"الله" كلمة تعني في الأصل، "إيل" أي القدير والقوي والعالم بكلّ شيء. هي كلمة استخدمها الإنسان كتعبير بشريّ للدّلالة على هذا المطلق والأسمى الّذي سعى إليه بطرق مختلفة، وما زال حتّى اليوم يسعى إليه. في حين أنّ مجموعة من النّاس تخلّت عن هذا السّعي ورفضت وجود الله، بحسب المفهوم الّذي اكتسبته نتيجة سوء إدراك بعض المؤمنين أو أغلبهم لهذا المفهوم، الذّي ما زال ينحصر ضمن منطق القوّة والغطرسة والتّسلّط.
منذ عصور ما قبل التاريخ، حاول الإنسان اكتشاف العالم المحيط به وتفسير ظواهره. لقد كانت القوى الطّبيعيّة كالنّار والعواصف والشّمس والبرق والرّعد والحيوانات، تثير مخاوفه، وتجعله في حالة من الرّهبة الدّائمة إذ أنّها تشكّل خطراً على حياته. فحاول الإنسان التّقرّب من هذه القوة من خلال العبادة ، فيتضرّع إليها لتبعد عنه خطرها، فعبد النّار والحيوان، ثمّ الشّمس والقمر. وتعدّدّت الآلهة من إله الخير إلى إله الشّر، والحبّ، والخصب والسّماء.. ومع تطور الفكر الإنساني واكتشافه العديد من الظّواهر والحقائق، بدأت مهمّة الآلهة بالانحسار ويتّضح هذا من خلال تناقص عددها وصولاً إلى الوحدانيّة، بالإضافة إلى إقصائها عن التّدخّل في الظّواهر الطّبيعيّة. ومع ظهور الكتابة قبل حوالي 5000 سنة، بدأ الإنسان بتدوين أفكاره والتّعبير عنها بأشكال أدبيّة كالملاحم والأساطير. والأسطورة هي رواية تفسيريّة مقدسة يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة، وهي تقتصر على علاقة الإنسان بالقوى الكونيّة العظمى الّتي تحيط به وبالإله الّذي يبدو حضوره عطوفاً أو رهيباً. من هذا المنطلق يمكن أن تعتبر الأسطورة رؤية فلسفيّة تمثّل فكر الإنسان وعقيدته في مرحلة ما.
أتت الأساطير لتعبّر عن محاولة لفهم سرّ الكون والخلق بشكل بدائيّ، فانطلق الإنسان من واقعه وكتبها، ودعمها أحياناً بالخيال أو الرّغبة لما يتوق إليه. وأهمّ ما تاق إليه الإنسان هو الخلود، إذ إنّ فكرة الموت الملتبسة والغامضة أثارت مخاوفه وقلقه، ورفض تصديق حتميّة وجوده، وتاق إلى حياة أخرى وآمن بها، ولكنّ على مستواه العقليّ والفكري البدائييْن. فاعتقد بحياة ثانية، كتعويض عمّا افتقد إليه في الحياة الأولى، يرافقه رفض للفناء، ورغبة في الخلود.
كلّ مجتمع فهم أو بحث عن مفهوم الله بحسب ثقافته وطريقة تفكيره، وتأثّره بمحيطه. ولا يجوز القول بأنّ الإنسان ومنذ وجد، عرف الله بشكل نهائيّ. فمفهوم الله تدرّج من البدائيّة وتطوّر مع تطوّر العقل الإنسانيّ ونضجه. كما أنّه لا يجوز القول بأنّ الله أوحى للإنسان منذ البدء بكلّ الحقيقة، لأنّه إن ثبت أنّ الله هو الحقيقة المطلقة، والنّور الأسمى، فلا يمكن للعقل البشريّ أن يستوعبه مرّة واحدة، لأنّه يخضع للمحدوديّة والنّقص. فإذا كان الإنسان يكتشف ذاته ومحيطه تدريجيّاً، ويتبدّل ويتغيّر بحسب نضجه الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ، فكيف له أن يكتشف حقيقة كاملة ومطلقة بدون أن تنكشف له تدريجيّاً؟ فالحقيقة هدف يفترض مسيرة حياة للوصول إليه، ويتطلّب جهداً فكريّاً وروحيّاً، وخبرات شخصيّة متعدّدة. كما أنّه لا يمكن الوصول إليها بشكل كامل ومطلق، بل يكاد الإنسان يلامسها بعد كدّ وجهاد. وإن وجدها، فهذا لا يعني أنّه انتهى من البحث، وإنّما يبدأ في عيشها مكتشفاً إيّاها باستمرار.
من هنا وجب احترام كل بحث عن الحقيقة حتّى ولو كان بحثاً بعيداً عن الله، فالباحث المؤمن بالله يختلف بمنهجه الفكريّ والرّوحيّ عن الرّافض لوجود الله كحقيقة. وبالتّالي استيعاب خبرات الإنسان الشّخصيّة والمعرفيّة، بعيداً عن الإضّطهاد والرّذل.
