د . محمد ناصر الخوالده .
--------------
إعلام العولمة .
عندما اكتشفت الإمكانات اللامحدودة للموجات القصيرة التي أتاحت لبرامج الإذاعة أن تنتقل عبر حدود الدول والقارات, أطلق مارشال ماكلوهان مقولته المشهورة: (لقد أصبحت الكرة الأرضية أشبه بالقرية الكونية). وحينما ظهر التلفزيون, تراجعت مساحة الاتصال الإنساني, وانعزل المواطن داخل حدود الدولة التي يعيش فيها. وعندما اكتشف الفيديو تراجع الاتصال الإنساني أكثر لينحصر المواطن داخل بيته. ومع انتشار الكمبيوتر الشخصي وظهور شبكة الإنترنت, أصبح الإنسان حبيس غرفته, وظهرت إلى الوجود تلك الصورة التي تجسد كل تناقضات عصر المعلومات والثورة التكنولوجية, أي صورة إنسان حبيس غرفته يتواصل مع أقرانه الحبيسي الغرف أيضاً عبر الفضاء الإلكتروني في قرية كونية واحدة.
وتذكرنا هذه الصورة بواحدة من أشهر روايات الخيال العلمي على مر العصور, وهي رواية (451 فهرنهايت) التي كتبها راي براد بري 1953, وحولتها السينما إلى فيلم ذائع الصيت أخرجه فرانسوا تروفو في العام 1966. وفي هذه الرواية, التي كتبت بعد ظهور التلفزيون والكمبيوتر مباشرة, يتعلق الناس بشدة بالشاشات الإلكترونية, ويكرهون القراءة, ويتهللون فرحا عندما يحرق رجال الإطفاء الكتب.
وعندما نقرأ رواية برادبري اليوم فإن أحداً لن يفكر بأن أحداثها تدور في المستقبل, وإنما اليوم وهنا. والواقع أنه مستحيل على أي مراقب محايد, أو حتى على عالم متخصص, معرفة إلى أين ستأخذنا تكنولوجيا المعلومات!
فمنذ فجر التاريخ والتكنولوجيا متعادلة القيمة. فالسيف في ذاته لا يختلف عن أي شيء آخر كالماء والهواء. لكننا نحن من يمنحه القيمة ويحدد استعمالاته. وعندما أماط الكيميائي كو هونج اللثام في بكين عن مخترعه الجديد, البارود, قبل نحو ألف وسبعمائة عام, أشيد به باعتباره مخلصاً للجنس البشري: كان يستخدمه للعثور على إكسير الخلود. واستغرق الأمر خمسمائة سنة أخرى قبل أن يستخدم البارود في صناعة أول ألعاب نارية متقدمة في العالم, لإبهاج الروح الإنسانية بالاحتفالات. لكنه منذ تلك اللحظة احتاج إلى ستين عاماً فقط لكي يكتشف شاب عبقري قدرته كسلاح. وتحول استخدامه مائة وثمانين درجة كاملة من البحث عن الخلود ليصبح أداة للموت المبكر ـ وولدت القنبلة.
وهكذا, فإن انعطافات القدر الجذرية وغير المتوقعة هذه تقلب تاريخ التغير التكنولوجي. فقد كان الهدف من اختراع جوتنبرج للمطبعة هو تشجيع الفضيلة والعبادة من خلال القراءة الأوسع للإنجيل, وليس إثارة الغرائز الأدنى من خلال المطبوعات الإباحية أو كتب مثل (كفاحي). ونظر شتروجر إلى سنتراله التلفوني الأول تحديداً من زاوية تحسين أداء نشاطه التجاري, وليس بوصفه أكثر أدوات التحول الاجتماعي فعالية على الإطلاق. ولم يكن بوسع الأخوين رايت أن يتخيلا أن طائرتهما الصغيرة التي حققت حلم الإنسان في محاكاة الطيور ستتطور إلى القاذفة الشبح أو أنها ستصبح أحد عوامل التقليص الأساسية لمساحة القرية الكونية, وما كان السيد بنز ليتصور الحوادث والوفيات والبؤس, أو حرية الحركة ـ لو كانت هذه هي التسمية التي نطلقها على الاختناق المروري ـ التي ستأتي بها السيارة. وحقيقة الأمر أن بنز وفورد والرواد النوويين الأوائل نذروا أنفسهم للبحث عن طاقة رخيصة وفعالة, وليس لتشرنوبيل, وسرطان الدم, وهيروشيما و(توازن الرعب).
