تعتبر النخب الثقافية المعنية بنشر «الثقافة العلمية» في الوطن العربي أن «العلم» هو آليات المعرفة، التي نتجت في المجتمعات الغربية بعد الثورة الصناعية، وأن باقي ما عداها «جهل» وتخلّف، وتعتقد أن وظيفتها تقتصر على دعوة المسئولين والحكام في الوطن العربي إلى اقتباس هذا الأصل، فتكرّس جهدها ونشاطها في إيداع توصيات ومقترحات لنشر «الثقافة العلمية».

          تنتشر هذه القناعات بين فئات واسعة من طلاب العلوم وأساتذة الكليات وبين موظفي الإدارات الحكومية المعنية بالثقافة العلمية، وبين موظفي ومسئولي مؤسسات جامعة الدول العربية المسئولة عن نشر الثقافة، وقد باتت هذه المفاهيم ثقافة عامة بين نخب الوطن العربي، وهي أشبه بالمعتقدات الغيبية كباقي معتقدات «اقتباس الأصول»، لم تتقدم غير أنملة منذ أن طرح مفكرو النهضة إشكالية «نقل العلم والحداثة»، وهذا يعود لسببين:

          أ- تعتبر هذه الرؤية «الثقافة» مجرد عملية ذهنية مدروسة مفصولة عن النشاطات الإنتاجية، وأن المعارف التي راكمتها الفئات المنتجة تتناقض مع «الثقافة العلمية»، وأنه ينبغي على هذه الفئات تعلّم آليات وثقافة الإنتاج الصناعي الكبير في مجتمعات غير صناعية وغير منتجة للثروة.

          تصر هذه الرؤية على تجاهل الرأسمال البشري الكبير الذي يتألف من الشباب والفئات الاجتماعية المنتجة في الوطن العربي، ومن النخب الثقافية الواسعة العدد والمشلولة الطاقات. وتتشبث بفكرة أن المجتمعات العربية لا يمكنها إنتاج «ثقافة علمية» مختلفة عن ثقافة الإنتاج الصناعي الكبير، وأنه لا أمل في إنتاج ثقافة علمية إذا لم يعمد حكام الدول العربية إلى العمل بالتوصيات والاقتراحات الجاهزة التي يسوقها خبراء «الثقافة العلمية».

          في «مشروع استراتيجية نشر الثقافة العلمية والتقنية في الوطن العربي»، وهو مشروع نموذجي أعده كبار خبراء نشر «الثقافة العلمية»، يرد في تعريف مفهوم الثقافة العلمية: «يجب أن يكون المجتمع قادراً على استعمال عقله لإشباع المعرفة والعلم، لنهوض وطنه وتحوّله من مجتمع الأساطير والخرافات إلى مجتمع المعرفة والعلم والتقانية». وفي تفسيره لنهضة الثقافة العلمية في الغرب يورد سببين:

          أ- إن القاعدة الجماهيرية العريضة، تزود المجتمع بالعلماء، وكلما كبرت هذه القاعدة، نمت احتمالات الإبداع والإنجاز وزادت فرص العقول والكفاءات.

          إن دافع الضريبة عندهم هو الذي يؤثر بمتابعته ومساءلته على أوجه الإنفاق، وبالتالي فإن الدعم المالي الضخم المطلوب لمختلف البرامج والمشاريع العلمية كان وراءه درجة عالية من «الاستحسان الثقافي» للعلوم بين العامة.

          والحال أن حجر الأساس في النهضة الثقافية العلمية في بلاد الغرب هو تلبية احتياجات الإنتاج الصناعي الذي يتطلب تربية الكوادر في المدارس والجامعات، ويتطلب إنتاج علماء في مختبرات البحث العلمي، ويتطلب تطوير التقانيات وتنظيم الإدارة، وهو الأمر الذي يخلق ثقافة علمية وتقانية موائمة لاحتياجات الأغلبية في المجتمعات، وينظم هذه الأغلبية في مؤسسات وقوانين وآليات من العمل الإنتاجي لا تؤثر فيها الخرافات والأساطير وباقي المعتقدات الغيبية، التي تتعايش مع انتشار «الثقافة العلمية» وإنتاج التقانية. فالثقافة العلمية في المجتمعات الغربية - كما هي في المجتمعات الأخرى - ليست ثقافة تعليمية ذهنية قائمة بذاتها، إنما هي وليدة نشاطات إنتاجية ونظم اجتماعية منبثقة عن النشاطات الإنتاجية، ترسخت في ذهنيات وآليات عمل، وباتت سلوكًا مهيمنًا في المجتمع بتوالي السنين والأجيال.