يقول الفيلسوف "سبينوزا": إنّ أعظم خبرات الفكر هي معرفة الله. هذا بحسب خبرته الشّخصيّة والفكريّة، وخوضه غمار التّأمّل الفكريّ والرّوحيّ، وليس بحسب ما تنشّأ عليه من الدّيانة اليهوديّة. فمن المعروف أنّ سبينوزا رُذل من عائلته ومن المجتمع اليهوديّ كونه اعتبر أنّ الله يكمن في الطّبيعة والكون، وأن النصوص الدّينيّة هي عبارة عن استعارات ومجازات غايتها أن تعرّف بطبيعة اللهّ. تربّى سبينوزا تربيّة دينيّة يهوديّة، لكنّه تحرّر منها بالبحث عن الحقيقة وأدرك مفهوم الله، إن جاز التّعبير، بحسب فكره الشّخصيّ التّامّليّ.
ويقول "طاغور" أنّ كلّ طفل يولد يأتي حاملاً رسالة تقول إنّ الله لم ييأس من الإنسان. ونلمس في قوله أنّ الله بمفهومه يحبّ الإنسان، أو وصل "طاغور" إلى هذه المرحلة من إدراك الله.
بالمقابل نرى أنّ "فويرباخ" و"سيجموند فرويد" بعتبران أنّ الله وما يتصل به من معتقدات دّينية هي اختراعات بشريّة خُلقت لتلبية العديد من الاحتياجات النّفسيّة والعاطفيّة المختلفة. بينما رجَّح "كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز"، متأثرين بعمل "فيورباخ"، بأن الإيمان بالله والدّين يعدّ دوراً اجتماعيّاً يستخدمه أصحاب السًلطة لقمع الطًبقة العاملة. ووفقاً لـ "ميخائيل باكونين"، فإنً فكرة وجود الله تعني التًخلًي عن العقل البشري والعدالة، بل هي النًفي الحاسم لحريًة الإنسان، وبالتًالي ينتهي الأمر إلى استعباد البشر من خلال النًظريًة والممارسة.
هؤلاء المفكّرون، توصّلوا إلى هذا المفهوم أو إلى رفض الله من خلال خبرات شخصيّة وحياتيّة، ولا بدّ أنّهم تأمّلوا وتفحّصوا هذه الخبرات وخلصوا إلى هذه النّتيجة، معتبرين أنّ فكرة الإله أو الشّعور به هو حالة لحاجة نفسيّة، وبذلك لا تكون حقيقة وإنّما وهم، وبالتّالي يكون الله مخدّراً وهميّاً للإنسان، يشبه أيّ وهم قد ينتج عن اضطرابات نفسيّة.
من ناحية أخرى، فإن الله وسيلة ضغط وقمع لاستعباد الإنسان وقهره، وارتباط الإنسان به هو تخلّي عن العقل البشريّ، بحسب " ميخائيل باكونين"، فالعقل يحتاج لأدلّة وبراهين كي يقتنع بفكرة ما، وإذا ما صدّق الإنسان وجود الله فهو تخلّى عن عقله وحكّم الاستسلام إلى اللّاعقلانيّة. كما يعتبر أن الإيمان بالله، مناقض للحرّيّة، وللعدالة، فبقدر ما أنكر هذه النّظريّة بقدر ما تحرّر واقترب من الحقّ.
هذا المنطق العقلاني القاسي بحقّ الله والإنسان، يوافق عليه نسبة لا بأس بها ممّن عانوا من فكرة أنّ الله يعيق تقدّم الإنسان، ويقمع تطلّعاته ونضجه العقليّ. ولا يولد الإنسان بهذا المنطق، وإنّما يكتسبه خلال مسيرة تفكير، ومحن وخبرات قاسية.
وإذا كان البعض يعتقد أنّ الإيمان بالله هو تلبية لحاجات نفسيّة، فلِمَ لا يكون عدم الإيمان به ردّة فعل على خبرات أو تربية أو مفاهيم معيّنة؟ وإذا كان عدم الإيمان بوجود الله هو العقلانيّة والإيمان به هو النّقيض للعقلانيّة، فلِمَ لا يكون الرّافض لوجود الله، غير متمكّنٍ من تحديد مفهومه؟ وهل المؤمن على يقين من تحديد مفهوم الله، أم أنّه يكتسب الفكرة نظريّاً ويحيا بها بحسب التّأثير المحيطيّ والتّربويّ؟
- إثبات وجود اللّه:
يحاول المؤمن من خلال يقينه بوجود الله أن يثبت وجوده لمن يرفض هذا الوجود، باعتبار أنّ وجوده ضروريّ وملحّ. في حين أنّه لا يمكن إثبات وجود الله حسّيّاً، لأنّه لا يخضع للماديّة، وبالتّالي لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة، أو سماع صوته... وبالتّالي إثبات وجوده من خلال الكون والطّبيعة وتركيبة العالم هي الوسيلة الّتي يستخدمها المؤمن لإثبات هذا الوجود. ناهيك عن الكتب المقدّسة الّتي تحدّثت عنه، وقد لا تحمل إثباتاً حقيقيّاً لمن يرفض وجوده. فهي من حيث الأطر التّاريخيّة والعلميّة، تحتمل الكثير من الجدل، والنّقاش. وقد لا تقدّم حرفيّتها المطلقة إشباعاً للعقل ونضجه. فكيف يمكن للمطلق أن يتجلّى بتناقض معيّن في الكتب، أو كيف يمكن للحرف أن يأسره ويحدّه؟
بالمقابل، نرى الله، يختلف ببعض المفاهيم من دين إلى آخر، ممّ يدفع العقل إلى الشّكّ في عدم ثبات الفكر الإلهيّ. فإذا كان الله هو المطلق واللّامحدود، فهذا يعني أنّ فكره لا يتبدّل ولا يتغيّر، وإنّما يبقى ثابتاً منذ البدء وإلى الأزل، وإلّا لأصبح شبيهاً بالعقل الإنسانيّ من حيث النّضج والتّطوّر.
