كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟
ما الذي نعنيه (بالحضارة) وماذا يقصد ب(المسالة الحضارية)؟
زكي الميلاد يوضح في كتابة الموسوم:المسالة \ كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟"
يقول :
المسألة الحضارية نقصد بها الرؤية لمشكلاتنا الحضارية و علاقتنا بالعالم على ضوء هذه المشكلات و التفكير في سبل النهوض والبناء الحضاري الجديد
و يضيف قائلاً :" كما أن المسألة الحضارية تعني أن نفكر على مستوى الحضارة وان نعيد صياغة أسئلة الحضارة بعد هذه التغيرات والتبدلات التي تعصف بالعالم...."بينما تتبين مصطلح "حضارة civilization " : يعني عملية التحضر أو التقدم ، التحول الإنساني من مستوى إلى مستوى آخر .يقال الحضارة البدائية ، حضارة الآلة ... حضارة الشعب أو المنطقة.... كما يعني التهذيب و التأديب.ابن خلدون أول من طرح موضوع الحضارة و التحضر في مقدمته بين البداوة و العمران...."
- و وفق ما أورده: سامي خشبة في ( مصطلحات فكرية)/ اقرب المصادر إلينا-
لكن الأستاذ زكي الميلاد يمتحن الأسئلة بأجوبتها ...لا بالأسئلة المثيرة للجدل و الانفتاح على مزيد من الرؤى و الأفكار.
إن مجمل مناقشته قائم على ما يقوله فوكوياما في (نهاية التاريخ) و غارودي في (حوار الحضارات ).... وهي جميعها ليست الأفكار المطروحة كلها في المسألة الحضارة التي يراد من خلالها انتقال العرب- تحديداً- من واقعهم-دون تحديده-الى واقع المتغيرات- غير المحددة كذلك-!
في حين تتطلب المسألة الحضارية في أي مجتمع. إدراك دوره في بناء الحياة، في إنتاجه أسس الحياة، لا استهلاك ما هو جاهز ز معروف و متداول.
الحضارة.... أي حضارة، معرفة بالشيء... إدراكه و محاولة الافاده منه على تحو سليم و تطوير عملية الافاده هذه بما هو أكثر جدوى و أدق ممارسة ... لاسيما و إننا نشهد أمامنا انتقالات في مجتمعات كانت تعد مختلفة، فإذا هي تسابق الزمن وتقف في موقع منافسة مع دول أكثر تماساً مع التقنيات و يكتسب تجربة. يقول كاستورياديس- نقلاً عن زكي الميلاد- :
" إن ماركس ينتمي في العمق إلى الفضاء المعرفي للرأسمالية و يسبح في حوضها و يتنفس هواءها ، فالفكرة الأساسية لديه كانت تامين الوفرة الاقتصادية ، أو تنمية الإنتاج و هذه هي فكرة الرأسية انه يختلف عن الفكرة الرأسمالية في مسألة توزيع الثروة فحسب" فإذا عرفنا انه كلما أثرى العالم الرأسمالي كلما غرقت بلدان الجنوب بالفقر
إن سكان بلدان الرأسمالية المصنعة لا يتجاوز سبع سكان البشرية (سبعمائة مليون من أصل خمسة بلايين ) ومع ذلك فهي تحتكر معظم ثروات الأرض " أمام هذا الواقع الرأسمالي المهيمن على خيرات الشعوب و الأمم ، إلا ينشد كل فرد متحضر كل سبيل للخروج بقناعات جديدة باجتهادات متميزة؟
نقول الرأسمالية تحفر قبرها بأيديها..... وكلما كررنا القول نجد الرأسمالية تمتد في أجساد البشرية ، حتى تصاب بالتخمة ، فيما شعوب بكاملها تموت من جوع و مرض و جهل!
زكي الميلاد... يدعو إلى " ثقاة كبديل عن السياسة في معالجة الأزمات العالمية " و كأن السياسة لا علاقة لها بالثقافة .... وكأن الثقافة تمتلك عصا سحرية تعالج بإمساكها أزمات العالم؟
يضيف.... داعياً إلى ثقافة تتناول الإنسان بكليته جسدا وروحا و عقلا ووجدانا ليشكل هذا المفهوم عاملا قويا في العلاقات الدولية يتمثل في إعلان الحق بالثقافة..." إلا انه لا يملك الشجاعة للبوح كون الثقافة لم تكن في أي وقت بعيدة عن القرار السياسي في كل زمان و كل مكان ....
صحيح إن الثقافة يمكن أن تستوعب السياسة، ولكن ليس بمقدورها أن تحكم السياسة و تصل إلى بر السلام. السياسة دائما ترسم برنامجها وفق معايير معينة تدركها الثقافة جيدا لكنها تختار الصمت في أحيان كثيرة .
وعندما يقف زكي الميلاد أمام ( العولمة ) يجد فيها :" محاولة لتشكيل رؤية جديدة و مختلفة نحو العالم ،و النظر إليه ككل واحد ، و جعله إطارا ممكنا للتفكير مع وجود آليات و تقنيات لها القدرة في التعامل مع حقائقه و معطياته و عناصره .