          إلا أن الوجه الآخر لنشر الثقافة العلمية وتطوير التقانيات والبحث العلمي في المجتمعات الغربية هو رفع سقف التقنيات أمام المجتمعات الأخرى لحرمانها من إمكان المزاحمة والمنافسة الصناعية في أسواق هذه المجتمعات والأسواق العالمية. فعلى العكس من الوهم الشائع بأن المجتمعات تبني نفسها من ذاتها، فإن المجتمعات الصناعية طوّرت تقانياتها وثقافتها العلمية من قدرتها على السيطرة على المجتمعات الأخرى، ومن حرمانها من إمكان التصنيع ومن اللحاق بتطوير التقانية والثقافة العلمية.

          لا يقبل نموذج التصنيع الغربي النقل، وتقليد الأصل، إنما هو تجربة تاريخية وآليات عمل يمكن أن تفيد منها المجتمعات الأخرى في تطوير نشاطاتها الإنتاجية القابلة للتطوير في مجتمعاتها، والقابلة لتحقيق خروقات في المجتمعات الأخرى. على هذا الأساس، يمكن بناء آليات عمل لتطوير التقانيات، وكذلك نشر الثقافة العلمية المرتبطة بنشاطات إنتاجية.

          ومن جانبها، اكتشفت المجتمعات الصناعية الجديدة (مثال النمور الآسيوية)، طريقًا خاصًا لتطوير التقانية ونشر الثقافة العلمية في قطاعات كبيرة من مجتمعاتها، فلم تكدّس هذا الكم الهائل في بحث عوائق نشر الثقافة العلمية، إنما أنتجت معرفة عينية فيما يمكن أن تنتجه هذه المجتمعات، وتحقق به خرقًا في المجتمعات الأخرى. عقدت هذه المجتمعات شراكة ثلاثية بين الدولة والقطاع الخاص والقطاعات الإنتاجية الحرفية والعائلية لتطوير النشاطات الإنتاجية التي سمحت بوجودها الصناعات الإلكترونية خلال عقدين من الزمن، قبل أن تكتسح الدول الصناعية القديمة المجتمعات الأخرى بتقليل الكلفة والقدرة على المنافسة.

          انتشرت الثقافة العلمية في الدول الصناعية الجديدة عن طريق تأهيل اليد العاملة الماهرة لتشغيلها في الإنتاج، وانتقلت إلى الأرياف والقطاعات الحرفية والعائلية عبر دمج هذه القطاعات في آليات الإنتاج، كما استثمرت في إدارات الدولة والهيئات الحكومية والخاصة، لتنظيم الإنتاج وتنشيطه. وفي سياق هذه الدينامية الاقتصادية والاجتماعية، تحمّلت النخب الثقافية مسئولية نشر الثقافة العلمية بمحو الأمية، وبإصدار دوريات علمية تلبّي احتياجات الفئات المنتجة وبانكبابها على الإنتاج العلمي وبالمساهمة بتأهيل اليد العاملة و... ولاشك أن النخب الثقافية في هذه المجتمعات أنتجت توصيات ومقترحات وإبداعًا فكريًا يلبي احتياجات ملموسة، فلم تستند إلى تحليلات مستنبطة ولم تكن توصياتها ومقترحاتها موجّهة للغائب.