إنّ فكرة إثبات وجود الله، لهي فكرة خاطئة، لأنّ المحدود لا يقوى على إدراك اللّامحدود بشكل مطلق، وبالتّالي لا يمكن لهذا المطلق أن يتشكّل كمعادلة حسابيّة، ويخضع للتّمحيص والتّحليل العقلانيّ المحدود.
إنّ كلّ دليل يقدّمه المؤمن في سبيل إثبات وجود الله، لهو دليل شخصيّ للمؤمن نفسه، فهو يثبت لنفسه فقط، وانطلاقاً من إيمانه الشّخصيّ، وقناعاته الشّخصيّة. فإن استعان بالكون والطّبيعة والنّظام الإبداعيّ لهما، فهو يستخدمها كأداة تعبّر عن تأمّله الشّخصيّ. وإن استعان بالكتب المقدّسة، فهي أيضاً مرجع شخصيّ له وحده، لا يقتنع بها عقل الملحد الرّافض لوجود الله، بحيث أنّه وفي مسيرة بحثه عن الحقيقة، لم يتردّد في درس هذه الكتب والتّحقّق منها ومن صحّيتها العلميّة، والتّاريخيّة. كما أنّه قابل بين ما تقدّمه من حقيقة غير ملموسة، وهو الباحث عن يقين ثابت وملموس. وبالتّالي وجد النّصوص الكتابيّة في مخطوطات تحمل النّوع الأسطوري خطّطتها الشّعوب القديمة تعبيراً عن محاولة لإدراك العالم الإلهي. فلم يكن له إلّا أن يصطدم بما يسمّيه الخرافة، والأكذوبة.
كما أنّه ومن ناحية أخرى، واجه القمع والتّسلّط والاستغلال باسم الله، فانتفضت حرّيّته وكرامته الإنسانيّة ليرفض هذا الّذي يشبه كثيرين ممّن يتسلّطون عليه ويتحكّمون به ويستغلّونه. من هنا نجد أنّ الملحد يعتبر أنّه كلّما تعلّقنا بفكرة الله، كلّما سحقنا حرّيّتنا ونفينا ذواتنا. مع العلم أنّ المؤمن يجد كلّ حرّيّته في الله، وذلك باستسلامه الكلّيّ له، وتسليمه لقدرته.
وبين مفهوم الحرّيّة عند المؤمن، ومفهومها عند الملحد تتعارض الأفكار والمفاهيم، ويواجه الواحد الآخر بأدلّة وبراهين عدّة بعيدة عن قدرة إثبات أو نكران وجود الله. فلا المؤمن استطاع إقناع الملحد بوجود الله، والعكس صحيح. ونشأت بين الطّرفين هوّة عميقة تناسى فيها الطّرفان أنّ ما يجمعهما أوّلاً، الإنسانيّة. والأوّل يحارب الثّاني ويكفّره ويرذله، والثّاني يستهتر بعقل الأوّل ويعتبره واهماً، ويخضع لردّات فعله النّفسيّة.
وإن تعاطفنا مع الملحد إنسانيّاً، لوجدنا أنّه يحمل في داخله الكثير من التّساؤلات الّتي لم يلق ردوداً عليها. إمّا أنّ تلك الرّدود أتت منافية للعقل، ومخدّرة له، وإمّا أنّها عبّرت عن اللّاعدالة الإلهيّة في ظلّ عالم يعاني من القمع والاستغلال الإنسانيّ.
إنّ الخطأ الأكبر الّذي يمكن للإنسان أن يرتكبه هو أن يجهد نفسه في إثبات وجود الله، لأنّ العلاقة بالله اختبار شخصيّ، وهذا ما تثبته النّصوص الكتابيّة. فهي - وباعتمادها على الأساطير والرّموز- تحاول أن تعبّر عن هذه العلاقة. لقد كتب الإنسان في الكتب المقدّسة مسيرته مع الله، ولا بدّ أنّه تفاعل معه، ولكنّ بنصوص تتوافق ونضجه الفكري والإيمانيّ. فلا يمكن أن نقارن فكر الإنسان من آلاف السّنين بفكر إنسان اليوم. كما يختلف المفهوم الإيمانيّ اليوم عن الأمس البعيد، وبالتّالي لا بدّ من تطوّر إيمانيّ، كما فكريّ وروحيّ. ولا يحوز الوقوف عند حرفيّة النّصوص، ليعبر المؤمن من إيمانه الطّفوليّ والموروث إلى إيمانه الواعي والنّاضج.
