من أراد أن يقرأ سفر "نشيد الأناشيد" على أنّه كتاب جنسيّ، فليتخطّ فصوله الثّمانية من الكتاب المقدّس، وينسَ أمره. ومن أراد أن يقرأه على مستوى كلمة الحبّ، فليستنر بالحبّ الأزليّ، فيتحرّر عقله وتنفتح بصيرته، على عمق الحبّ الإلهيّ للإنسان.
ولكم  أشفق على أولئك الّذين يخجلون من قراءة هذا السّفر، ولكم أشفق أكثر عليهم، لأنّهم لم يقرأوا سواه. وأتعجّب حين يظهرون هنا وهناك، وينتقدون المسيحيّة بتعالٍ، ويتساءلون كيف يكون هذا السّفر في كتابٍ مقدّسٍ، وكيف يكون هذا كلام الله؟


 أتعجّب لأنّ محور الفكر المسيحيّ، هو الحبّ المطلق. وليس المحور حروف وكلمات صنميّة، يخنقها المعنى الحرفيّ واللّغويّ. وأشفق عليهم لأنّهم لم يروا في الحبّ إلّا الجنس، ولم يفهموا المسيحيّة انطلاقاً من حرّيّة الفكر والرّوح.
لا أحكم على أحد، ولا أسيء إلى أحد، بل أدعو، إلى الحرّيّة الّتي وهبنا إيّاها الله. حرّيّة الفكر والرّوح.  كما أدعو، إلى أن نتعمّق معاً أكثر فأكثر في عمق أعماق المحبّة الإلهيّة، لنفهم المسيحيّة أكثر كفكر إنسانيٍّ، حضاريّ، متجدّد، وليس فكراً مريضاً، يرى حبّ الله من خلال نزواته. قال الرّبّ لبطرس "أنت الصّخرة، وعلى هذه الصّخرة، أبني بيعتي". الله يبني شعبه، وهذا البناء ليس جسديّاً وحسب، وإنّما فكريٌّ، ونفسيّ وروحيّ. أساس هذا البناء الحبّ المطلق، فلا داعي للخوف على البناء. متى حلّت المحبّة، استنارت العقول وانفتحت القلوب، ودخل الجميع قلب المحبّة الإلهيّة.
ثمانية فصول، مؤلّفة من حوارات حبّ، تختبئ فيها العواطف خلف الرّموز. حوارات بين رجل وامرأة، يبحث فيها الواحد عن الآخر فيجده، ثمّ يضيّعه، ويعود باحثاً عنه من جديد. حوارات تقطعها أصوات عدّة: الرّعاة، أم العروس، إخوتها... تتوسّط هذه الأصوات بين الحبيبيْن، لكنّها لا تستطيع فعل شيءٍ، فالحبّ، أقوى من الموت، لأنّه عطيّة الله.
إن كان هذا الحوار الحميم يصدمنا، فلأنّنا ننسى، أنّ حبّ الرّجل والمرأة، هبة الله. وإذا أردنا أن نتكلّم عن الحبّ انطلاقاً من الله فعلينا أن ننسى كل ما نفهمه نحن عن الحبّ، لأنّنا لا نفهم ولا نعرف الكثير. نحن نربط الحبّ بغرائزنا ولا نرى فيه غالباً إلّا الجسد. أمّا الحبّ، فهو أبعد من الجسد (اللّحم والدّم ) وينفذ إلى أعماق النّفس والرّوح، حيث يغسل الإنسان ويطهّره ويخلقه من جديد.
والحبّ ليس الجنس، ولا نمارس الجنس في الحبّ، وإنّما يعبّر الجسد عن فعل الحبّ تملّكاً من الرّوح. والفرق شاسع بين ممارسة الجنس، وممارسة الحبّ.  الحبّ، هبة الله للرّجل والمرأة، هو احتراق دائم، بنار المحبّة الإلهيّة. شوق الواحد المستمرّ إلى الآخر، وتواصل روحيّ لا يقطعه شيء، ولا يعيقه شيء. فتتزاوج روحاهما قبل جسديهما، فيصيران واحداً.  أمّا الجنس فهو تلبية رغبة آنيّة، تشتعل وتبلغ مداها، ولكنّها ما تلبث أن تنطفئ سريعاً.
إذا ما أردنا أن نتكلّم عن الحبّ، وجب علينا أن ننطلق من الله الحبّ. هذا الحبّ الموجود بذاته، والمشتعل بذاته، ويفيض حبّاً على المسكونة كلّها، فيخلقها من جديد في كلّ لحظة. هذا الحبّ الّذي نحياه حقيقة، إذا ما أردنا أن نقول لنصفنا الآخر: " أحبّك". أي أنّنا نحبّ الله فيه، ونتوق إلى الله فيه، ونحترق شوقاً وألماً إلى الله فيه. فلا يفصلنا عنه، لا علو ولا عمق، لا سيف ولا شدّة، لا حياة ولا ممات، ولا بشر.
حاول الشّرّاح منذ القديم أن يعتبروا النّشيد قصيدة رمزيّة تصوّر علاقة الله بشعبه، كصدى للحبّ الإلهيّ.  حبّ لا يقطعه أيّ صوت آخر، ولا تشوبه شائبة. حبّ الله القويّ العاصف في القلوب. والشّعب الّذي يتفاعل مع هذا الحبّ، يتّحد بالله اتّحاداً كاملاً.
ولماذا تصدمنا الكلمات والعبارات الّتي نقرأها في بعض الآيات والمتعلّقة بالجسد؟ إنّ الجسد لا يدلّ فقط على الغريزة، ولا يرمز إلى شرّ الإنسان، بل هو هبة الله الحبّ، بكل ما فيه، ونحن من ساهمنا في جعله صرخة للغريزة  والرّغبة فقط.
ليست العبارت والكلمات الّتي تهين جسد الإنسان وإنّما كيفيّة استعمالها والظّنّ بها. وليس الحبّ من يحطّ من قيمته الإنسانيّة، وإنّما تحويل الحبّ إلى سلعة تلبّي رغبات جسديّة فقط. إن كان الله لا يغنّي شعبه حبيبه قصائد حبٍّ، فمن يفعل؟ ولم لا أتضرّع حبّاً إلى الله، ولم لا أناجيه وأعبّر له عن حبّي؟
العبادة  ليست طاعة عمياء، بل هي حبّ حتّى الثّمالة. هي أن نصلّي الله حبّاً، ولا يكون الله فقط لتلبية طلباتنا وحاجاتنا الماديّة .
لنقرأ علاقتنا بالله، قصة حبّ وعشق، فنحيا حبّه.  ونتوق إليه، ويظلّ قلبنا مضطرباً حتى نلقاه وجهاً لوجه ونلج نوره الأبديّ.
 
 

 

MadonaAskar

إزرع محبّة تحصد إنساناً

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 69 مشاهدة

ساحة النقاش

مادونا عسكر

MadonaAskar
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

69,138

مادونا عسكر


 من مواليد 1974- بيروت/ لبنان مدرسة لغة عربيّة/ نشر العديد من المقالات والقصائد في مجالات النشر المختلفة الإلكترونية والورقية. »