لقد تصور البعض أن الحل الإعجازي للقرية الكونية سيغير العالم, وسيجعل المواطنين أكثر وعياً بمشاكل العالم, وأكثر قدرة على المساهمة في حلها. ووفقا لتصور هؤلاء سيكون العالم القادم بلا حدود, حيث سيعرف أي شخص كل شيء عن أي شخص آخر. وبما أن المعرفة تعني الفهم, فإننا جميعاً سنتقاسم الهموم, وسنتحد لتخفيفها. أما على مستوى العلاقات الدولية فسيصبح العالم شيئاً آخر!!
ففي ظل مثل هذه البيئة, حيث معظم المواطنين فيها مهتمون ومعنيون بالشئون الخارجية بسبب التدفق العالمي الحر للمعلومات, الذي يقرّب الشعوب من بعضها البعض, من المفترض أن يغدو سلوك السياسة الخارجية للدول أكثر انفتاحاً ومسئولية وأكثر تجاوبا مع رغبات الناس العاديين.
لكن ما يحدث في الواقع ليس حلماً, وإنما هو أقرب إلى الكابوس. فأي تحليل متأن للتبادل الحالي للأنباء الخارجية حول العالم يكشف تناقضا واضحاً. فالزيادة المذهلة في القدرة على إنتاج وتوزيع الأنباء من مسافات بعيدة, يقابلها تناقص واضح في استهلاكها, وهي ظاهرة موجودة في الولايات المتحدة والعالمين المتقدم والنامي على السواء.
فهناك مناطق واسعة من عالمنا لا ولن يمكن تغطيتها من قبل جامعي الأخبار, نظراً للتكلفة المرتفعة لعملية جمع الأخبار من جهة, أو نتيجة لوجود عدد من الأنظمة الاستبدادية التي لن تسمح بذلك من جهة أخرى.
والحقيقة أن العالم لم يصبح متصلاً ببعضه البعض بالصورة التي تروج لها أسطورة القرية الكونية, وأفضل الافتراضات تقول إن معرفتنا به متفاوتة وليست متساوية.
لا يمكن مناقشة تأثير عصر المعلومات والثورة الإعلامية والتكنولوجية على المجتمعات المختلفة, وعلى الأخص بلداننا العربية, من دون التطرق إلى موضوع العولمة. والحقيقة أنه إذا كان اكتشاف الآلة مسئولا عن انتقال المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي, فإن الفضل يعود إلى الثورة العلمية, والتكنولوجية في انتقال المجتمع الصناعي إلى عصر العولمة وإلى اندماج أركان المعمورة قاطبة في قرية كونية معرفية واحدة. وفي هذا العالم المندمج, أو المعولم, يتقلص الزمن, وتتلاشى المسافات. وتنتقل رءوس الأموال, والسلع, والمعلومات, والمفاهيم, والأفكار, والأخبار, والأذواق, بسرعة مذهلة, وبحرية تامة, غير معترفة برقابة حكومية, أو بحدود وطنية, أو برفض أيديولوجي. والواقع أن العولمة والثورة العلمية والتكنولوجية هما وجهان لعملة واحدة. بل إنهما تتفقان في كونهما في طور التشكل رغم تلمسنا لنتائجهما في كل أوجه حياتنا اليوم.
ربما لا ينطوي مفهوم في العلوم الإنسانية على إشكاليات مثل مفهوم القيم. فالقيمة مصطلح له أهمية محورية في كل العلوم الإنسانية, مثل الاقتصاد والفلسفة وعلم الاجتماع. لكننا سنركز هنا على القيمة الاجتماعية, وهي المعايير العامة الأساسية التي يشترك فيها أعضاء المجتمع وتسهم في تحقيق التكامل بينهم. والقيم بهذا المعنى هي أحكام مكتسبة من الظروف الاجتماعية, يتشربها الفرد ويحكم بها وتحدد مجالات تفكيره وسلوكياته وتؤثر في تعلمه. وكل قيمة لها معنيان, معنى موضوعي objective مرتبط بالمجتمع أو العقل الجمعي تكون القيمة وفقا له جديرة بالتمثل أو الاقتداء أو الاحترام, ومعنى ذاتي subjective مرتبط بالفرد, حيث تختلف القيمة من شخص إلى آخر حسب حاجاته وأذواقه وخلفيته الاجتماعية.
