مال البخيل للمحتال

 

 

كثيرون هم المحتالون الذين شهدتهم الدول العربية في السنوات الماضية يتناوبون على المتعاملين في السوق أو من أصحاب المدخرات المتواضعة الطامعين بعوائد تفوق ما تعطيه البنوك أو الاستثمارات المعقولة. فبعد الريان في مصر ونبيل البوشي في دبي وخليفة الجزائري، ممن استولوا على مئات ملايين الدولارات من أموال الناس الذين تقتلهم شهوة الإثراء السريع، فإن المحاكم الأردنية تنشغل الآن بقضية لا تقل مأساوية.. آلاف العائلات باعت أراضيها ومصاغها وأعطتها لتجار البورصة الوهمية، بوعود الحصول على عوائد تصل إلى 20% أو 30%، وكانت النتيجة أن هذه المدخرات ضاعت ما بين الطماعين والمحتالين. فالبخيل الذي يقتله الجشع ليس اسهل من ان يجد في طريقه محتالا ذكيا يشم رائحة الطمع فينصب الافخاخ لهذه الفرائس السهلة. وحين يقع المحتال في أيدي القضاء، تكون الأموال المنهوبة ضاعت والمأساة عريضة.. والقصص في ذلك بكل الالوان واللغات.
يوم الثلاثين من الشهر الماضي، وهو يستمع إلى قرار إحدى محاكم نيويورك بسجنه 150 عاماً عن 11 تهمة احتيال كبدت آلاف الأشخاص والمؤسسات خسائر بحوالي 65 مليار دولار، لم يجد رجل الأعمال الأميركي برنارد مادوف كلمة يختصر فيها اقترافه لأكبر عملية احتيال في التاريخ سوى أن يقول للذين خدعهم: «أنا آسف!..وإنْ كنتُ أعرف أن هذا الأسف لن يفيدكم بشيء».
هذا بالضبط هو الذي قالت فيه الأمثال: «المحتال أكل مال الطماع». فقد عمل مادوف فترة طويلة مديراً لبورصة ناسداك الأميركية، وظيفة منحته بالإضافة الى شبكة المعارف والعلاقات الواسعة مع البنوك وصناديق الاستثمار، خبرةً عميقةً في التقاط علامات الجشع التي تنز من بعض أوساط مجتمع الأعمال، حيث البخل يدفع صاحبه للبحث عن الاموال السهلة، بحثا يعمي بصيرته ويدفعه لتصديق ما لا يقبله العقل. وحين يلتقي المحتال مع البخيل الجشع في بيئة عمل فالتة، فإن أبواب النصب تنفتح ولا يحدّها سوى الذكاء...مادوف كان ذكياً حتى العظم وحتى النهاية.
فقد أنشأ مادوف شركة خاصة لإدارة الأصول تستقطب المحافظ الباحثة عن فرص استثنائية، وأغراها بمعدلات فائدة تكسر المألوف المنطقي، بحجة أنه يملك الخبرة والعلاقات الخاصة. كان يعطي لزبائنه القدامى فوائد عالية من الودائع والمحافظ الجديدة التي ظلّت ترده في أيام الوفرة. حتى إذا انفجرت الأزمة العالمية في الربع الأخير من العام الماضي وانهارت قيم الأصول وجفت المحافظ المرعوبة وتعثرت دورة الأموال في أسواق الأسهم، انكشف الرجل الذي كان يدير امبرطورية من الوهم بمساعدة ثلاثة فقط هم زوجته وسكرتيرته والمحاسب. وفي التحقيق معه اعترف بأنه لم يعقد صفقة تبادل أسهم واحدة طوال ثلاثة عقود أدخل فيها لحسابه ببنك تشيزمنهاتن 170 مليار دولار من أموال المستثمرين.
أيّ عبقرية شريرة هذه التي مكنّت رجلاً هادئاَ دمث المعشر أن ينصب على عمالقة الأسواق وعلى نجوم الإعلام والفن في أميركا وأوروبا ولأكثر من ثلاثة عقود متصلّة من دون أن تكشفه رقابة لجنة البورصة؟ مادوف لم يستثن أحداً من شره. فقد احتال على محاميه ونصب على أموال المؤسسات الخيرية اليهودية من أبناء دينه، وعلى شخصيات من ملته الموصوفين بالجشع، إلى درجة أن صحيفة يديعوت احرونوت الإسرائيلية قالت ان «مادوف أصاب إسرائيل بأضرار تفوق التي أوقعتها بهم حماس». وحتى عشيقته السابقة لم تفلت من حبائل مادوف. وعندما أفاقت سكرتيرته من صدمة انكشاف امبرطورية الكذب في ديسمبر الماضي، لم تستطع أن تفسر كيف استطاع هذا الشيطان العبقري أن يجعلها تعيش 25 سنة في مكتب مجاور له من دون أن تكتشف حقيقته.
قائمة الجشعين الذين أكل المحتال أموالهم، مذهلة في احتوائها على أسماء من كبريات الشركات والبنوك الدولية والعربية التي طالما كانت توصف بالذكاء والحرفة وبالقدرة على صناعة الأسواق. وتكتمل حلقة الاحتيال الجهنمية في حيثيات المحكمة، حيث ظلّ الرجل يصر حتى النهاية أن زوجته التي عاشت معه خمسين سنة لم تكن تعرف حقيقته، وكذلك أبناؤه الذين ادعى أنهم لم يكتشفوا والدهم إلا عندما أخبرهم هو نفسه بأن كل ما يفعله «بونزي» أي منظومة احتيال متقنة. القاضية في المحكمة لم تقتنع بأن مادوف كان يعمل منفرداً كل هذا الوقت، لكنها لم تجد دليلا على ذلك. وأقصى ما فعلته المحكمة مع زوجته أنها خصصت لها 2.5 مليون دولار فقط من إجمالي الثروة المنهوبة، ورفضت ان تعطيها معطف الفرو الذي طلبته قبل ان تغادر الشقة المحتجزة.
وهي تغرم مادوف 170 مليار دولار، أي أكثر من ضعفي المبالغ المسروقة فعلاً، كانت المحكمة تترك المجال مفتوحا لمصادرة أي أموال جديدة تظهر مع الوقت سواء من التي قيل أنه تركها لعائلته أو من التي أودعها في بعض البنوك الأفريقية الصغيرة. وعندما حكمت عليه بـ 150 سنة فقد أرادت أن تجعله قصاصاً يردع الآخرين. لكن المفارقة المذهلة هي أن محكمة نيويورك لم تكد تنتهي من قضية مادوف حتى بدأت محكمة أخرى في تكساس تنظر بقضية مماثلة تماما، بطلها الملياردير ألان ستانفورد الذي احتال بثمانية مليارات دولار وبالطريقة نفسها!!
زمان، كان إذا حصلت جريمة يتلازم فيها الجشع مع الاحتيال، فإن القضاء يطال الاثنين: السارق والمسروق باعتبارهما متواطئين، وذلك على قياس ان الراشي والمرتشي في النار. أما اليوم فإن المحتالين والنصابين الكبار - وما أكثرهم في العالم العربي - يلجأون لبلدان لا يطالهم فيها الانتربول أو أنهم يمضون شهراً في السجن ثم يخرجون سالمين ليبددوا الملايين او المليارات التي اخفوها!

للمزيد قم بزيارت  www.kenanaonline.com/Mobily

المصدر: كتب إبراهيم الإبراهيم
Mobily

للمزيد قم بزيارت www.kenanaonline.com/Mobily

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

210,743