قصائد شاعر إبراهيم طوقان .
د / محمد ناصرالخوالده
قصائد شاعر إبراهيم طوقان
إلى أي حد يمكن آن تكون مقولة "التاريخ يعيد نفسه صادقة " ...؟ وهل يعيد التاريخ نفسه حقا ؟
آن من المؤكد آن البشر هم الذين يصنعون التاريخ , وبالتالي فإن تكرار التاريخ لنفسه يعني أن وقائع مشابهة لوقائع الماضي قد تكررت ... وأعادت للأذهان ما كان ... فقيل " التاريخ يعيد نفسه " ! 0
والذي يقرأ بعض قصائد شاعر فلسطين إبراهيم طوقان يستطيع إذا تجاوز الفترة الزمنية التي كتب فيها تلك القصائد , والتي عالج فيها وقائع حاضرة آنذاك , أن يرى أن مضامين شعره تعالج واقعنا الذي نعيش فيه رغم آن الرجل قد رحل عن عالمنا منذ اكثر من ستين عاما , وأن قصائده التي سنشير الى بعض منها يتجاوز عمرها السبعين عاما !! .
ولقد مرت فلسطين قبل نكبتها الأولى بأحداث جسام سجلها الشعراء وسجلوا مواقف منها , فمنهم من تناولها بالسخرية المرة والنقد اللاذع في سياق عرضه لها هادفا في كل الاحوال الى تبصير الشعب بما يدور حوله ..
إحساس الشاعر العالي إزاء اللعبة الاستعمارية التي كانت تدور على ارض فلسطين , والتي أوجدت فريقا من المنتفعين من الوجود الاحتلالي البريطاني ممن لا ينتمون الى الأرض أصلا , ومشاركتهم المطامح الاستعمارية والعون الذي ساهموا فيه وساهم أخيرا في ضياع الوطن ..
كل ذلك رصدته أحاسيس وعينا الشاعر فاطلق لسانه يفضح ويوضح ويدعو للتكاتف وصد الهجمة .
في قصيدته " يا حسرتا " المؤرخة في 22|3|1935 يقول إبراهيم طوقان ---
يا حسرتا ماذا دهى أهل الحمى
فالعيش ذ ل , والمصير بوار
أرأيت أي كرامة كانت لهم
واليوم كيف الى الإهانة صاروا
سهل الهوان على النفوس فلم يعد
للجرح من ألم وحق وعار
همدت عزائمهم فلو شبت لظى
لتثيرها فيهم فليس تثار
الظالم الباغي يسوس أمورهم
واللص والجاسوس والسمسار .
إذا تجاوزنا الواقع الذي أفرز هكذا شعرا مرا يقطر بالألم على ما آل إليه بعض الزعامات وتفحصنا واقع الحال الان بعد قفزة سبعين عاما ... ألا ينطبق هذا القول على الواقع العربي المتردي ؟
على الزعماء الذين غدت مقاليد أمورهم في أيدي خارجية حتى إ ذا تعلل هؤلاء الزعماء بالسياسة واعتبروا إدعاء لستر فعلهم آن رضوخهم للإرادة الخارجية هو نوع من " السياسة "
فاءن الشاعر حاضر الجواب :
يا من تعلل بالسياسة ظنها
لطفت – ولان –عصيها
الجبار --؟
ما ألطفها ؟ ما اللين ذاك فكلهم مستعمرون –وكله استعمار -----
آن الشاعر لا يعترف على الاطلاق بالسياسة التي تلقي الى أحضان القوى الخارجية --- وهو لا يعترف بالتالي بالحوار مع تلك القوى – مهما كان الامر فكلهم على شاكلة واحدة مستعمرون ---وينظر إبراهيم طوقان الى " الزعماء " الذين سهل الهوان عليهم , في قصيدة يستعمل فيها ضمير المخاطب –حتى عنوان القصيدة هو ضمير المخاطب ( أنتم ) , جسد في هذه العنوان معنى المواجهة على سخونتها تأتي مسربلة بالسخرية والمرارة .
أنتم ( المخلصون ! ) للوطنية
أنتم الحاملون عبء القضية !
أنتم العاملون من غير قول !
بارك الله في الزنود الثوية!
" وبيان " منكم يعادل جيشا
بمعدات زحفه الحربية
واجتماع منكم يرد علينا
غابر المجد من فتوح أمية
هكذا إذا , تنضج قصيدته بالسخرية والمرارة – والخطاب هنا لم يرد به الا الفضح وكشف هذه الزعامات المزيفة لكنه لم يقل انهم خونة وانهم غير متصدين للقضية وعبئها ولم يقل آن كلامهم يفوق أفعالهم – لقد قال هذه المعاني بالفعل لكن بعد آن أ لبسها ثوب النقيض – وهذه ميزة تجعل للشعر وقعا اكثر أثرا وإيلاما وبالتالي فهو اكثر دلالة من التمرير المباشر بالتصريح – وتصل قمة السخرية بالشاعر من هؤلاء الزعماء الى القول :
وخلاص البلاد صار على الباب
وجاءت أعياده الوردية .
والخلاص هنا يعني الضياع – والأعياد تعني الأحزان والمصائب .
