الازدواجية الفكرية بقلم: د . محمد ناصر

 

تاريخ النشر : 2011-08-26

 

تعيش أجيالنا الجديدة في دنيانا العربية ازدواجية فكرية منذ الطفولة الباكرة وحتى مراحل الرجولة الكاملة ، ولا شك أن الازدواجية اللغوية التي يعيشها إنساننا العربي تسهم إلى حد كبير في خلق هذه الازدواجية الفكرية ، ولكنها في الحقيقة وليدة عناصر متعددة لا تشكل الازدواجية اللغوية إلا عنصرا واحدا منها فقط ، وهو إن كان أخطرها أثرا ، إلا أنه وحده لا يمثل ما نستشعره من خطورة العوامل الأخرى الفاعلة في فكر الشباب العربي ، وفي منحى تفكيرهم ومنهج هذا التفكير. فلعل أخطر هذه العوامل جميعا هو التناقض القائم بين المثال والواقع ، أو بين عالم تبنيه الانتماءات الدينية والعقائدية والفلسفية ، وبين الحياة الممارسة بالفعل والتي يعيشها الشباب منذ الطفولة وحتى تمام التكوين. ففي دنيا المثل التي يرسمها الدين والعقيدة والفلسفة ، يرتسم كل ماهو طاهر وعفيف ونظيف من معنى وفعل على السواء... بينما في الدنيا الواقعية التي يعيشها الشباب يتجسد التكالب والتزاحم والطمع ليدمر كل ما ترسمه التعاليم الدينية والعقائدية والفلسفية أمامه وفي ضميره على السواء.. إن الدين يحدد معنى الإيمان بالواحد المطلق ن الذي هو نور كل الأشياء وبهاؤها وكمالها ، بالله الواحد الحد ، ليس كمثله شيء ، ولا يداني وجوده وجود ، بينما حياة الواقع ودنيا الناس تفرض الطاعة والإيمان بمثل من الناس تفرضهم القوة أو السطوة أو السلطة ، ليكون الولاء لهم ، والخوف منهم والرجاء عند أعتابهم.
وشتان ما بين المثال والواقع، وشتان بين كلمة الله ورحابتها، وبين ضنك الواقع وبشاعته. ونحن نغرس في أطفالنا وصبياننا وشبابنا ومنذ البدء، تعاليم الكرامة والحرية والاستقلال ، فلا عبودية إلا لله وحده ، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، ولا واسطة بين العبد وربه ، ولا خضوع وركوع إلا لله وحده سبحانه.. وإذا الواقع المر يعلم الطفل والصبي والشاب منذ البدء ، إن الجهر بالرأي عبث لا يقره العرف ولا المدرسة ولا الحياة ، وأن الاستقلال بالرأي جريمة ضد الناس وضد النجاح وضد الإستمرار في الوجود الفعلي للإنسان .. فلا الوالد يرضى، ولا المدرس يرضى، ولا الواقع المعاش يرضى إلا بالتبعية المطلقة لما هو قائم، ولما هو متعارف عليه، حتى وان خالف كل ما تفرضه تعاليم الدين الحرة السمحة، وفلسفات الفكر الإنساني التي تمجد معنى الإنسان وتثبت قيمته واستقلاله وحريته.
ألف صنم وصنم تريد من إنسان العصر أن يركع لها دون الله الواحد القهار...ألف تقليد عفن، وألف موروث أبلاه الزمن، ولا تريد كلها أن تترك حرية الاختيار، وحرية الرأي وحرية الوجود لإنسان العصر...
عالم الآلهة الذي يلغي الوجود الإنساني للإنسان .. حيث يصبح مجرد جزء من حركة ، وترس من تروس... حيث يتحول عالمه إلى شيء آلي لا يعني في نفسه شيئا ولا يحوي في حركته أو داخله أي معنى ، يستفز في الإنسان العربي كل ما عرف عن معنى البطولة والتضحية والاستشهاد ، حيث الإنسان يخرج بحثا عن المثل الأعلى ودفاعا عن بقاء كلمات الشرف والكرامة ، وحيث الجهاد من أجل بقاء هذه المعاني هو كل ما تحمله كتب التراث والدين وقصص البطولة والحب.
ثم تأتي مع هذا العالم دنيا من الأفكار والفلسفات تناقض كلها ما أقام الأسس الأولى للبناية الصلبة للفكر العربي والإسلامي على السواء.. تصخب الحياة والمطابع والمكتبات بألوان من الرؤى والأفكار تنقطع صلاتها بالموروث القديم أو تكاد، وتختلف في مناهجها عن مناهج بحث القدماء أو تكاد... وتتباين معطياتها عن المعطيات التي أخذت شكل القداسة عبر الزمن أو تكاد.. وليس من شك أن لكل هذا التناقض بين الفكر المتعلم والفكر الممارس .. أو بين الفكر الموجود في الكنب وبين الفكر المتعلم والفكر الممارس .. أو بين الفكر الموجود في الكتب وبين الفكر الذي يمثله الخطباء، والممارسون لحرفة الكلام في بيئاتنا العربية في كل مستوياتها، أثره الكامل في وجود الازدواجية الفكرية التي يقع إنسان العصر، وشبابه على وجه الخصوص فيها..