ليس المطلوب إجهاد الفكر والعقل في إثبات وجود الله، فالموضوع صعب ومعقّد، ولن يتوصّل العقل حتميّاً إلى ذلك. إذاً، فالأجدر بالمؤمن أن يحيا إيمانه أو علاقته بالله، مع الآخر ومن خلاله. وإذا كان المؤمن قد بنى علاقة مع الله، فسيعي تماماً أنّ لا غنى عن الآخر. فلا علاقة مع الله بدون علاقة مع الآخر والعكس صحيح. ولا يُدرك الله إلّا من خلال الآخر، والعكس صحيح أيضاً.
الله، موجود والدّليل بيد المؤمن، ولكنّه دليل شخصيّ، إذ إنّ العلاقة بين المؤمن والله، علاقة شخصيّة، والتّفاعل بينهما شخصيّ. هو تفاعل داخليّ غير ملموس، وغير ظاهر للعيان إلّا من خلال التّعامل المحبّ مع الآخر. ولكن هذا لا يعني أنّ الملحد لا يحسن التّعامل مع الآخر، فالحبّ الّذي يسكن المؤمن هو نفسه الّذي يسكن غير المؤمن، مع فارق واحد، انّ الملحد لم يقتنع بعد أنّ الله، هو الحبّ.
- الإيمان تلبية لحاجة نفسيّة:
قد تكون هذه المقولة صادقة إلى حدّ بعيد في حال ارتبطت بإيمان ساذج، يعتمد على الطّقوس الخارجيّة، ولا يدخل في عمق العلاقة مع الله.
نرى المؤمن غالباً ما يتعلّق بالطّقوس والحروف، دون بناء علاقة جدّيّة مع الله، فيأتي إيمانه هشّاً، ومجرّداً من العاطفة. وقد تكون العاطفة شعوراً آنيّاً وغير وثيق. بالإضافة إلى أنّه أحياناً يخدّر عقله دون البحث جدّيّاً عن أسباب صعوباته، فإمّا ينسبها إلى الله، وإمّا يعتبرها امتحاناً لإيمانه.
من المنطق أن لا نجد الكثير من الرّدود على الكثير من التّساؤلات، ولكن ليس من المنطقيّ أن نهمل العقل، في حين أنّه هبة من الله. ولمّا كان الله، قد منح الإنسان نعمة العقل، فلا بدّ أنّه ينتظر منه استخدامه وتطويره وتنميته، وإلّا فالله، ضدّ العقل، والفكر، وبالتّالي سنجد في الفكر الإلحادي احتراماً للعقل أكثر من الفكر الإيماني.
ولكن الله، لا يرفض الفكر الإنسانيّ، فهو العقل الأساس إذ إنّه وبمنحه الإنسان القدرة على التحليل والتّفكير من خلال العقل، منحه من ذاته. من هنا على المؤمن أن يرفض بشكل قاطع أن يلغي عقله في سبيل إيمانه، فلا إيمان حقيقيّ وواع خارجاً عن العقل.
ويكون الإيمان عقلانيّاً، عندما يبدأ المؤمن بالبحث عن الله، دون خوف وتردّد، ودراسة النّصوص الكتابيّة علميّاً، والبحث في أطرها التّاريخيّة، وبتجرّد وموضوعيّة. كما عليه القبول بحقيقة تلك النّصوص من حيث أنّها اختبار الإنسانيّة في مسيرتها مع الله، وقد تحتمل هذه النّصوص أخطاء على مستوى الصّياغة، أو العلم، أو الواقع.
على سبيل المثال، لو عدنا إلى قصّة الخلق، وتحديداً أسطورة آدم وحوّاء، والّتي كتبت في الكتاب المقدّس خمسماية سنة قبل المسيح، فلسوف نجد أنّ أساس هذه الأسطورة موجود في الأساطير البابليّة، واختارها الكاتب كرمز حاول من خلاله اكتشاف كيفيّة الخلق.
قد يردّ الملحد بسؤال منطقيّ، ألا وهو: ما المانع من إدراج النّصوص الكتابيّة كلّها ضمن إطار الأسطورة؟ وهذا ما لا يمكننا القبول به، إذ إنّ الكثير من الأحداث المذكورة في الكتب المقدّسة أكّدها التّاريخ، إما من ناحية الأشخاص، وإما من ناحية الأحداث. كما أنّ دراسات عدّة اثبتت صحّيّة تلك النّصوص، ولقد أجريت تلك الدّراسات على يد علماء غير مؤمنين. كانت مهمّتهم دراسة المخطوطات وإثبات صحّيّتها وتاريخيّتها.
إذن، لا يمكن اعتبار النّصوص الكتابيّة بكاملها أساطير، كما أنّ هذه الأساطير وإن وجدت، فهي لتسهيل عمليّة فهم الإنسان لما يحيط به من أسرار. كما تختار الأمّ قصّة خياليّة لتوصل لأبنائها حقيقة ثابتة، وذلك تيقّناً لقلّة إدراكهم الكافي لتلك الحقيقة.