          أغلب الظن أن هذا النموذج الصناعي الجديد غير قابل هو الآخر للاستنساخ والنقل إلى الوطن العربي لأسباب كثيرة أهمها غياب دور الدولة العربية في استشراف طاقات مجتمعاتها، ومنها أيضًا صعوبة التوصّل إلى منافسة إنتاج المجتمعات الصناعية الجديدة، هذا فيما لو بدأت البلدان العربية العمل اليوم لتطوير نشاطات إنتاجية مماثلة، وهو أمر لا يبدو ظاهرًا في الأفق المنظور، إنما تبرهن هذه التجربة التاريخية مرة أخرى على أن نشر الثقافة العلمية مرتبط بتطوير النشاطات الإنتاجية، ومرهون بخدمة هذه النشاطات واحتياجات الفئات التي تعيش منها.

          غير أن تجارب التاريخ لا تقف عند نموذجين أو أكثر من تطوير النشاطات الإنتاجية ونشر الثقافة العلمية، فالمجتمعات الكبيرة يمكنها اكتشاف نموذج خاص بها مبني على إدراك طاقاتها، وعلى معرفة بطبيعة تناقضات النشاطات الإنتاجية في المجتمعات الأخرى وسبر اختراقها، ولا تشذ مجتمعات الوطن العربي عن هذه القاعدة، شرط مساءلة منطق النقل والاستنساخ، وإعادة الاعتبار لقيمة الرأسمال البشري والاجتماعي من أجل إيجاد دينامية خاصة تخرجنا من الحلقة المفرغة التي نعيشها في المرحلة الراهنة.

          يذكر «مشروع استراتيجية نشر الثقافة العلمية» أن «الثقافة العربية تتصف بما يُعرف في علم الاجتماع بالثقافة الريفية أو الثقافة الزراعية، وهذا النوع من الثقافة بعيد إلى حد كبير عن العلم والتقانة، وخاصة التقانة المتقدمة. وهذا الانتقاء بين الثقافة التقليدية الريفية الزراعية والثقافة الحديثة العلمية والتقانية صاحبه إيجابيات وسلبيات، بل وتناقضات وظواهر اجتماعية.

          لعل اكتشاف النموذج الخاص بمجتمعات الوطن العربي يكمن باكتشاف حل لهذه الإشكالية تحديدًا، والتخلي عن الأحكام المسبقة في إقامة التناقض بين العلم والأرياف. وهي أحكام مسبقة تفضي إليها ثقافة «علمية» غيبية تظن العلم قناعات ذهنية ومعادلات رياضية مفصولة عن أسباب معاش الأرياف والمدن، وتؤمن إيمانًا دينيًا بأن كل المجتمعات يمكن أن تسلك طريقًا علميًا أصيلاً، دون اعتبار لطبيعة قدرات هذه المجتمعات وللمرحلة التاريخية التي تتعايش وتتنافس فيها مع المجتمعات الأخرى.

          ساهمت هذه المعتقدات بانهيار البنى الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعات الوطن العربي، وهي بنى كانت قائمة في الأرياف والمدن على الإنتاج الحرفي والعائلي، والنشاطات التجارية الصغيرة، وقد أفضى هذا الانهيار إلى ازدهار رأسمال المشعوذين والسحرة من شتى الأصناف باستغلال ضيق أحوال المعاش، التي عمّت فقراء الأرياف وتشرّدهم في مدن التصنيع وهو ليس سمة خاصة «بتخلف العقل العربي»، إنما ظاهرة تاريخية نشأت منذ فجر التاريخ. فعندما تضيق الأرض على سكانها تلجأ للغزو والتوسع أو تنكفئ وتنحسر أمام أشكال لا حصر لها من اللاعقلانية. لقد تبنّت حكومات الدول العربية إثر الاستقلال السياسي معتقدات التنمية الاقتصادية القائمة على الرأسمال الكبير و«التصنيع الثقيل»، من غير أي أفق لمستقبل هذه التنمية الاقتصادية في مجتمعاتها، وفي المنافسة العالمية. فالأسواق العربية ضيقة ومحدودة وغير قابلة للانفتاح على بعضها والتكامل فيما بينها، لدرجة أن هذا الأمر لم يطرح على بساط البحث الجدي فظلت الدعوة للوحدة العربية دعوة عرقية - لغوية. كما أن الأسواق العالمية كانت قد أغرقت بالصناعات الثقافية وأنجزت السيطرة عليها.