والواقع أن التغير كما هو قانون الوجود, فإنه أيضاً قانون القيم الاجتماعية. وكما يقول ابن خلدون في مقدمته: (إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة, ومنهاج مستقر. إنما هو الاختلاف على الأيام والأزمنة, وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأبصار, فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول, سنة الله قد خلت).
وتلعب وسائل الإعلام دوراً أساسياً وجوهرياً في صياغة القيم الاجتماعية وفي تغييرها. ويتفق معظم علماء الاجتماع المعاصرين على أن ثورة تكنولوجيا عصر المعلومات والعولمة قد غيّرتا ليس فقط طبيعة الدولة القومية, بل وأيضاً السلوكيات والقيم الاجتماعية للبشر, إن لم تكن قد قلبتاها رأسا على عقب.
لكن ينبغي التأكيد هنا على أن قدرة الإنسان أصبحت غير فعّالة على نحو متزايد في السيطرة على الطريقة التي تشكّل بها تكنولوجيا المعلومات حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ولا يمكن لأحد أن يتنبأ باتجاه تطور الأوضاع الحالية. فكل تطوّر يحمل داخله نقيضه. ويعود هذا أساساً إلى أننا نعيش حالياً بدايات عصر جديد, ولانزال نتعرف على مقدماته, ونتلمس ملامحه, ونحاول تشخيص سماته وخصائصه, وإن كانت تأثيراته أقوى من أن يتجاهلها أحد. ويتبدّى هذا الأمر بجلاء في الجدل الدائر حول تأثير عصر المعلومات والثورة التكنولوجية على قضية الديمقراطية.
لقد كانت الحكومات غير الديمقراطية في الماضي تقوم ببساطة بمنع الكتب والصحف, بل والأفكار, من التداول, وتشوّش على المحطات الإذاعية, وتحرم مواطنيها من الاتصال بـ(الغرباء), الذين كانوا دائماً مرادفاً لـ (التآمر), و (الخطر), و (تدمير أخلاق شبابنا). لكن البعض يؤكد أن عصر هذه الحكومات قد انتهى شاءت أم أبت استناداً إلى أن العولمة ستلعب دوراً مؤثراً في إضعاف هذا النمط من الحكومات والدول, ليس فقط بواسطة قدرة تكنولوجيا المعلومات على فضح هذه الأنظمة, وإنما أيضاً من خلال استمرار الليبرالية الاقتصادية في إضعاف قوة الدولة عبر أخذ الثروة من أيدي الحكومة ووضعها في جيوب الأفراد, الذين يبحثون ليس فقط عن حماية قانونية لممتلكاتهم, وإنما يريدون أيضاً أن يكون لهم دور أكبر في القرارات المؤثرة على هذه الممتلكات.
وتحاول بعض الحكومات, خاصة في العالم النامي, أن تمزج بين الانفتاح الاقتصادي والسياسات الاستبدادية. وقد تتمتع هذه الحكومات بنجاح مؤقت. لكن تدفق المعلومات سيؤدي على المدى البعيد - كما ظهر في تايوان وتشيلي - إلى تغذية التحول إلى الديمقراطية.
غير أنه من الخطأ تصوّر أن الفضاء الإلكتروني يعزز الديمقراطية دائماً. فنظرة متروية لكيفية عمل وسائل الإعلام في عالم اليوم تبين أن الإعلام يظل عرضة للتلاعب إما عن طريق السلطة السياسية, التي تحرّكها المصالح الذاتية الآنية, أو عن طريق القوى الاقتصادية للشركات التي تحد من الموارد الإعلامية وتنوعها ومصداقيتها.
