للكلام البليغ مراتب : أعلاها ما يصل إلى حد الإعجاز أو ما يقرب منه ، مما يتبينه الأدباء في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم
ودون ذلك مراتب كثيرة تتفاوت فيها أقدار البلغاء ؛ من الكتاب والشعراء ورجال الأدب والنقد والفصاحة ، وكما يفضُلُ النسجُ النسجَ والصياغة الصياغةَ ، ويعظم الفضل في ذلك ، وتكثر المزية حتى يفوق الشيء نظيره والمجانس له درجات كثيرة ، وتتفاوت القيم تفاوتا شديدا ؛كذلك يفضُلُ بعضُ الكلام بعضا ويترقى منزلةً فوق منزلةٍ لخصائص نصادفها في سياق لفظه ، ودقة معانيه
ونعرف كل هذه الصفات بالنظر في كلام العرب وتتبع أشعارهم ودراسة مزايا القول ويعينك على ذلك الذوق وتنمية مهارته بكثرة الاطلاع وتذوق فنون الأدب ودراسة علوم البلاغة الثلاثة ( المعاني والبيان والبديع ) لتتعرف فيها تلك الخصوصيات التي تكسِبُ الكلام فخامة وفصاحة وجمالا
فعلى الكاتب أن يجعل لكل مقام مقالا ، فيوجز حيث يحسن الإيجاز ، ويطنٍبُ حيث يحسن الإطناب والإطالة ويؤكد في مواضع التوكيد ويقدِّمُ أو يؤخرُ بما يناسب موضوع القول وأهميته ليوفي بغرضه ، فيخاطب الذكي بغير ما يخاطب به الغبي ، ويجعل لكل حال ما يناسبها من العبرات الفصيحة والأساليب المختارة والمعنى المقصود ، وهذا ما يسمى في علم البلاغة تصوير المعنى ومطابقة مقتضى الحال
فإذا قلتَ : ( على الله أعتمدُ ) فقد أردت أن تقصر اعتمادك على الله وحده ، ودللت على ذلك بتقديم ( على الله ) على الفعل ( أعتمد ) ، ولو قلت : أعتمد على الله ؛ لم يكن في قولك ما يدل على قصر اعتمادك على الله ، فإرادة القَصْرِ على أبسط الصور الدالة عليه حالَ دعت إلى تقديم الجار والمجرور على الفعل وهكذا