          آلت التنمية الاقتصادية بالاستثمارات الكبيرة التي احتكرتها الدولة إلى ما آلت إليه في مجتمعات الوطن العربي، ولم يكن للنيات الطيبة أن تغير مسارها، فقد أعدّت آليات تلك التنمية إثر الحرب العالمية الثانية لإغراق «الدول النامية» بالديون، وحرمانها من المشاركة في العملية الإنتاجية العالمية، فاعترفت الدول الصناعية بـ«إزالة الاستعمار» السياسي، إنما كبّلته بسلاسل التبعية الاقتصادية. وقد انهارت «الدول النامية» تحت وطأة هذه السلاسل، ولم يصمد منها غير دول قليلة استطاعت الحفاظ على منشآتها الصغيرة ودمجتها في دينامية اقتصادية - اجتماعية، وفي ثقافة علمية إنتاجية تكمّل إعادة التأهيل والتقنيات، وهي فلسفة مغايرة لمعتقدات تقديس «علم» التقانية الكبيرة والصناعات الثقيلة.

          وقد أفضت خيارات إسقاط نماذج جاهزة إلى القضاء على معارف علمية وعلى تقانية بسيطة متوارثة ومتراكمة في الأرياف والمدن، استبدلت بـ«علوم» سامة و«بثقافة علمية» مدمّرة. ففي الحقل الزراعي - على سبيل المثال - تم اعتماد نموذج ما سمي بـ«الثورة الخضراء الكبرى» في نهاية السبعينيات، وانتقلت إلى المجتمعات العربية علوم وتقنيات الزراعة الكيماوية ومبيدات الرش والبذور المصنّعة من أجل زيادة الإنتاج ومحاربة الجوع وسد احتياجات زيادة عدد السكان، أما «الثقافة العلمية» الملحقة بها فتولت مهمة تبرير توصيات البنك الدولي وسياسة زراعية «تصدير الخضراوات والمواد الزراعية الخام»، مرسومة لخدمة سداد فوائد الديون. وقد نجم عن هذه السياسة كوارث بيئية أدت إلى تبديد المياه المصدّرة في الخضراوات وإلى تخريب الأرض بالملوثات الكيماوية، وإلى تشريد المزارعين وتجويعهم في الريف والمدن، وإلى ازدهار ملكيات الأراضي الزراعية - الصناعية على حساب ملكية الأراضي العائلية، كما أفضت إلى فقدان تراث هائل من التنوع الحيوي والنبات وطرق حفظ واستخدام البذور. وعلى أية حال أفضى نقل واقتباس هذا النوع من «العلم» و«الثقافة العلمية» إلى كلفة اجتماعية وصحية لا يمكن تعويضها، وأدى إلى خسارة تتجاوز حجمًا وكما، مجمل فئات الأموال التي «ساهمت في زيادة الدخل الوطني» من العملة الصعبة.

          يوصي مشروع «استراتيجية نشر الثقافة العلمية»، كما أوصت مشاريع وأبحاث الخبراء العرب في لقاءات واجتماعات كثيرة ومستمرة، بمحاربة الجهل» و«بمكافحة التخلّف» و«بمحاربة عوائق انتشار الفكر العلمي»، ثم يكاد يوصي باستيراد مجتمع يتوافق مع النموذج الذهني، الذي رسمه خبراء الثقافة العلمية في مخيلتهم، فيقول بـ«ضرورة تحويل المجتمع العربي من مجتمع شفهي إلى مجتمع تواصلي معرفي»، وهو أمر يدل على أن الخبراء يرون ثقافة المجتمع عائقًا ويتغاضون عن العوائق في السياسات التي تفضي إلى تفكك المجتمعات وانهيارها، وتؤدي إلى مناخ ملائم للأساطير الشعبية.