وينبغي أن ندرك أن القوة والتطور اللذين شهدتهما وسائط المعلومات ليسا موجودين في الفراغ, وإنما هما يعكسان حالة التنمية الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية لكل مجتمع وكل دولة. لذا ليس من المستغرب أن نجد وسائل الإعلام في الدول الاستبدادية تتحول إلى خادمة للسلطة السياسية وتوجهاتها وأولوياتها. غير أن الأمر ليس أحسن حالاً في الدول المتقدمة. فقد وصلت ملكية وسائل الإعلام في بعض أعرق ديمقراطيات العالم إلى ما يعتبره البعض مستوى خطيراً من التمركز والاحتكار. ففي المملكة المتحدة, تصل نسبة الانتشار الإعلامي لمؤسسات روبرت مردوخ إلى 37% من معدل تداول الصحف الوطنية اليومية, كما نجد أن الصحف الوطنية التي يمتلكها روبرت هيرسانت - وقد دخل السجن لتعاونه مع النازي أثناء الحرب - تمثل ما يزيد على ثلث الصحف الوطنية المتداولة في فرنسا وتصل إلى الخمسين في المائة في بولندا, أما في إيطاليا, فإن رئيس الوزراء الملياردير سيلفيو بيرلسكوني يمتلك القنوات التلفزيونية التجارية الثلاث التي تحتل موقع القمة, فضلاً عن شبكة تلفزيونية أخرى مدفوعة الاشتراك وعدد من الصحف والمجلات, وجميع هذه الأدوات دعّمت بقوة حزبه السياسي اليميني الذي وصل إلى السلطة. بل إن نظام الإعلام الأمريكي مع تدعيمه لمجموعة كبيرة ومتنوعة من أساليب التعبير, قد أصبح على نحو متزايد أكثر تركّزاً في أيدي حفنة قليلة من المؤسسات الضخمة التي يتزايد ارتباطها بدورها في مشاريع مشتركة يهدف الكثير منها إلى اكتشاف أشكال جديدة من الاتصال.
إننا نعيش اليوم عولمة القطب الواحد. إن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحوّلاً في العالم, بل إنها تخلق عالمها المجازي أيضاً. وتمكن أقمار الإرسال التلفزيوني الصناعية اليوم الناس على طرفي الكوكب من التعرض بانتظام لطائفة واسعة من المحفّزات الثقافية. فالمشاهدون الروس متعلقون بالتمثيليات التلفزيونية التي تنتجها أمريكا اللاتينية, وقادة العالم النامي يعتبرون محطة الـ (سي إن إن) مصدراً رئيسياً حتى للمعلومات المحلية. وأصبحت شبكة الإنترنت ظاهرة كونية على نحو متزايد في ظل تطور فعّال في كل القارات.
وتهيمن الولايات المتحدة على حركة المرور الكونية هذه في مجال المعلومات والأفكار, فالموسيقى الأمريكية, والأفلام الأمريكية, والبرامج التلفزيونية الأمريكية, وبرامج الكمبيوتر الأمريكية أصبحت شديدة الهيمنة, ورائجة جداً ومشاهدة جداً حتى أنها توجد اليوم في كل مكان على الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة. وهي تؤثر فعلياً في أذواق وحياة وتطلعات كل الأمم.
وكما أن الولايات المتحدة هي في واقع الأمر القوة العظمى العسكرية الوحيدة في العالم, فإنها أيضا القوة العظمى الوحيدة في حقل المعلومات. وبينما أصبحت اليابان منافسة نسبياً في مجال تصنيع المكوّنات التي تدخل في تكوين نظم المعلومات, إلا أن تأثيرها لا يكاد يذكر كمصنع للبرمجيات أو كقوة خلف الثورة التكنولوجية, وقد فشلت أوربا على كلتا الجبهتين. وبالتالي أصبحت الولايات المتحدة تحتل مركزاً متفوّقاً في هذه اللحظة وفي المستقبل المنظور.
ويقوم موجّهو عملية العولمة المتسارعة اليوم بتحسين وسائل وأنظمة النقل الدولية, ويبتكرون تكنولوجيات وخدمات ثورية جديدة في مجال المعلومات, ويهيمنون على السوق الدولي للأفكار والخدمات. وهو ما يؤثر في أسلوب الحياة, والمعتقدات, واللغة, وكل مكونات الثقافة الأخرى.