لكنه لا يناقش مسألة التوجه الاستعماري كهدف أساسي لسياسة العولمة الأمريكية.... بمعنى احتواء العالم في سياسة أحادية رأسمالية ... وإنما هي :" نزعة التمركز حول الذات ... وعلاقة الغرب بتاريخ الأمم و الحضارات كان محبطاً و مروعاً للغاية ، حين اظهر سلوكاً استعماريا متوحشا و حول ثقافته إلى امبريالية و تقدمه إلى توسيع و سيطرة خارج محيطه الغربي " كما هو الحال الآن مع التجربة اليابانية ... مثلا.
أما الواقع العربي... فما زال في حالة تجزئة و انشغالات جانبية تحول دون اللحاق بركب الحضارة المتسارع...
زكي الميلاد يرى أن :" العقل الغربي عقل نقاد خصب التحولات .وهذا ما يفسر حركة التحولات السريعة في تلك المجتمعات
العقل... هو إذن الذي يعزز مكانة التحضر ، العقل الجدلي الذي يسمو باتجاه ما هو أفضل و أدق و الأكثر صدقا في منطوقه و تطبيقه.
نعم... المعيار هو العقل .. فالمجتمعات حتى تتقبل المتغيرات بحاجة إلى ثقافة متجددة توفر الاستعداد النفسي. بالإضافة إلى عامل الفعالية الاجتماعية التي تجعل المجتمع في حركة مستدامة تتولد منها هذه التحولات ... ذلك أن التحولات لا تنشأ في مجتمع ساكن وراكد ".
من يوفر هذه الثقافة و هذا الاستعداد النفسي ؟؟؟
من ينشد الحضارة إذا كانت الحضارة بالنسبة إليه مجرد ثوابت لا يمكن القبول بإجراء أي تغيير عليها؟
زكي الميلاد ... كان ينبغي عليه إثارة الأسئلة بغية بعث حوافز وهمم و السعي للخروج من دوائر العتمة والسكوت و السكون و الخشية من المستقبل و الخوف من التحضر و تقنياته الحديثة
ولكنه بدلا من إثارة أسئلة العقل، يثير أسئلة القهر و الكسل، يقل ك" الحضارة و أي حضارة لا تسقط إلا بعامل حضاري مركب.."
فهل تتقاطع الحضارة مع الباحث الحضاري الجديد و هل أن ميلاد و عي حضاري جديد يلغي بالضرورة حضارة ما قبلها... لصالح ما بعدها...
إن كل حضارة امتداد طبيعي لما قبل ... ومن ثم لما بعد...
و في إشارة إلى سقوط الاتحاد السوفييتي كونه كان سقوطا سياسيا فكريا و ثقافيا ... كان فيه الكثير من المغالاة... ذلك النظام السياسي المغلق هو الذي سقط فيما الأفكار المرنة المتحركة المكتسبة من فلسفات سابقة حق طبيعي لكل فرد و لكل مجتمع الدوغمائية هي التي سقطت / العقائدية الجامدة التي فهمت بها الماركسية هي التي أدت إلى نتائج الانهيار
الأفكار... كل الأفكار.. تتطور ، تتغير ، تتوسع... لكنها لا تلغى ، الإلغاء الحذف الكلي... قتل عمد للعقل الإنساني و هو يفكر ، وهو يعمل ،وهو يزداد خبرة الغرب يمارس ذات السياسة بقناع جديد يسمى (العولمة)
إن الغرب كما يقول زكي الميلاد:" ليس فقط حاول أن ينفرد بالحضارة ، و إنما قاوم انبعاث الحضارات الأخرى ، وقام بأكبر عملية تدمير للحضارات في العالم".
إذن سياسة الغرب عبر العولمة لا يمكن أن تكون مسألة حضارية ، و إنما هي مسألة هيمنة و استغلال و عبودية و نهب لثروات الشعوب
إن العولمة كما يقول د. محمد عابد الجابري " نفي للآخر و إحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي ، أما ( العالمية ) فتفتح على العالم و على الثقافات الأخرى ، و احتفاظ بالخلاف الإيديولوجي ".
لكن زكي الميلاد يأتي بمفهوم " التعارف هو احد أرقى المفاهيم و أكثرها قيمة وفاعلية ومن اشد ما تحتاج إليه الأمم و الحضارات ..."
فهل يمكن ، و هل هناك بلد لم يعرف بلدا آخر في ظل عالم قائم على الاتصالات السريعة ، والمصالح المشتركة ، إن دعوة زكي ميلاد جاءت متأخرة أكثر من ألف عام..؟!
و إذا قد عرف جيدا – كما يقول- إن :" ثورة المعلومات .. تنتصر لعامل الزمان على حساب عامل المكان ، و أن تدفع بتقدم العلم على الجغرافيا "؛ فإن مسألة ربط (الحضارة ) بمفهوم ( التعارف) تبدو هازلة و متأخرة و مجانبة لمنطق العصر ... وللمسألة الحضارية التي يناقشها في منظور مستقبل يتوجه إليه عالمنا المتغير..
كتاب الأستاذ زكي الميلاد :" المسألة الحضارية " يناقش جوانب حضارية مهمة وساخنة بمعرفة سلفية ، و بأدوات الماضي و أسلحة كاسدة ... مما يجعل المسألة أية مسألة يناقشها عصية على المنطق ... غريبة على عقل نيّر يشهد متغيرات جديدة كل يوم..
----------------------------------
* زكي الميلاد: المسألة الحضارية /كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير ؟ منشورات: المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء ط1-1991.
ساحة النقاش