          حافظت هذه الثقافة الشفهية على تواصل معرفي طيلة الدهر في استقرار الأرياف، وحفظ المياه وإنتاج الأرض وحماية البيئة وآل هذا التواصل إلى تراكم معرفي في التكيّف مع الطبيعة وإنتاج مهارات عالية في الحرفيات والتعدد الإنتاجي. وبالمقابل يستمر دعاة «الثقافة العلمية» بنشر خرافات وأساطير «علمية» أشد خطورة من «جهل» عامة الناس. فالمشاريع الخرافية لري الصحراء وتبديد المياه هي بعض من أساطير «ثقافة جديدة» هو أسطورة أخرى تفضي إلى القضاء على فرص العمل في النشاطات الإنتاجية المحلية وتشريد ما تبقى من فئات منتجة، وما الثقافة العلمية لتشجيع الاستثمارات في المرافق العامة والمياه والصحة والتعليم، غير خرافة تقضي إلى حرمان فئات واسعة من حقها بالتعليم والنظافة والطبابة، ولا تترك لها خيارًا غير التعاويذ والشعوذة.

          لا يمكن لمساعي «محاربة عوائق انتشار الفكر العلمي» أن تثمر إذا لم تضع نصب عينيها المحافظة على ديمومة الموارد الطبيعية الباعثة للحياة، والعمل على توسيع النشاطات الإنتاجية المحلية. كما لا يمكن للثقافة العلمية أن تضطلع بدور فعال إذا لم توظف في خدمة القوى المنتجة وإعادة تأهيلها وتزويدها بتقانية علمية تلبي احتياجاتها، وتفتح آفاقًا جديدة في دخول الشباب إلى سوق العمل وتعلّم التقانية المنتجة، وهو أمر ينتقل بدوره إلى التعليم لإعداد عمالة ماهرة وينتقل إلى الإيرادات والإدارات الحكومية وينتقل تدريجيًا إلى العائلات والأطفال والأجيال وإلى الدوريات العلمية، التي تنقل المعارف وتلبي احتياجات عينية في تراكم المعرفة وانتقالها... إلخ.

          تتيح هذه الثقافة العلمية إنشاء قطاعات إنتاجية مزوّدة بتقانة علمية موائمة لخريجي الكليات العلمية ولفئات متوالدة من النخب الثقافية المهتمة بنشر الثقافة العلمية. تجر هذه النشاطات في سياقها دينامية تقانية علمية لاستثمار الخبرات التقليدية وإعادة رسملتها، وتجر دينامية أخرى لتطوير تقنيات الإنتاج الطبيعي والحرفيات والبحث العلمي، وكذلك دينامية في تأهيل الطاقة البشرية ونشر الثقافة العلمية والدوريات، والأهم أنها تتيح الدمج بين المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وبين قطاعات إنتاجية يمكن أن يستثمر فيها القطاع الخاص والحكومي، ويحقق بها خرقًا مؤثرًا في الأسواق العالمية مثل صناعة الدواء الطبيعي الذي تزخر بلادنا بأعشابه النادرة ومواده الأولية، وهي ثروة عظيمة يحجم عن استثمارها القطاع الخاص، ولا يجري حساب خسارتها في كلفة الزراعة الكيماوية، التي تقضي على التنوع الحيوي، وتحول دون إمكان رسملته، يجر هذا القطاع بدوره ديناميات كثيرة في قطاعات إنتاجية متعددة، وفي البحث العلمي وإنتاج تقانة لتطوير عمل هذه القطاعات، وتلبي احتياجاتها. المهم في الأمر تغيير المنحى الأساسي من انهيار الإنتاج إلى بناء قطاعات إنتاجية وتغيير الأفكار المسبقة في التقانة العلمية المجردة إلى ثقافة علمية في خدمة الدينامية الإنتاجية والدينامية الاجتماعية.

