د . محمد ناصر




أنيس صايغ

أنيس صايغ ، وأكتب اسمه هكذا بدون صفته الأكاديميّة (الدكتور) ، لأنه ينفر من المباهاة بالشهادة الجامعيّة ، واحد من الرموز الفلسطينيّة العربيّة الكبيرة ، فكراً ، بحثاً ، تأريخاً ، بناء مؤسسات ، ولذا فصدور (سيرته) حدث كبير ، لأنها شهادة رجل كبير.
يقول الكاتب والناقد الفلسطيني ، رشاد ابو شاور :

ونحن نتجوّل ببطء بين أجنحة معرض كتاب المعارف الإسلاميّة ، في ضاحية بيروت الجنوبيّة ، متجهين إلى قاعة التكريم ، يوم الأحد 7 أيّار من العام 2006 ، في اليوم الذي خصصه القائمون على المعرض لفلسطين ، همس لي الدكتور وهو يبذل جهداً بالتحديق في الكتب المعروضة على الأرفف باذلاً جهداً لقراءة عناوينها :
- " أكثر ما يؤلمني أنني لم أعد أقدر على القراءة ...
في نفس اليوم كانت مفاجأة طيبّة تنتظر جمهور المعرض ، وهي صدور كتاب (أنيس صايغ عن أنيس صايغ) عن منشورات رياض الريّس ، في طبعة أنيقة . الغلاف مزيّن برسم معبّر لأنيس صايغ ، يساره تحمل ملفّاً أبيض ، ويمينه تمسك بريشة ، وتتكئ على رّف من المجلّدات .. .
المقدمة الطريفة التي تنّم عن تواضع ، وروح مرحة ، ستفاجئ القارئ الذي عرف هذا المفكر جّاداً ، حازماً ، قليل الكلام ، هو الذي جعل الكلام معرفة ، وعلماً ، ورسّخ طيلة سنوات قيادته لمركز الأبحاث الفلسطيني ، وشؤون فلسطينيّة ، والموسوعة الفلسطينيّة ، لعقل بحثي علمي رصين ...
يكتب في المقدمّة ساخراً : لم يجد من يكتب عنه ، فكتب عن نفسه ، هذا ما قد يقوله بعض الساخرين ، وربّما معهم حّق ...
ثمّ يتساءل : لماذا يكتب عن إنسان مثلي ؟
هل يتوقّع القرّاء العرب مثل هذا السؤال من أنيس صايغ ؟! "

