الإنشطار الثقافي وأستخدام العقل .

__________________
لعل من أخطر علل التدين، التي تسربت إلى المسلمين ، ذلك الصراع المفتعل بين الوحي، وبين العقل، أو بين الدين، وبين العقل، حيث تشكلت الكهانة الدينية الكنسية التي مارست الإرهاب الديني ، واحتكرت الفهم والتفسير ، والاجتهاد والتعليم، وجعلت الدين نقيض العلم ، والعقل، وجعلت من مقتضيات التدين الصحيح، إلغاء العقل وإغلاقه، ( فمن تفلسف فقد تزندق )، وكان شعارها: (أطفىء سراج عقلك واتبعني )، وحالت دون العقل ووظيفته في النظر والتفكير ، واكتشاف السنن والأسباب، وإدراك علة الخلق، ونسبت ذلك لإرادة الله، وكأن في الأمر تعارضاً، بين الأسباب التي أرادها الله، موصلة إلى النتائج، وبين إرادة الله ! وتسرب هذا البلاء، وهذه الثنائية، بين الوحي والعقل، إلى الفكر الإسلامي، واستنزفت منه هذه الجدليات، البعيدة عن طبيعة الإسلام وقيمه، ردحاً طويلاً، مزق نسيج الأمة الثقافي، وبعثر وحدتها الفكرية، وملأ حياتها بالفرق والاختلافات، بعيداً عن المواقع الفكرية المجدية؛ وبدل أن تترجم قيم ومبادىء الإسلام، إلى الأمم الأخرى ، لتخليصها من شقوتها، وما يمارس عليها من الإرهاب الديني، ومن ثم إلحاق الرحمة بها، ترجمت تلك الجدليات إلى الإسلام، وفُصّلت عليه، فأوى ذلك إلى لون من الانشطار الثقافي الرهيب، الذي لا يزال يفعل فعله في مناهجنا التعليمية إلى اليوم .
فالذين توجهوا صوب الوحي الإلهي، توجسوا في كل دعوة، لإحياء وظيفة العقل، واستعادة دوره في الاجتهاد، وتطبيق الإسلام على الواقع، من خلال الخلفيات الفكرية التاريخية، التي دخلت على الإسلام باسم العقل لإلغاء الشرع؛ وتخوفوا من أن الدعوة العقلية في حقيقتها يمكن أن تكون بديلاً عن الوحي ، ونقيضاً له، خاصة وأن كثيراً من دعاة إحياء وظيفة العقل ، نشأوا في مناخ الفصام الثقافي النصراني، بين العقل، والوحي ، ولم يكن للدين نصيب من فكرهم وسلوكهم .. وساهمت بهذا التشوه الثقافي، مناهج التعليم المزدوجة، إلى حد بعيد .
ولا يزال هذا الانشطار الثقافي، يستنزف الكثير من الطاقات الفكرية والعقلية في العالم الإسلامي، في معارك مفتعلة، بين الوحي ، والعقل، على الرغم من أن العقل في الإسلام سند الحقيقة الدينية ، ومحل الوحي ـ كما أسلفنا ـ وإذا أسقط العقل ، سقط الوحي والتكليف؛ وأن الوحي هو الإطار المرجعي الذي يمنح العقل القيم المعصومة، ولا تعارض - كما يقول الإمام ابن تيمية وغيره - في الإسلام: بين صحيح المقول، وصريح المنقول ، ذلك أن مصدر العقل والوحي هو الله، فلا يمكن أن يقع التناقض والتعارض، وأن أي تعارض معناه ضعف في سند المنقول، أو عجز وخطأ في كيفية الاستدلال . وعند احتمال التعارض، فإن حكم الوحي المعصوم مقدم على حكم العقل المظنون . ومع ذلك يأبى دعاة التغريب والعلمنة في العالم الإسلامي، إلاّ أن يجعلوا الوحي والغيب والدين ، نقيض العقل، والعلم اليقيني .
ولعل من أخطر القضايا في تشكيل العقل المسلم المعاصر أيضاً: هو الخلط بين معارف الوحي المعصومة، ومدارك العقل المظنونة، خاصة في إطار التعامل مع التراث، أو المواريث الثقافية بشكل عام، التي تعتبر ذاكرة الأمة، ومخزونها الثقافي، والمصدر والأساس في عملية التشكيل، وذلك بمحاولة نقل القدسية والعصمة، من قيم الكتاب والسنة، إلى الاجتهادات البشرية، التي لا تخرج في حقيقتها عن محاولات بشرية ، لتنزيل القيم على الواقع المعاش ، والاستجابة لمعالجة مشكلاته، في ضوء قيم الكتاب والسنة .. تلك الاجتهادات، التي يجري عليها الخطأ والصواب، والتي جاءت ثمرة لواقع معين، بمشكلاته ومعاناته، ليس بالضرورة أن تكون قادرة على حل مشكلات جميع العصور، مع اختلاف الزمان والمكان.. وبدل أن يكون التراث والفهوم السابقة من الموارد الخصبة، التي تغني العقل المسلم، وتمنحه قدرات إضافية، وتجارب فكرية، مختبرة ميدانياً، على التعامل مع قيم الكتاب والسنة، وتمكن من توليد الأحكام، والنظر الشامل، انقلبت عند بعضهم إلى آبائية ، وقيد مسبق يحول دون العقل وطلاقته، وحريته في النظر والاجتهاد، والعودة إلى الينابيع الأصلية في الكتاب والسنة .

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 165 مشاهدة
نشرت فى 19 يوليو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

354,855