وعند عمر معين يستريح الصبيان والشباب إلى الأحكام الجاهزة بكل الحلول للمشكلات الفكرية التي تؤرق أعمارهم الغضة، وخبرتهم القليلة ، وخوفهم من هذا العالم الصاخب حولهم وفي داخلهم. وأصحاب هذه الأحكام يرفعون سلاح التجريم والتحريم على كل فعل وكل فكر- وهم يعودون بالفكر إلى مراحل العقل البدائي في أول صوره ، ذلك العقل الذي كان يستجيب إلى خوف الإنسان من التجريب والمغامرة ، فيجعل التحريم لكل شيء هو الحل الطبيعي الذي يستنيم إليه وجود الإنسان الفطري ويرضاه مؤمنا بعجزه، ومحققا لكل مخاوفه وقاعدا به عن الفعل والتجريب ، وبالتالي قاعدا به عن المعرفة التي هي في هذه الحالة ملك لأصحاب الكهانة من مقدمي الحلول الجاهزة لتثبيت سيطرتهم الكاملة على فكر الإنسان ووجوده ، وليسود ما عرفناه في مرحلة من تاريخ الإنسانية باسم مرحلة الكهنة الملوك ، حيث كان الكهنة بسلاح التجريم والتحريم يتحكمون لا في أرواح الناس وإنما في معاشهم أيضا.
وفي كثير من الأحيان يحدث تثبيت لهذا العمر العقلي للشاب أو الصبي ليصاحبه في باقي مراحل حياته. ويجعله دائما جاهز الحل لكل مشاكله فما عليه إلا العودة إلى قاعدة الحرمان والمنع، وإلى محاولة الهروب من صخب الدنيا وتجربتها المليئة بالفعل والخطأ والجزاء والعقاب آخر الأمر. ويتمثل هذا الهروب في قمة الدعاوي التي تملأ حياة الصبيان والشباب في سن مبكرة بالهجرة من المدينة بكل معطياتها والعودة إلى الصحراء ، والهجرة من دنيا الواقع الحي وما تريد من تجربة وعمل إلى الماضي بأحلام الصواب وتجنب الخطأ ، وهذه الدعاوي وإن أخذت شكلا دينيا في بعض المجتمعات لتحجر باسم الدين وسلامته على عقل الشاب وتجربته وممارسته الحقيقية للحياة ، تأخذ شكلا فلسفيا في مجتمعات أخرى ليس للدين فيها مثل هذه القداسة أو الأهمية. 
واللجوء إلى الغابات والمخدرات والتقشف الكامل في متع الحياة، وترك اللحى، وعدم الاهتمام بنظافة الجسد احتجاجا على الواقع المعاش في أوروبا وأمريكا فيما عرف بجماعات الهيبز أو الغاضبين ، يماثل تماما دعاوي الهجرة إلى الصحراء والكهوف وإطلاق اللحى وعدم استعمال منجزات الحضارة كاحتجاج على فساد العصر وكفره في دنيانا الشرقية .. ولعل آخر تطرفات هذه الهجرات الجماعية الرافضة للواقع الفكري للعصر هي الهجرة إلى الموت ، تلك الهجرة الجماعية التي أدت إلى عملية الانتحار الجماعية التي قامت بها إحدى الجماعات الدينية المتطرفة في أمريكا مؤخرا.
ونحن نرجع كل هذه الظواهر إلى الازدواجية الفكرية التي يعيشها إنسان العصر بعامة، وإنساننا العربي بخاصة.. والهوة بين المثال والواقع أكثر بروزا في بيئتنا التي تعيش الدين في أعماقها منذ فجر التاريخ، وحيث ظهرت بذور الفكر – الديني منذ ديانات الإنسان البدائي الأول وإلى الديانات السماوية المنزلة.
ويمكن لنا أن نقول إن الديانات السماوية، وعلى الأخص الإسلام، كان رسالة الهداية لتقود الإنسان ليخرج من هذا التناقض وتلك الازدواجية على مهاد روحي سليم، وعلى أسس واقعية حقيقية. والميزة الرئيسية في الإسلام انه دين العقل، دين بلا معجزات. دين يحاول إبعاد الإنسان عن مراحل الخوف الولى التي جعلته يتقرب إلى الأصنام بالقرابين البشرية في جهل كامل بحقيقة العلاقة التي تربط الإنسان باله، تلك العلاقة التي يقيمها الإسلام على أساس من الاعتراف بالإنسان وغرائزه وأشواقه ، وتنظيم هذه الدوافع فيه تنظيما يحفظ له توازنه ولا يخرجه عن حظيرة العبادة الصحيحة السوية التي تحترم كرامته والتي تصون له هذه الكرامة بجعل العمل عبادة ، والتقوى عبادة والفكر عبادة. والتي قصرت العقاب على الخطأ ، والخطأ واقع طالما آت الإنسان يعمل ، فالإنسان يخطئ في سعيه في دنيا الله ، وخير الخطاءين التوابون.
لو أدرك رجال التربية ، وخاصة من مهمتهم تربية الطفل منذ البدء، خطورة أحداث الازدواجية الفكرية في عقله الباطن ، لتنمو معه مع مراحل نموه ، لاستطاعوا أن يحاولوا إحداث السلام المطلوب ، والذي لا بد من إحداثه ، إن أردنا السلامة الصحية للأجيال الجديدة من أجيال العرب القادمة...

 

جميع الحقوق محفوظة لدنيا الرأي © 2003 - 2011

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 361 مشاهدة
نشرت فى 27 أغسطس 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

357,250