إنّ القبول بحقيقة النّصوص، يدفع بالمؤمن إلى علاقة متجرّدة مع الله، غير مقيّدة بحروف قد يتبدّل مفهومها من زمن إلى آخر. فتكون العلاقة به، حرّة وواعية ومسؤولة. ولا يُقبل من المؤمن أن يتمسّك بالحرف ككلام إلهيّ، فالكلمة الإلهيّة لا يمكن حصرها بالحرف، فهل نأسر الله في الحرف، ونخضعه له؟ وكيف يُسجن اللّامحدود في المحدود؟ إنّ الكلمة الإلهيّة روح وحياة، والحياة تعني الدّيناميكيّة والحركة وليست الجمود والرّكود.
بالمقابل، توقّف الإنسان طويلاً أمام معنى الموت، وشعر بقسوة النّهاية، واعتبر أنّ نهايته حتميّة في حفرة صغيرة. وهذا ما يقتنع به الملحد، وهو بأنّ الموت هو نهاية حتميّة ولا شيء يثبت الخلود أو حياة ثانية بعد الموت. كما أنّه يعتبر أنّ الإنسان أنانيّ إذ إنّه يطمع بالخلود ولا يقبل حقيقة النّهاية الواقعيّة.
ولكنّ المؤمن اعتبر الخلود تعويضاً لما حرم منه في هذه الحياة، فأتى الخلود أو الحياة الأخرى، استسلاماً لمشاكله اليوميّة، وتسليماً لما أسماه القدر، دون مقاومة صعوباته والبحث عن الأسباب والحلول. وهنا يعتبر هذا النّوع من الإيمان تلبية لحاجة نفسيّة وليس إيماناً عميقاً بأنّ الله، سيّد التّاريخ والموجّه له، ولكن دون قمع حرّيّة الإنسان واستغلاله. كما أنّ الحياة الأخرى ليست اخرى أو ثانية بالمعنى العدديّ للكلمة، وإنّما هي استمراريّة للقيمة الإنسانيّة الّتي تستحقّ ذلك. وما حرمنا منه في هذا العالم لأسباب عدّة، لن نجده بعد الموت. فالمنطق يفترض أنّ استمراريّة الحياة بعد الموت مختلفة عمّا قبل الموت، فيكون الموت باباً للدّخول إلى عالم الإنسانيّة الحقيقية، والّتي هي القيمة الحقّة للإنسان.
من حقّ الإنسان أن يعيش هذه الحياة بكرامة، وذلك في أن يتمتّع بجميع حقوقه، وليس أن يحيا الوجع والقهر والحرمان في سبيل أن يلقى العكس في حياة أخرى. ولا يقمع رغباته هنا، ليحصل عليها في الحياة الأخرى، فحينما يعبر إلى الضّفة الأخرى لن يعود بحاجة لتلك الرّغبات، لأنّها ستنتفي بانتفاء اللّحم والدّم.
نتوافق والملحد في هذه النّقاط مع فارق اعتبار الموت نهاية حتميّة دون النّظر في موضوع الخلود. والتساؤلات المطروحة والمشروعة كنتيجة حتمية لما سبق، "ما الهدف من حياة محدودة بحدود الموت؟ ولماذا السّعي، والتّقدّم والتّطور، وإلى ما هنالك من أهداف يصبو إليها الإنسان إن كان الإنسان يتعب ويشقى ويتعلّم ويتطوّر من أجل أن ينتهي في حفنة تراب، فما معنى وجوده؟ الخلود ليس طمعاً، وإنّما هو نتيجة حتميّة للقيمة الإنسانيّة، بحيث أنّه اكتمال ما بدأنا به هنا في هذا العالم.
من ناحية أخرى، إذا كان الإيمان تلبية لحاجة نفسيّة، فلمَ لا يكون الإلحاد أيضاً، ردّة فعل على ما قد يواجهه الملحد من قهر واضّطهاد وإقصاء. ناهيك عن التّربية الدّينيّة القاسية، فمعظم الّذين ابتعدوا عن الله هم من تربّوا تربية دينيّة قاسية ومتزمّتة. بالإضافة إلى سياسة التّكفير والتّرهيب، فإمّا الله، وإمّا جهنّم والنّار والعذاب.
هل جهنّم موجودة حقّاً لنهدّد بها الملحد أو المخالف لإيماننا؟ هل سيرمي الله الإنسان حقّاً في جهنّم حيث يحترق إلى الأبد؟
بداية "جهنّم" هي اللّفظة الآراميّة للكلمة العبريّة (جهنوم)، وهو الوادي الّذي يمرّ إلى الجنوب والغرب من مدينة القدس. وكانت تلقى فيه جثث المجرمين بعد إعدامهم، فارتبط اسمه بأفظع أنواع النّجاسة.
لهذا استخدمت كلمة جهنّم كصورة رمزيّة لتعبّر عن فظاعة العيش بعيداً عن الله. وليس مكاناً حقيقيّاً سيفني فيه الله من يرفضه أو يخالف أوامره. "جهنّم" حالة، ولا يجوز اعتبارها مكاناً، إذ كيف يمكننا التّحدّث عن مكان في العالم الإلهيّ؟ وكيف يجوز الفهم بأنّ الله سيرمي النّاس في آتون من نار؟
إنّ الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، فهل يرمي الله صورته؟ وإن كان هناك إمكانيّة لوجود حالة "جهنّم"، فهي صورة للألم الّذي سيعاني منه الإنسان نتيجة اختياره بملء إرادته الابتعاد عن الحبّ الأزليّ، وعن الحقيقة. والسّؤال الأهمّ، هل سيخضع الإنسان ما بعد الموت إلى الشّعور الحسّي والعضويّ؟
وبعد كلّ ما ورد، هل يريد الله حبّاً صرفاً لشخصه، أم خوفاً منه أم طمعاً فيه؟ إن أرقى درجات الحبّ هي الّتي تكون من أجل الحبّ، لا طمعاً بنعيم ولا خوفاً من هلاك.