وخلال العقد القادم, ستوجه مبالغ طائلة ليس فقط نحو تأسيس الشبكة الكونية للشبكات global network of networks, التي أسمتها إدارة كلنتون (البنية الأساسية الكونية للمعلومات) Global Information Infrastructure, لكن هذه المبالغ ستستخدم أيضاً لدفع ثمن أسس نظام سيفرض إملاءاته على عقود من الخيارات المستقبلية المتعلقة بالتطوير, وبمعايير الأنظمة, ومشتريات البرمجيات, والخدمات.
ويبقى السؤال المهم: إلى أين سيأخذنا هذا العالم? ومع أن أحدا لا يمكنه التنبؤ بمجمل تأثير ثورة المعلومات, فإنه يمكننا أن نلمس التغيرات التي تحدث في حياتنا اليومية, رغم أنها تحدث بوتائر تكاد تكون غير ملحوظة.
فقبل ظهور الكلمة المكتوبة, كان الناس يعتمدون على ذاكرتهم, وقبل التليفون, كان الناس يعرفون متعة كتابة الخطابات وتسلمها, والفرح لدى تسلم مظروف بريدي عليه خط حبيب أو صديق. وقبل التلفزيون والكمبيوتر, كان لدى الناس إحساس أقوى بالجماعة, ومودة أكثر تجاه الجيران وأفراد العائلة.
لقد جعلنا التلفزيون نلتصق ببيوتنا, وعزلنا عن باقي البشر. وأصبحت المجتمعات أقل حميمية وأكثر عزلة, بعد أن وفّر عصر الكمبيوتر المزيد من الألعاب, والتعامل مع البنوك من المنزل, والتسوق الإلكتروني, وأفلام الفيديو حسب الطلب, والعديد من الخدمات الأخرى. واختفت جلسات الأصدقاء, وحياة المقاهي, واجتماعات العائلة, والكثير من المظاهر الاجتماعية التي تشيع في المجتمع الدفء والتواصل.
والأسوأ من هذا أن هذه الثقافة تروج لما هو صورة أكثر مما هو حقيقي, وما هو خفيف و (مسل) أكثر مما هو ثقيل الوطأة, وبغض النظر عمّا نفعله, يبدو أن العنصر الإلكتروني هو الذي يمثل المستقبل. فشبكة الإنترنت تدفع الحياة إلى ما وراء الحواجز الطبيعية القديمة للزمان والمكان. إذ بوسعك أن تتجول بواسطتها حول العالم دون مغادرة منزلك, ويمكنك أن تقيم صداقات جديدة, وأن تتصل بروّاد الفضاء وهم يدورون حول الأرض, أو أن تتبادل نتائج تجارب مختبرية مع زميل لك على الناحية الأخرى من المحيط.
وهنا, ينشر التلفزيون والكمبيوتر العزوف عن القراءة بين أناس كثيرين لا يرغبون أصلاً في قراءة أي شيء مفصّل وطويل ويحتاج إلى تركيز وعمق, فقط إيجاز, جمل قصيرة جداً, قفز بين القنوات, بهجة فورية, صور سريعة الحركة, إثارة دائمة, فترات انتباه أقصر, إنه عالم أكثر شروره أن تكون مملاً.
والمخيف في هذه الثقافة أن العلاقات الإنسانية المباشرة, بما فيها من دفء وحنان وتعاطف, التي جعلت المجتمعات الإنسانية محتملة على مدى العصور, أخذت في التراجع ليحل مكانها تواصل ضبابي مع الفضاء الافتراضي Virtual.
