محمود درويش و(ذاكرة للنسيان)

كتاب "ذاكرة للنسيان" لمحمود درويش . وقد تناول فيه معظم الإشكالات التي طرحت أثناء حصار بيروت بصورة واقعية ممزوجة بشاعرية هادئة تنم عن وعي تام للحدث وأبعاده
يطالعنا الغلاف بأن الزمن هو بيروت ، والمكان هو يوم من أيام آب 1982 . يبدأ الكاتب مقالاته بوصف أهوال الحرب ، وشدة الدمار ، إلا أن همه الأول كان يتركز في كيفية صنع فنجان القهوة الصباحي ، فهو مدمن قهوة ومن خلال الوصف يبدو أيضاً بارعاً في صنعها ، فقد استحوذت على صفحات عديدة من الكتاب (والقهوة لمن أدمنها مثلي مفتاح النهار) . ويضيف في موضع آخر (أتساءل : كيف تكتب يد لا تبدع القهوة) . ومع ازدياد حدة القصف يقر الكاتب بالحقيقة التي بقيت عبر مقالات الكتاب بين أخذ ورد (قلنا سنخرج . فلماذا ينصب هذا المطر الأحمر – الأسود – الرمادي على من سيخرج وعلى من سيبقى من بشر وشجر وحجر) . وهذا يعني أن هذا اليوم الطويل ، والذي هو بطول التاريخ كان آخر يوم من أيام آب ومع المضي قدماً في هذه المقالات يتجلى لنا أسلوب محمود درويش الشاعري المختلط بالتحليل المنطقي ، إلا أن الميزة الأساسية في كتابته عموماً تلك الرمزية الشفافة التي تكاد تنعدم ، (ولكني أكف عن طلب الكناية ، أكف تماماً عن التأويل ، لأن من طبيعة الحروب أن تحقر الرموز ، وتعود بعلاقات البشر والمكان والوقت الى خاماتها الأولى) .

يستمر التداعي في هذا اليوم وتتداخل الأزمنة فهو يوم طويل من أيام آب ، يختزل في وقائعه التاريخ منذ بدء الخليقة . 

ومع استمرار القصف يتراجع الكاتب عن فكرة الخروج لتصبح بين أخذ ورد (لن يمروا.. لن نخرج، اشتبك اللحم مع الحديد وتغلب على الحساب العسير فوقف الغزاة على السور ، هنالك وقت لدفن الموتى، وهنالك وقت للسلاح ، وهنالك وقت ليمر الوقت على هوانا ..لتطول البطولة ، فنحن ، نحن أصحاب الوقت ..) .

وبما أن اليوم طويل فلا بأس أن نرجع ساعة واحدة تقودنا لحصار عكا (أنهم يصححون بجراحهم وطيشهم المبدع حبر اللغة التي سادت شرق المتوسط كله في اتجاه غرب لا يطلب من العبودية غير تحسين شروط التحاقها ، منذ حصار عكا في العصور الوسطى حتى حصار بيروت المكلف بالانتقام من كل التاريخ) .

ثم نتقدم بعده الساعة أو نصف الساعة أو يزيد لنصل الى العام 1948 ، هنا نتأكد من سلامة الذاكرة الجماعية وأنهم لم يستطيعوا تشويهها كما شوهوا التاريخ وزوروه والذاكرة هنا وإن كانت جماعية الدلالة إلا أنها ذاكرة خاصة مغرقة في الخصوصية ، إنك تشعر من خلال هذه المقالات التي اختلط فيها الوعي بالخيال والتاريخ بالواقع ، إن الكاتب تجاوز الحدث ووسع دائرته لتشمل قضايا كثيرة جدا ولكنها في المحصلة تخدم الذاكرة المتوهجة الرافضة للنسيان وتعطي انطباعاً بأن الكاتب يعي طبيعة الصراع الأزلي مع قوى الشر .

ولن تنسى كلمات محمود درويش عندما كانت المحادثات مع "فليب حبيب" المبعوث الأمريكي والخاصة بخروج المقاومة من لبنان قد قطعت شوطاً طويلاً ، بل بدأت القيادة فعلاً باتخاذ الترتيبات الميدانية والإجراءات الأمنية للخروج . 