ويتابع :
ما جحدنا " افضالكم " غير أنا لم تزل في نفوسنا أمنية :
في يدينا بقية لا تطير البقية –
انها دعوة في قمة السخرية والألم – نقيضان يجتمعان ليكشفا عمق إحساس الشاعر بالمأساة التي يقودهم إليها هؤلاء الزعماء –
ويطالبهم بالتنحي " فاستريحوا" عن هذه الزعامة حفاظا على ما تبقى من الوطن –
هذه القصيدة ايضا كتبت في آذار 1935 , لنراها حية نابضة بالصدق بعد الكثر من سبعين عاما من كتابتها فإلى أين تقود الكثير من الزعامات العربية الان ؟
وإبراهيم طوقان منذ اكثر من سبعين عاما مضت , يحذر من الركون الى المحتل الغازي , الإنجليز والصهاينة ويرى فيهما خصمان وان وسيلتهما الترغيب والترهيب وان الهدف في كلتا الحالتين هو فلسطين – ويدق أجراس الإنذار :
مصيرك بات يلمسه الأدنى
وسار حديثه بين الأقاصي
فلا رحب القصور غدا بباق
لساكنها ولا ضيق الخصاص
لنا خصمان : ذو حول وطول
وآخر ذو احتيال واقتناص
تواصوا بينهم فأتى وبالا
وإذلالا لنا ذاك التواصي
مناهج للإبادة واضحات
وبالحسنى تنفذ والرصاص
ولم يختلف الامر كثيرا بعد اكثر من خمسين عاما وان تصدرت الولايات المتحدة واجهة الأحداث .
وحين قرر بعض الزعامات التقليدية في فلسطين عام 1943 الخروج بمظاهرة بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع تعلن في المدن الفلسطينية الواحدة بعد الاخرى , ألقت الشرطة البريطانية عليهم واعتبرتهم مسؤولين عن هذه المظاهرات وساقتهم الى المحاكمة ثم صدر عليهم الحكم بالسجن او توقيع الكفالات , فوقعوا كلهم إلا الشيخ عبد القادر المظفر الذي فضل السجن على توقيع الكفالة مع الأعداء المستعمرين .
ويهيج قلم الشاعر يترجم سخط الشعب الفلسطيني على الموقف المتهتك للزعامات العربية التقليدية إزاء العدو المستعمر , وصرخ ساخرا :
أحرارنا ! قد كشفتم عن بطولاتكم
غطاءها يوم توقيع الكفالات
أنتم رجال خطابات منمقة
كما علمنا وابطال " احتجاجات "
وقد شبعتم ظهورا في " مظاهرة "
" مشروعة "وسكرتم بالهتافات
ولو أصيب بجرح بعضكم خطأ
فيها , إذا لرتعتم بالحفاوات
بل حكمة الله كانت في سلامتكم
لأ نكم غير أهل للشهادات ---
انه يحمد الله أن أحدا من هؤلاء الزعماء لم يجرح ولو بالخطأ , لأنهم سيستغلون هذا الجرح في المزايدة وسيظهرون أبطالا --- ويرى الشاعر أن حكمة الله شاءت سلامتهم لأنهم ليسوا أهلا للاستشهاد .
ويؤكد أن فلسطين تطالبهم بالابتعاد عنها فليسوا هم برجالها – انم رجالها أمثال الشيخ المناضل المظفر الذي آثر السجن :
أضحت فلسطين من غيظ تصيح بكم
خلوا الطريق فلستم من رجالاتي
ذاك السجين الذي أعلى كرامته
فداؤه كل طلاب الزعامات !
فماذا يقول طوقان اكثر مما قال عن هؤلاء وماذا كان سيقول عن المتسترين بالوطنية وهم كثر !
أن يسقط قارئ شعر طوقان في الوهم بأن الشاعر كان يائسا من الحال المتردية لبعض الزعامات التقليدية , بل على العكس فقد كان الشاعر يصدر عن إيمان مطلق بشعبه وأمته , وكان
مؤمنا اشد الإيمان بأن " لا يفل الحديد إلا الحديد " وأن المحتل عبء لا يزول إلا بالكفاح , فالقوة
لا تردعها إلا القوة :
نبؤ ني عن القوي متى كان
رحيما , هيهات من عز تاها
لا يلين القوي حتى يلاقي
مثله عزة وبطشا وجاها
لا سمت أمة ذهتها خطوب
أرهقتها ولا يثور فتاها ----
انها دعوة الى مواجهة القوة الغاشمة , بقوة الشعب فلا قيمة لأمة تعتورها المصائب وتبتلي بالعدوان ولا تثور ولا تتحرك --- أنه منطق النضال السوي الذي يرفض المهادنة والخضوع ولا يجد في غير نيل الحقوق كاملة لغة تستطيع الوصول بكرامة الى الوطن واستقلاله .
ونراه يتصدى للمشككين بقدرة الشعب على المواجهة في إيمان وتفاؤل نادرين :
كفكف دموعك ليس ينفعك
البكاء ولا العويل
وانهض ولا تشك الزمان مما شكا
ألا الكسول
وأسلك بهمتك السبيل ولا تقل
كيف السبيل ---
وإبراهيم طوقان كان يؤمن آن الشعب الفلسطيني هو الطليعة – طليعة العرب – طليعة الثورة :
أفنيت يا مسكين عمرك بالتأوه والحزن
وقعدت مكتوف اليدين تقول
حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنت فمن يقوم به إذن ؟ !
ويقول عن الذين يحاولون وأد روح النضال والثورة , وتيئيس الشعب مخاطبا شباب فلسطين
لا تحلفوا بالمرجفين فاءن مطلبهم حقير
سيروا بعين الله , أنتم ذلك الأمل الكبير
آن إبراهيم طوقان وجه شعره وقبل ما يزيد عن السبعين عاما لفضح المتخاذلين وليأسين والمتآمرين ولا شك أن المرتعبين اليأسين في الأمة العربية في واقعنا الراهن يجدون في شعر طوقان الصفعات تلو الصفعات , فهم مفضوحون وامثالهم ! وهو الشعر الصادق الذي يستشف المستقبل يفضح ويعري , لكنه يبني باتجاه العدالة والإيمان بالمستقبل .
د . محمد ناصر
ساحة النقاش