والواقع أن السوق نفسه لم يعد وحده الذي يحدد المعايير التلفزيونية - مع بعض الاستثناءات, لكننا ندخل بالفعل ـ سواء وعينا ذلك أم لا ـ عالماً جديداً اسمه (العالم الافتراضي), والعالم الافتراضي يسمح لك بارتياد عالم وهمي وبالوجود فعلياً في داخله. فالكثيرون منا لا يمارسون الرياضة, لكنهم يعشقون مشاهدة الرياضيين الكبار أصحاب القدرات البدنية الهائلة, وكثيرون ممن لم يدخلوا يوماً حواراً بريئاً مع امرأة - والعكس صحيح بالطبع - يجدون في العالم الافتراضي شخصيات رائعة, تتسم بخفة الدم والرشاقة والجمال - أو بالعضلات المفتولة - تتصرف بطبيعتها, وعلى سجيتها, كما لو أنك لا تراها, ترقص, وتغني, وتتجرّد, ولأن الناس مغتربون لا يجدون في داخلهم سوى القليل, ولأن أرواحهم ملأها الجدب, فإنهم يصنعون عوالمهم الخاصة الحافلة بالشخصيات الافتراضية, والحميمية الافتراضية, بل وبالحب الافتراضي. وفي ظل الاستبداد السياسي, والضغوط الاجتماعية المرتبطة بظروف المعيشة, التي جعلت كلا منا يعيش في جزيرة منعزلة بعد أن أصبح لا يمتلك الوقت - حتى لو توافرت النية - للتواصل مع الآخرين, وبصعود التيارات المتطرفة التي ترفض التواصل البريء بين الجنسين, وتحرم حتى الابتسام, أصبحنا من الهاربين من الواقع والمتلصصين على الآخرين. وفي هذا العالم يصنع كل منا بطله أو بطلته, غير معترف بحدود, أو رقابة, أو لغة أو لهجة, والخطير أن هذا النوع من الثقافة يدفعنا إلى مزيد من العزلة, ومزيد من العيش في عالم افتراضي حافل بالنرجسية, والنزعة الاستعراضية exhibitionism, والرغبة في الاستحواذ على انتباه الآخرين واهتمامهم ورضاهم. والثقافة التي تروج هنا هي ثقافة القطيع, ثقافة عديمة الاتجاه, تفتقر إلى أي شيء يمكن أن يفسر على أنه وعي اجتماعي, أو قيمة روحية أو إنسانية, وتماماً كما هو الحال مع رواية (451 فهرنهايت) يتعلق الناس بشدة بالشاشات الإلكترونية, ويكرهون القراءة, ويتهللون فرحاً عندما يحرق رجال الإطفاء الكتب, ويتبنى المجتمع بأسره, سواء بإرادته أو تحت تأثير عمليات غسيل الأدمغة, ثقافة تافهة جوفاء تجعل المرء يعيش لحظته وكأنها لحظة في الهواء, لا جذور لها, مستقلة عمّا قبلها وما بعدها. لكن إذا مددنا الأمور على استقامتها, فسندرك أن هذه الرغبة في التخلي عن الذات والمسئولية هي شرط لا غنى عنه لتحقق الاستبداد. وكما قال موسيس فاينلي: (إن أيديولوجية الطبقة الحاكمة لا نفع من ورائها إلا إذا حظيت بالقبول من المحكومين), أي أننا نحن أنفسنا مَن نصنع طغاتنا. وهكذا يتحول الهامش الديمقراطي إلى خواء, وينتشر الخنوع والانسحاب.
إن الاعتماد على الشاشات الإلكترونية هو جزء من شيء أكبر اسمه انتشار الحضارة التكنولوجية. ويتخوّف الكثيرون من أن تفرز هذه الحضارة تماثلاً كاسحاً يهدد الثقافات المحلية. ويعود هذا التخوّف من التماثل إلى الهيمنة المطلقة لصناعات الإعلام والإعلان والترفيه والسينما الأمريكية.
لكن الطبيعة البشرية تقاوم هذا التماثل. فالمكان الذي نعيش فيه - وعاداته وتقاليده وتاريخه - يترك تأثيراً هائلاً فينا, حتى وإن كنا لا نعي ذلك, وعندما يقال لنا إننا متماثلون, فإننا نتحوّل أوتوماتيكياً إلى أصولنا الجغرافية وتجمّعاتنا القبلية نتمترس خلفها حتى نجد إحساسنا بالانتماء, وهو ما يساعدنا على فهم أسباب انبعاث الولاءات العرقية والقبلية والطائفية في عصر العولمة, المفترض أصلاً أنها تزيل الحواجز والحدود بين الدول والتجمعات البشرية.