سيبقى الإنسان مشروع مؤمن، إن بقيت علاقته بالله على مستوى علاقة العبد بالسّيّد. وما لم تتطوّر هذه العلاقة إلى علاقة حبّ حقيقيّ، فلن يتمكّن من الحديث عن إيمان واعٍ وحقيقيّ. وبالتّالي لن يقوى على نقل صورة الله في إيمانه.
كلّ منّا يخضع للعوامل النّفسيّة، مؤمنين كنّا أم ملحدين، إلّا أنّنا لا نفهم حياة بعض الأشخاص بدون الله. كالأمّ تريزا، على سبيل المثال، تلك الّتي جابت العالم تعين الفقراء، وتداويهم، وتسهر على راحتهم، لسبب واحد، الا وهو حبّاً بالله. لا يمكننا القول بأنّ خوفها من الله دفعها إلى كلّ هذا الجهد والبذل، بل الحبّ هو الدّافع الوحيد.
- حرّيّة المؤمن وحرّيّة الملحد:
للحرّيّة مفهوم واسع ويحتمل الكثير من المناقشة إلّا أنّنا نتّفق على أنّ أساس الحرّيّة هو المسؤوليّة.
يجد المؤمن ملء حرّيّته في علاقته بالله، وبتسليمه له يتحرّر من كلّ ما يمكن أن يستعبده. وسر الملحد أنّه ينال حرّيّته متى رفض الوجود الإلهي، وذلك لأنّ النّظرة إلى الله متباينة بين المؤمن والملحد. وسنستعرض معاً مفهوم الحرّيّة من خلال النّظرة اللّاهوتيّة، ومفهومها من خلال النّظرة الإلحاديّة.
· <!--[endif]-->النّظرة اللّاهوتيّة:
الله محور حرّيّة الإنسان، منه يستمدّها وبه يتحرّر.
والتّحرّر هنا يشمل الإنسان بكلّيّته، وتحدّد النّظرة اللّاهوتيّة أنّ التّحرّر من الخطيئة هو التّحرّر من عبوديّتها، ولا يكون الإنسان حرّاً إلّا إذا سعى إلى تنقية ذاته منها.
ما هي الخطيئة؟ هي هذا التّشويه الّذي يحدثه الإنسان في صورته الّتي هي على صورة الله، وبالتّالي كلّما أخطأ الإنسان شوّه صورة الله فيه. والخطيئة أبعد ممّا تحدّده الوصايا العشر (لا تقتل، لا تزنِ، ....)، بل هي رفض العيش بمحبّة الله. كلّما اقتربنا من الله، الحبّ الأزليّ، كلّما حافظنا على صورة إنسانيّتنا. وهنا تكمن حرّيّة المؤمن، ألا وهي في أن يخضّع له كل ما يسيء لصورته الإنسانيّة.
ذروة الحرّيّة من خلال النّظرة اللّاهوتيّة تتجلّى في قول بولس الرّسول" كلّ شيء مباح لي، ولكن ليس كل شيء يوافق. كلّ شيء مباح لي، لكن لا يتسلّط عليّ شيء".(كورنتس الأولى 6/12-13).
تقسم هذه الفلسفة إلى قسمين: الأوّل ونستنبط منها الحرّيّة المطلقة، والثّاني الحرّيّة المسؤولة.
إنّ الفكر اللّاهوتي المسيحي يصبو بالإنسان إلى حرّيّة مطلقة ولكن مسؤولة ومنضبطة. إذا كان كلّ شيء يحلّ لي، فكيف لي ان أعرف ما ليس يوافق؟ وإذا كان كلّ شيء يحلّ لي فكيف أخضّع هذا الكلّ لي؟
ترتكز هذه الفلسفة على الاختبار الإنسانيّ أوّلاً، ولكنّ بمرافقة الحبّ الأزليّ، الله. والاختبار الإنسانيّ يعتمد على العقل والنّفس معاً. فالإنسان ليس عقلاً فقط، وإنّما هو تفاعلات تفسيّة أيضاً. هذا الاختبار يقود الإنسان إلى معرفة السّلوك الإيجابي من السّلوك السّلبيّ، ولكن لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً بدون علاقته بالله، الحقّ المطلق. فالله، هو المرشد والأب والرّاعي، وليس الحاكم المنعزل عن رعيّته، يتحكّم ويتسلّط عليها، دون الأخذ بعين الاعتبار، أدقّ تفاصيل حياتها. ويتوضّح لنا ذلك من خلال قول السّيّد المسيح: "تعرفون الحق والحق يحرركم".(يو 8/32). الحقيقة هي الّتي تحرّر الإنسان، والوصول إليها يتطلّب بحثاً شاقاً واجتهاداً عقليّاً وإيمانيّاً.
