الصحافي العربي
نشرت صحيفة "ايكونومست" في عددها الصادر يوم 24 آب الماضي مقالا بعنوان "من قتل الصحف؟"، تحدثت فيه الكاتب عن تأثير ثورة المعلومات على الصحافة المطبوعة، متصورا يوما يرمي فيه احدهم آخر نسخة من يده في سلة القمامة، تتوقف بعدها الصحف على الطبع، ليأخذ الناس اخبارهم إلكترونيا فقط!
كل ما يقال عن المستقبل قد يكون صحيحا كما قد لا يكون؛ لكن دعونا على الاقل نراقب الصحف في عالمنا العربي، ونحدد اتجاهاتها ونستقرئ مستقبلها، أليست هي لسان الحال وحال اللسان؟
دائما ما اقيس حال أي مشروع بمتوسط رواتب القائمين عليه؛ فالنظام التعليمي العربي انهار حين اصبح راتب المدرس يعادل راتب سائق الشاحنة او اقل! وفي صغري، لم يكن المدرس غنيا، لكنه كان يعيش كريما ضمن الطبقة المتوسطة التي يكوّن جزءا رئيسا من نسيجها، فكان محترما في المجتمع، يُقدم في المجالس، وينظر اليه الناس على انه المربي الفاضل الذي يسلمونه فلذات اكبادهم ليشكلها ويرويها بماء العلم والمعرفة. قد تضحكون الآن، لكن هذه كانت النظرة العامة التي بقيت لسنوات طوال إلى أن جاء من يهلك هذه الشريحة ويضربها على رأسها ويهينها، فأهان معها مستقبل الاجيال وأجيال المستقبل!
والآن، ألا تسير الصحافة على هذا المنوال؟ فمن من الصحافيين العاملين في الصحف اليومية يعيش حياة كريمة؟ لنلق نظرة على حياة هؤلاء البشر الذين يكدحون ليل نهار ليخرجوا لنا هذه المطبوعة التي نتصفحها لدقائق في الصباح ثم نرميها في سلة القمامة، او ينتهي بها المطاف لتكون سفرة للطعام او ممسحة للأثاث.
دعوني فقط احدد نوعية الاخبار التي تقدم طازجة لنا في الصباح. الاخبار السياسية هي السيدة التي تحتل الصفحة الاولى بعناوينها، فهي سهلة المنال، لا تتطلب سوى قص الخبر من الوكالات ولصقه في الصحيفة كما هو من دون أي جهد. ثم المحليات التي يغلب عليها الاحتفالات والمهرجانات؛ فهذا افتتح، وهذا خطب، وآخر دشن، وغيره اجتمع... الى كل تلك الدعايات المجانية لرموز المجتمع، مزينة بصورهم واخبارهم وانشطتهم.
ويجب ان لا تغيب الصفحات الرياضية عن أي صحيفة محترمة؛ فهي عالم قائم بذاته، لا يعرف دروبه ومسالكه سوى المخضرم. فهناك صراعات بين الاندية، وتصريحات متضاربة، ودسائس ومؤامرات وتحريف في العناوين، ومقالات مدفوعة الاجر، وسفرات ومهمات لا يحضرها سوى المقربون الذين لا ينتقدون. وانا اعترف على رؤوس الاشهاد بأنني لا افقه في هذا العالم شيئا، ولم اقرأ أي ملحق رياضي في حياتي. وعندما حاولت، في فترة ما، ان اتدخل لحل بعض الاشكالات التي حدثت بين الصحافيين الرياضيين، وجدت انني اغرق في بحر لجّيّ متلاطم، لا قبل لي به، فانسحبت من البداية وبقيت على الشاطئ، جاهلا بما يحدث، سالما من البلل.
ثم هناك الصفحات المتنوعة التي يدخل من ضمنها الدينية، والثقافية، والمنوعات والفن، وكل خبر لا يدخل تحت السياسة والرياضة.
هذه هي الصحافة في عالمنا العربي من دون رتوش او مساحيق تجميل، والقائمون عليها يعيشون تحت مطارق تضربهم على رؤوسهم بقسوة لا رحمة فيها. فهناك مطرقة المدير الذي يود ان تلتصق التهمة بأي شخص دونه، وهناك مطرقة المجتمع بتشكيلاته الحزبية والنقابية والامنية والعشائرية، وهناك مطرقة الخطوط الحمراء التي يجب عدم تجاوزها، وهناك مطرقة المغريات التي تقدم للصحافي على طبق من ذهب ان لمّع ونافق ومدح... كل هذه المطارق يقابلها من الجانب السفلي صاعقة قلة ذات اليد، وفتات الراتب، وركلات الدائنين، والخوف من المجهول.
مسكين انت ايها الصحافي في عالمنا العربي؛ يجب ان تصارع للحصول على معلومة لا يحب احد ان يقولها، وان نشرت فيجب أن لا تغضب احدا، وان اغضبت لا يقع اللوم عليك وحدك، أليست هذه معادلة كيماوية صعبة التركيب والوزن؟
<!--EndFragment--><!--
ساحة النقاش