قوله تعالى: (...فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه)، إلى تباين جهتي الإحداث في كل من اتخاذ البيوت وأكل الثمرات وسلوك السبل من جهة، وخروج العسل من بطونها من جهة أخرى، فالنص سمح بإسناد تلك الأُوَل إلى النحل، ولكنه لم يسمح بإسناد إخراج العسل إليه، وهذا يكشف عن أن أعمال النحل بمعزل عن إخراج العسل بذاتها.
وقد شكل الالتفات مفصلا مهما، وتحولا واضحا بين منحيين مختلفين وحقلين متغايرين يلتقيان عند هذا الالتفات وينفصلان، ذانك هما حقل النحل وعالمه وأسراره، وحقل الإنسان وإفادته من ذاك النشاط، إفادات مادية وأخرى معنوية.
أحدث الالتفات في قوله سبحانه: (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحد فإياي فارهبون)، اختلافا في الدلالة، تبعا لاختلاف الموضوعين في كل حالة، ففي حالة الغياب، كان الموضوع الإيمان والاعتقاد، وهو أمر مستكن في القلوب، ذاهب في النفوس كل مذهب، وفي حالة العمل، الذي شأنه الدوام والاستمرار والتجدد،كان أسلوب التكلم، وتبدو العلاقة بين الحالتين وثيقة، والصلة بينهما هي صلة الفرع بالأصل. ولأن الأفعال مظنة التراجع ومحتملة للتقطع أو التقصير والتهاون جيء لها بضمير المتكلم الذي يشعر بالسطوة والحضور: "(فإياي فارهبون) نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم، وجاز لأن الغائب هو المتكلم، وهو من طرق الالتفات، وهو أبلغ في الترهيب من قوله وإياه فارهبوه" إذ الغاية منه الالتفات من الغيبة إلى التكلم لتربية المهابة وإلقاء الرهبة في القلوب"
و"لما ثبت أن الإله واحد، وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله، فحينئذ ثبت أنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام،فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور ويقول: (فإياي فارهبون)"
أفاد الالتفات إلى التكلم في قوله تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا..) أعلى درجات التوكيد والتوثيق، وأضفى على قلوب المخاطبين طمأنينة ورضى؛ ذلك لما في أسلوب التكلم من الله من الخصائص، و"فائدة الالتفات إلى التكلم في هذه المواضع التنبيه على التخصيص بالقدرة"، فهم من مجموع ذلك أن الله لا يكون متكلما، إلا في موضوع عالي القدر، سني الدرجة، فيوليه عنايته، ويطلق ذلك للناس.
لا شك أن الالتفات إلى التكلم في قوله تعالى: (آتيناه في الدنيا حسنة) قد دل على إظهار الاهتمام والتكريم لإبراهيم، عليه السلام، "والالتفات إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانه، عليه الصلاة والسلام " غير أنا قد نلتمس سببا آخر لهذا الالتفات، وهو مستند إلى تفسير(حسنة) و"هي تنويه الله بذكره، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه"
وبذا تظهر المغايرة بين أسلوب الغيبة الذي اقترن بأمور أنجزت وأسلوب التكلم الذي ارتبط بأمر ما زال مستمرا وقائما، فما زال ذكر إبراهيم عليه السلام شائعا ومتميزا على ألسنة أهل هذا العصر، كما كان في كل عصر، وسيبقي كذلك في كل عصر.