الحقيقة هي الله، ومتى عرفناه تحرّرنا من كلّ ما يضجّ في نفوسنا، ومن كلّ ما يستعبدنا. ومعرفة الله، لا تكون بتأدية الواجبات الدّينيّة وحسب، أو ممارسة طقوس معيّنة في أوقات معيّنة، وإنّما هي الدّخول في تفاصيل الله، وبالتّالي إدخاله في تفاصيل حياتنا من خلال هذه العلاقة الوثيقة. الله شخص حيّ وليس فكرة أو روح منعزل عن العالم، يراقب من عليائه وينتظر أن يخطئ الإنسان حتّى يحاسبه. كما أنّه ليس مشرّعاً يعتمد على تطبيقنا للقوانين، وإنّما ينتظر منّا خطوة حبّ إليه.
حرّيّة المؤمن مرتبطة بمدى ارتباطه بعلاقة حبّ مع الله الشّخص، والتّفاعل معه، والإصغاء إليه، رغم الضّجيج. فالله ولأنه الحبّ، هو المحرّر والحرّيّة معاً، منه نستمدّ الحبّ وبه ننطلق في العالم باحثين عن الخير والجمال.
ومعرفة الله، تكون بالانطلاق من الإنسان نحو الله، وليس العكس. إن كان الإنسان حرّ، فالله هو الحرّيّة، إن كان الإنسان يحبّ، فالله هو الحبّ. إن كان الإنسان يعقل فالله، هو العقل. وكلّ ما يطرأ على الإنسان من سلوك سيء هو دخيل على حياته، لأنّه بالأصل مرتبط بالمطلق السّامي، الله. وليس السّلوك السّيّء إلّا نتيجة لحجب جمال الخير. كالشّجرة في ذاتها معطاءة، ولا يشوّهها إلّا حشرة دخيلة عليها. كالشّمس التي تغمر الكون بضيائها، ولا يحجب نورها إلّا سحابة مارّة.
الحرّيّة هي أن نحبّ الله والإنسان، فنتحرّر من كلّ ما يعيق مسيرتنا نحوهما. هو الحبّ الحقيقة المطلقة والحرّيّة المطلقة. ومتى تحرّرنا سيحلّ كلّ شيء لنا دون أن يتسلّط علينا أيّ شيء، وذلك لأنّ دافع أفعالنا في الأساس هو الحبّ، وهدفنا المرجو هو الحبّ. من خلال الحبّ، يمكننا التّمييز بين ما هو سليم وبين ما هو سيّء.
تعرفون الحبّ والحبّ يحرّركم. والحبّ ليس العاطفة والرّومانسيّة، بل هو تلك القوّة الخلّاقة الّتي تبدّل العالم بأفعال بسيطة. وبالإيمان بالحبّ، يكون خلاص الإنسان أي بلوغ حقيقته وقيمته وكيانه. وبالحبّ يتخطّى الإنسان ذاته وينطلق من الواقع إلى ما هو أسمى، الّذي هو المبدأ والغاية.
· <!--[endif]-->النّظرة الإلحاديّة:
مفهوم الحرّيّة بالنّسبة للملحد يتجلّى أوّلاً في الابتعاد عن وهم الله. فالله فكرة وهي نتاج أوحت بها الأهواء، ولا مبرّر للإيمان بوجوده. محور الفكر الإلحادي هو الإنسان، وقيمته العقلانيّة، وهذه القيمة تخضّع لها كلّ شيء، فتحلّله بمساعدة العلم، اليقين الوحيد بالنّسبة للملحد، فقد حرّر العلم الملحد من الماورائيات المعقّدة وغير المفهومة. هو يريد إجابات واضحة على كلّ تساؤلاته، بعيداً عن الخرافات والأساطير.
يصبو الفكر الإلحادي إلى حرّيّة العقل من حيث إخضاع كل ما يشكّ به للعقل، كما يطلق العنان للجسد من حيث إعطائه الحقّ بإشباع كلّ رغباته بعيداً عن العقد الدّينيّة والفكر الدّيني الّذي – وبحسبه- يقمع رغبات الإنسان.
كما أنّ الفكر الإلحادي يرقى إلى العدالة الاجتماعيّة من خلال إنكار الله، لأنّ الله عاجز عن تحقيق العدالة، وهو الّذي يرى ما يدور في العالم من أحداث ومآسٍ، ولا يحرّك ساكناً. هو، وإن وجد، كائن ضعيف، أو كائن متغطرس وغير عادل. وينبذ الملحد كلّ ما يتعلّق بالله والأديان والالتزامات الدّينيّة، ويطلق العنان للعقل، وللعقل وحده. ويعتمد في بحثه عن الحقيقة على العلم والعقل وحدهما. وكأنّ الملحد لا يتخطّى ذاته، ولا يصبو إلى ما هو أبعد من العلم والماديات.
لا يريد الملحد أن يكون تابعاً لأحد، ولا مرتبطاً بأحد بمعنى الالتزام الإلهي والدّينيّ. كما أنّه يريد أن يتخطّى الشّرائع من حيث التّطبيق الأعمى، والسّعي لتطبيق القوانين بمسؤولية واختيار حرّ، وليس خوفاً من عقاب أو ثواب. وهذا ما نعني به الحرّيّة المسؤولة والمتّزنة.