إن هذا العالم يقسمنا إلى مالكين للمعلومات ومحرومين منها, الأمر الذي يهدد المبادئ الديمقراطية والقيم الليبرالية التي تشكّل جوهر خطاب عصر العولمة والمعلومات والثورة التكنولوجية, ففي البلدان النامية, لا تمتلك أغلبية الناس هواتف وأجهزة كمبيوتر, وحتى إذا امتلكوها, فإنها تصبح عديمة الجدوى ما لم تستثمر الحكومات المحلية بلايين الدولارات في البنية الأساسية للاتصالات - الكوابل والأقمار الصناعية وأجهزة الإرسال والاستقبال. وحتى لو كان هذا هو الجسر الذي سنعبر به الفجوة فستقابلنا هوة أخرى تتمثل في معرفة أغلبية سكان هذه البلدان للقراءة والكتابة.
والحقيقة أن تأثير هذه التطوّرات المتلاحقة في بلدان العالم النامي بشكل عام, وبلداننا بشكل خاص, يسير في اتجاهين متناقضين. فهي من ناحية تمنح وسائل الإعلام عندنا هامشاً من الحرية والديمقراطية غير مسبوق, وهو بالمناسبة هامش لا يعبر عن وعي جديد لحكوماتنا وإنما تتطلبه ضرورة التعامل مع طبيعة النظام الإعلامي الدولي الجديد, وهي ـ التطورات المتلاحقة ـ من ناحية أخرى تعمّق بقسوة من تبعيتنا الإعلامية, ومن هيمنة القطب الواحد الذي يسعى لفرض رؤاه وقيمه على شعوب العالم قاطبة.
وهذا التناقض يفرض علينا أن نتعامل بوعي أكبر مع ما يدور حولنا. فواهم مَن يتصوّر أن بيده تغيير العالم ووقف عجلة التقدم, وأحمق مَن يدعو إلى الاستسلام التام أمام تيار العولمة الجارف, لأن هذا يعني ضمناً التخلي قبل كل شيء عن هويتنا الحضارية وسيادتنا الوطنية.
وليس من سبيل آخر لنا إذا أردنا الخروج من هذا النفق المظلم بأقل الخسائر الممكنة إلا من خلال طريقين: الأول هو العمل على تعزيز التعاون المشترك فيما بيننا على المستوى الثنائي والجماعي, من أجل إقامة تكتل ثقافي وإعلامي يحد من الآثار السلبية لهيمنة القطب الواحد.
والثاني, وهو الأهم, أن يقوم إعلامنا على أساس (الإعلام من أجل التنمية) بهدف الإسهام في ارتقاء المجتمع وتنميته من خلال دفع جمهور القرّاء والمستمعين والمشاهدين إلى إدراك مدى خطورة مشكلات التنمية وجدّيتها وإلى التفكير في هذه المشكلات وأن يدفعهم لابتكار الحلول التي تمكّنهم من تخطي الحلقة المفرغة من حلقات التخلف التي تعيش في إسارها غالبية مجتمعاتنا. ويجب ألا يقوم ذلك على (إلزام) سلطوي, بل على (التزام) مهني يقوم على الإرادة الوطنية الحرة لوسائل الإعلام والنابعة من إدراكها لحالات مجتمعاتنا وظروفها الخاصة.
إن التكنولوجيا تلوح لنا بجنتها الموعودة, ومن المؤكد أن بعضنا سيعبر إلى العالم الجديد. بينما سيسقط البعض الآخر إلى الأبد, وأكرر إلى الأبد, في غياهب التخلف. وليس أمامنا من طريق للعيش في هذا العالم إلا التعامل معه بلغته. وليس أمامنا من سبيل لتحقيق أي نهضة منشودة سوى التفاعل مع هذا العالم من موقع الحر الواثق في ثقافته, وفي صحة مجتمعه وعافيته, لأن حركة التاريخ هي دائماً إلى الأمام, لا تعترف بالكسالى, أو المتخاذلين, أو المتقوقعين على ذواتهم.
ساحة النقاش