يبرّر المعلّم أنيس صايغ الكتابة عن شخصيّات هّامة في المجتمع ، غيره : لم أقطع بحر المانش سباحةً ، ولم أهبط على سطح القمر ، ولا تسلّقت قمّة إفرست ، ولا فزت في ملاكمة أو مصارعة ، ولم أحصل على (أوسكار) أو (نوبل) ، أو (بوليتزر) ، ولا أملك ثروةً تغري الملايين ، ولا صوتاً يطرب الملايين ، ولم أسط على حكم ولا مصرف ، ولم أخرج في حياتي العمليّة التي تجاوزت الخمسين سنة عن دائرتين ضيقتين سجنت نفسي فيهما اهتماماً وتفكيراً ، هوايةً وعملاً ...
خمسون عاماً وأنيس صايغ يمنح طاقته العقليّة لأمته ، لفلسطين ، للوحدة العربيّة ، للمقاومة والتحرير ، يرعى ويوجّه عشرات الباحثين في مركز الأبحاث ، يبني مجلاّت ناجحة (شؤون فلسطينيّة ، شؤون عربيّة ...) ، يكتب الدراسات والأبحاث التاريخيّة ، يتعرّض للاغتيال من الصهاينة المجرمين إدراكهم خطورة دوره ، فيفقد بعض أصابعه ، والكثير من ضياء عينيه ، ومع ذلك فهو يشعر بالحرج لأنه يكتب سيرة الخمسين كان فيها مؤسسة في فرد ، وما زال رغم ما أحدثته جريمة الصهاينة في جسده خصب العقل والروح ، رغم التقاعد ، والمكوث في البيت بعد أن بات عاجزاً عن القراءة ، معتمداً في هذا على زوجة هي خير سند .
لماّ ولد الطفل السابع لعبد الله وعفيفة ، رغب الأب في تسميته (بنيامين) ، لكنّ الأم رفضت هذا الاسم : أسماء أبنائنا عربيّة كلّها ، فلماذا نخرج اليوم على هذه القاعدة ؟! 
المولود : أنيس 
الوالد: عبد الله صايغ 
الوالدة : عفيفة البترونيّة 
تاريخ الولادة : الثلاثاء 3/11/1931
أنيس هذا هو آخر العنقود ، وفد إلى الدنيا رغم تحذيرات الطبيب للأب والأم ، لأن حمل الأم قد يهدد حياتها ، لضعف جسد الأم ...
لا يعود الدكتور أنيس إلى شجرة العائلة ، في محاولة ادعّاء العراقة ، فهو يرفض هذه العنعنات ، وهو يشارك الشاعر العربي القائل حكمته ، واعتداده بنفسه وعائلته الصغيرة :
لا تقل أصلي وفصلي إنما أصل الفتى ما قد حصل 
يتنقّل بنا المعلّم أنيس صايغ في بلاد الشام ، فأصل الأب سوري من قرية (خربا) في حوران ، والأم من (البترون) لبنان ، والأبناء فلسطينيّون ، والتزاوج بين الأبناء وقع مع زوجات فلسطينيّات ، سوريّات ، لبنانيات وأردنيّات - زوجة الدكتور أنيس ورفيقة عمره السيّدة هيلدا أردنيّة من السلط - وحتى أجنبيات ...
في كنف أب يخدم الكنيسة بتقشّف ، بصدق ، بإخلاص ، باحترام ، بولاء للعروبة ، وبرفض للانتداب البريطاني ، بعدم تفريق بين الناس بسبب الملّة ، أو الطائفة ، ولكن بصدق المعاملة ، والسلوك ، وبساطة الحياة ، والتآخي مع الجميع دون مماراة ، نشأ أنيس وأخوته وأختهم الوحيدة على تربية صادقة ، منظّمة ، عميقة الإنسانيّة ...
بذرة الكتابة في عائلة صايغ غرسها الأب رجل الدين الإنجيلي ، الذي يكتب عنه إبنه أنيس : كان الوالد مثقفاً ثقافةً لاهوتيّةً وعّامةً واسعةً ، ونشر حوالي العشرة من الكتب في المواضيع الدينيّة ، وكان كثير المطالعة .
كرئيس لمركز الأبحاث ، ومؤسس لسلسة مجلاّت ناجحة ، احتاج أنيس إلى شخصيّة الإداري الصارم في العمل ، وهذا يعود إلى بدايات حياته في الأسرة التي نشأ فيها مستقّل الشخصيّة ، منضبطاً ، صادقاً مع النفس والآخرين ...
في الكتاب يكشف خلفيات انتماء الأشقاء صايغ للحزب القومي السوري ، وبلوغ الأخ فايز مرتبة رفيعة وهو في مقتبل الشباب ، وقربه من المؤسس الكبير أنطون سعادة ، ويطلعنا على تفاصيل دخوله الحزب ، ثمّ مغادرته صفوف الحزب بعد بروز الناصريّة ...
لا يخفي الدكتور أنيس احترامه لمؤسس منظمة التحرير الفلسطينيّة وبانيها ، الأستاذ أحمد الشقيري ، الذي دعمه في تسلّم قيادة مركز الأبحاث بعد شقيقه ، ووضع أسس الموسوعة ، والتحضير لمجلّة شؤون فلسطينيّة ، وحرصه على متابعة أحوال المركز بعد استقالته من رئاسة المنظمة ...
الرئيس جمال عبد الناصر كان على صلة دائمة بالمركز ، يستفسر عن إصدارته ، ويطلب إجابات عن أسئلة ، وبلغ به الأمر أن عيّن مندوباً مقيماً في بيروت ليكون صلة وصل بينه وبين المركز ، وللعناية بأمن الدكتور أنيس والمركز ...
الفصل الأكثر مرارة فعلاً هو الذي يحمل العنوان (في العلاقة مع السيّد ياسر عرفات) ، والذي بالتجربة يبرهن على استحالة نشوء علاقة صحيّة مثمرة بين سياسي فرد حرص دائماً على تبعية الآخرين وولائهم ، ومثقّف حّر معتّد بعلمه ودوره ورسالته ، يحترم نفسه ولا يقدّم تنازلات ...
أنيس صايغ ! راية من رايات شعبنا ، أنتج بعد محاولة اغتياله عام 72 أكثر بكثير مّما أنتج قبل ذلك ، وفي هذا تحد ، فهو رغم كل ما لحق بجسده ، فاعل في الحياة الفلسطينيّة والعربيّة ، هو المفكّر والمؤرّخ - المؤسّسة - الوطني والقومي الكبير الذي ينظر دائماً إلى المستقبل ، إلى فلسطين ووحدة وعزّة العرب...

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 141 مشاهدة
نشرت فى 30 يونيو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

358,440