بالمقابل يرى أنّ الشّرائع الّتي يمليها الله على الإنسان تحدّ من تطوّره الفكريّ إذ إنّها تناقض العلم وتطوّره. وبذلك يرى الملحد في الكتب المقدّسة بدائيّة العلم، وبما أنّها كلام إلهيّ فلن تتبدّل بحسب المؤمن. كما أنّه يعتبرها حاجة اجتماعيّة مؤقّتة، ومع الوقت لم يعد يحتاج الإنسان إليها، على حد ما قاله "كارل ماركس".
لا شكّ أنّ الملحد على حقّ في ما يخصّ، التّناقض الملحوظ بين بعض الأفكار العلميّة والتّاريخيّة الّتي تطرحها الكتب المقدّسة وبين حقيقتها العلميّة، ولكنّه يتناسى أنّ هذه الكتب ليست كتباً علميّة أو تاريخيّة، بل هي اختبار الإنسانيّة في مسيرتها مع الله. والكتب المقدّسة مفتوحة على العلم لأنّ الإنسان بحاجة إليه كي ينمو ويتطوّر، كما أنّ الإيمان لا يتناقض مع العلم، بل يسيران معاً ليوصلا الإنسان إلى الحقيقة.
إنّ حرّيّة الملحد مرتكزة على العقل والتّحليل والشّكّ، ويقاوم بجرأة القمع الّذي يواجهه ممّن يدّعون الإيمان، فيعتبرونه خارجاً عن المجتمع وعن الأخلاق. وهذا ليس صحيحاً، لأنّ مقياس الاخلاق ليس متعلّقاً بالتّربية الدّينيّة فقط، وليس هو المقياس فقط، فالكثير من المتديّنين خرجوا عن المنظومة الأخلاقيّة، وبالتّالي المقياس هو إدراك القيمة الإنسانيّة.
وصف “جبران خليل جبران” ذات مرّة تجربة الإلحاد بالقول: "إن تنظر في هوّة عميقة دون أن ترتعد قدماك أن تحدّق في الشمس دون أن يرتعش جفنك". هذا القول يعبّر عن قوّة الملحد وجرأته في تحدّي كل شيء، وعدم الخوف من إخضاع أي ّ شيء له.
فهل يكون المؤمن أقلّ تحرّراً من الملحد؟ بالطّبع لا. العقل يحرّر الملحد، والمحبّة تحرّر المؤمن، وكلاهما ينظران إلى الحرّيّة من منظارهما وسيصلان إليها حتماً. فالعقل ينير الطّريق إليها والمحبّة توأمها.
- مقاربة بين المؤمن والملحد
إذا كان الإيمان علاقة حميمة بالله، فهذه العلاقة تطلّب الكثير من المحبّة والعقلانيّة والالتزام لبلوغ حتميّة اللقاء بالله، أي الحقيقة. ويبقى الإنسان مشروع مؤمن ما لم يرقَ إلى هذه العلاقة، وما لم يعقلها بحسب ما يسمح له العقل. ولا يمكنه البقاء فقط عند حافة النّصوص والطّقوس. وما لم يتخطّ ذاته لبلوغ الآخر يبقى عند حافة الإنسانيّة، ولا يكون لإيمانه أيّ معنى. إذاً، الإيمان هو عقل ومحبّة. العقل والمحبّة يقودان الإنسان المؤمن إلى الحقيقة المطلقة.
بالمقابل إذا كان الملحد يرفض الوجود الإلهي، فإنّه لا يرفض المحبّة الّتي تحدّد له القيمة الإنسانيّة الّتي لا يغفل عنها. وبما أنّه مرتبط بالعقل، فهو سائر على درب الحقيقة.
ولا فرق بين ملحد ومؤمن إنسانيّاً، فكلاهما خاضع للنّقص، والاختبار، والضّعف البشريّ، ولكنّ الاثنين يحتاجان للعقل والمحبّة. يحتاج الملحد للمحبّة ليتمسّك بقيمه ومبادئه، ويحتاج للعقل ليصل إلى الحقيقة. كما يحتاج المؤمن إلى العقل ليتخلّص من أسر الحرف كي لا يقتله جموده، ويتخطّى ذاته نحو الملطق ويتعايش معه. ولا بدّ من المحبّة لينطلق بها نحو الآخر، فيرى الله فيه. فالله، لا يسكن سماوات عالية ومنعزلة، هو في أعماق الآخر. حيث الآخر يكون الله.
إن ترافق الملحد والمؤمن على درب العقل والمحبّة، واستوعب الواحد الآخر وسمح له بالتّعبير عن هواجسه وأفكاره، وفتح له المجال بقول ما يشاء دون خوف وتردّد، حتّى يعبّر عن نفسه، عندها فقط سيفهم الواحد الآخر ويصلان معاً إلى الحقيقة.
المؤمن والملحد كاليابسة والماء يلتقيان من حيث لا يدريان عند شاطئ الإنسانيّة فيمتزج العقل بالمحبّة ليصبوا معاً إلى الحقيقة المطلقة.
ساحة النقاش