وتخرج صحيفة "المعركة" لتؤكد استحالة الخروج والإصرار على المقاومة حتى آخر رصاصة وآخر مقاتل . ويبرر محمود درويش ذلك بقوله : (فقد كان المطلوب إخفاء فكرة الخروج لأنها تؤثر على معنويات المقاتلين) . إلا أن حقيقة الموقف تتطلب إخفاء هذه الفكرة فقد يكون للقيادة بعض المبررات ولكنها تعتبر واهية تنهار أمام نظرة خاطفة من عيني مقاتل (عندما اتخذ قرار الرحيل .. كان يعني الانسلاخ) . انها التسمية الحقيقية للخروج ، فالرحيل هو الانسلاخ ، ومن هذا الفيلسوف القادر على تنظير الانسلاخ ؟!
(ولكن سنعود .. سنعود .. ماذا أضع في ذلك الكيس ؟ ثيابي ؟ كتبي؟ رسائلي؟ صوري؟ لوحاتي؟ أي كتاب انتقي ليرحل معي ؟ أي صور اختار لترافقني في رحلة الرحيل؟ أي لوحات أعانق ؟)
حب تحت الحصار
تميز محمود درويش بدقته في تذكره التفصيلي لهذا اليوم الطويل . وكان صادقاً 
مع نفسه فما جرى منذ مطلع الفجر وحتى رحيل آخر سفينة مرصود بين دفتي هذا الكتاب الوثيقة ، استطاع الكاتب أن يشعرنا بطول اليوم فأصبحنا مثله نتمنى هذا اليوم من شهر آب، هذا الشهر الوقح المتواطئ (آب الشهـر الدنيء السافل ، العدواني ، الحاقد ، الخائن .. آب القادر على تزويد الرمز بما يحتاج من جثث .. آب شهر قذر ، ضجر ، قاحل ، قاتل ، مائل الى نهايات ، تطول مقدماتها ، نهايات لا تبدأ ولا تنتهي ، كأن آب طائفية الفصول التي لم تجد أتباعها بعد ، آب قادر على استفزاز البحر الذي يحمل الى الأفق زفير الرصاص) . 

ولأنه يوم طويل من شهر ثقيل فلا بد لنا أن نتذرع بالصبر حتى ينتهي هذا اليوم فمنذ مطلع الفجر (ومنذ أن صحت عصافير الجيران في السادسة صباحاً) . 

شرع الكاتب في صنع القهوة ، ثم بحث عن جريدة الصباح فلم يجدها ، وأن هذا النهار طويل ، فقد شمل جميع جوانب النشاط الإنساني ، ومنها الحب (.. قل لي .. لماذا تندلع شهوات الفتيات في أسوأ الحالات ..؟ أهذا وقت الحب : ليس وقت الحب ، انه وقت الشهوة الخاطفة ، يتعاون جسدان عابران على صد موت عابر بموت آخر هو موت العسل) . 

(إن هذه الواقعية اللاواقعية تقدم بطلاً مأزوماً يعيش دائماً مع ذاته وداخلها ومن خلال استغراقه في ذاته يكشف عن رؤيا الذات للواقع بوسائل تختلف بطبيعة الحال عن وسائل الواقع الخارجي) . 


إن الفلسطيني إنسان كسائر البشر من دم ولحم وأعصاب .. وتقتضي المنطقية والمصداقية أن تبرز هذه الجوانب مع سائر الجوانب التي يحفل بها الأدب الفلسطيني المقاوم ، الذي صور الإنسان الفلسطيني وكأنه من طينة أخرى للقتال فقط (قلت: أنا أعرف أين كنت قل الحقيقة ، أما كنت تفعل أمراً إدا مع زوجة الطيار؟ اندهش! كيف عرفت ..؟ قلت لأنني عائد من أمر مشابه) . 

إذاً فليس الكاتب وحده يمارس الحب تحت الحصار ، ونستطيع القول أنها ظاهرة في زمن الحرب ولتأكيد ذلك يرجع بنا الكاتب الى أحداث مشابهه يعرضها لنا بأسلوب شائق ومثير ، يحدد من خلاله طبيعة العلاقة بين العرب واليهود من وجهة نظره الخاصة . ويأتي ذلك عبر حوار مع يهودية في السرير . 

إن السابق جميعه يلخص العديد من الصفحات الطويلة والدقيقة الوصف لهذه الحالة الإنسانية التي تأخذ طابعاً مميزاً تحت القصف الجوي والبري والبحري ، أنه الجسد الذي يبحث عن سلامته في جسد آخر وليثبت للروح أنه ما زال حياً . ثم يعود الكاتب من ذكريات الذاكرة الى ذاكرة النسيان ، بعد أن يسمع (نقرتين هي ، المشدودة كنـداء أخير .. أفي كل يوم..؟ قلت ، في كل يوم إلى أن ينتهي الحصار أعو الى بيتي) . 

وبذلك يتضح تفرد الكاتب بتناول هذه القضية أثناء حصار بيروت وبكل هذه الصراحة وهذا الوضوح ، تنتهي هذه المقالات الدافئة بانتهاء الحصار وبإقرار اتفاق بين الرجل والمرأة حول وجهة نظرهما (الرجل لا يفهم المرأة والمرأة لاتفهم الرجل .. لا أحد يفهم أحداً ولا أحد يفهم أحداً) .
وهذه الخاصية لمحمود درويش دفعت بنا للتشبث به كنموذج كونه كان يرى قضايا الشعب الفلسطيني بعين الشاهد والناقد والمحلل في نثره كما في شعره . 
****

** ذاكرة للنسيان ، محمود درويش ، ط/1 الدار العربية ، بيروت 1987.



  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 234 مشاهدة
نشرت فى 25 مايو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

373,390