          قامت الدولة بالتخطيط والتنظيم لهذه الدينامية في المجتمعات الصناعية الغربية، وفي المجتمعات التي قامت بالتصنيع في مرحلة لاحقة. في حين أن الدولة غائبة في بلادنا، إن وظيفة المثقف - العلمي هي البحث عن حلول في حقل اجتماعي معين، ومازالت المجتمعات العربية، بالرغم من استنكاف الدول عن لعب دورها، وهي قدرات تحتاج إلى مبادرات تفتح الآفاق المقفلة يقوم بها الخبراء والمثقفون - العلميون لإنشاء آليات عمل تحفظ النشاطات الإنتاجية وتزوّدها بتقانة وثقافة علمية. فالغالبية الساحقة من أبناء الوطن العربي يقبلون على تعلم هذه الثقافة إذا لبّت احتياجاتهم المعيشية وضمنت لهم حياتهم ومستقبلهم، ولا يتناقض هذا الإقبال مع ما يدور في رءوس بعضهم من خرافات و«جهل» موروث ومحدث، فالشعوب لا تغيّر عقولها ومعتقداتها بـ«محاربة الجهل»، وبـ«نشر الثقافة العلمية»، إنما تغير معارفها بتجارب الحياة وبتطوّر آليات العمل التي تساعد في تغيير أسباب المعاش، وهذه المعارف هي ثقافة علمية متجددة وحيوية لا تتوقف أبد الدهر على البديهيات الأولية.

          تلبي هذه الثقافة العلمية احتياجات المتنوّرين من رجال الأعمال والمتموّلين العرب. فقد شارفت المضاربة العقارية على التخمة وأخذت المضاربات المالية تهدد بنشوب أزمة مالية كبرى، خاصة في بلدان الخليج العربي، كما أن الاستثمار في الودائع المصرفية لا يمكنه أن يدر أرباحًا إلى ما لا نهاية إذا استمرت القطاعات الإنتاجية بالانهيار. وإذا بدأ المناخ الاقتصادي العام يميل نحو النشاطات الإنتاجية المربحة في الأسواق المحلية والعالمية، يمكن للثقافة العلمية أن تلعب دورًا مؤثرًا في حث رجال الأعمال المتنوّرين على المشاركة في بناء النشاطات الإنتاجية في بحثهم عن الأرباح المستدامة وازدهار الأعمال، وعلى المساهمة بتأهيل اليد العاملة الماهرة، وتطوير التقانية النظيفة، والبحث عن تحقيق اختراقات في الأسواق العالمية بمنتجات جديدة. إنما يستدعي هذا الأمر تخليص الثقافة العلمية من العلم المجرد، ومن تقديس ما يطفو على السطح في تجربة المجتمعات الصناعية.

          إن الفهم العميق لتجربة المجتمعات الصناعية سييسر لنا تقييمها والاستفادة منها دون انتحال كما يجعلنا نفيد من تناقضاتها لتحسين مواقعنا في العلاقة بها، أو البحث عن سبل التبادل المتكافئ معها وتبادل اختراق أسواقها. (إن عائدات تصنيع مشتقات الحليب في بلد صغير مثل هولندا تفوق عائدات النفط العربي، وفي فرنسا تحتل الصناعة الزراعية الكيماوية المرتبة الثانية في غزو أسواق العالم، إنما لا تستطيع هذه البلدان منافسة الإنتاج النوعي، والتصنيع الطبيعي في عقر دارها).

          يسعى المهتمون العرب بنشر الثقافة العلمية منذ عصر النهضة إلى نقل العلم ومحاربة الجهل والتخلف، وكذلك مكافحة عوائق نشر الثقافة العلمية، ولم يحققوا نجاحًا يذكر، فهم يحاربون عمليًا طواحين الهواء ويقدّمون خططًا ومشاريع استراتيجية خيالية لنشر الثقافة العلمية لا تعيّن احتياجات فئات اجتماعية بعينها، إنما ينظرون إلى ما يدور في رءوسها، ويؤمنون بمعتقدات مجردة وغيبية مفصولة عن النشاطات الإنتاجية ونظم الحياة، ويتوجهون إلى الحكومات والمسئولين ولا يتوجهون إلى الفئات المحتاجة للثقافة العلمية، بينما تعرض الحكومات عن أي اهتمام بتوجهّاتهم، وقد باتت هذه المعتقدات، والحال هذه - معرض مساءلة عن دواعي استمرارها وعن الأسباب التي تحول دون إعادة النظر في مسارها واستخلاص الدروس من تجاربها.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 125 مشاهدة
نشرت فى 2 أغسطس 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

358,691