الدعاية للحرب منذ العالم القديم





الدعاية والإعلان والإعلام.. سبل من أساليب المخاطبة التي لا يراد منها سوى التأثير في الشخص الآخر ، ولا يهم في مثل هذه المخاطبة أن تكون سليمة التوجه وصادقة العطاء ، ونبيلة الأهداف ، المهم فيها أن تحدث تأثيراً مباشراً في المتلقي وأن يكون هذا التأثير لمصلحة مطلق الخطاب وليس لمن يستقبله . صحيح أن شبكة المعلومات الحديثة لم تعزل الدعائي عن الثقافي ولا المعرفي عن الإعلامي ولا المفيد الجاد عن الممتع والهازل .. لكنها تركت للمتلقي حق اختيار ما يناسبه وتستجيب له نفسه وأفكاره وتطلعاته في حين يريد الخطاب الدعائي أن يحقق استجابة متفردة ومباشرة تؤدي في نهاية الأمر إلى تحقيق منفعة ذاتية أكثر من تحقيق منفعة لمصلحة الجماعة . 
ويفصل كتاب : قصف العقول / الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي في هذا الشأن . وتبدأ دعاية المنفعة .. سليمة من خلال اتخاذ عنوان جديد للكتاب يختلف عن العنوان الأصلي .. " قصف العقول " عنوان جديد اعتمده المترجم اختياراً واجتهاداً بغية إثارة انتباه القارئ العربي واجتذابه لاقتناء الكتاب ، أما العنوان الأصلي فهو : Munitions of the Mind War Propaganda كما هو مثبت في مطلع الكتاب المترجم . من هنا تتبين أن المترجم مارس دور الدعائي ، وهو ما يندد به المؤلف متجاوزاً طبيعة التوجه التي ينطلق منها هدف هذا الكتاب ! 
نعم .. إن المؤلف يصف الدعاية في كونها أداة للإقناع السياسي ، الأيديولوجي النفسي وتعمل الدعاية في إطار ظروف تاريخية اجتماعية وسياسية وثقافية محدودة ، لا يمكن أن تكون هدفاً في حد ذاتها للهجوم ، وأن المشكلة اللااخلاقية أو الفكرية لا تثيرها (الأداة) ولكن لا بد أن تكون هناك توجهات منطقية فاعلة في كل خطاب .. سواء أكان دعائياً أو ثقافياً أو كليهما معاً ، إذ لا يصبح بمقدورنا فصل الدعائي عن الثقافي بوصفهما خطابين موجهين إلى سبل معينة يقصد بها إقناع الآخر .. على وفق هذه الفعالية التي تحققها الدعاية . يمكننا أن نعرف : لماذا ظل الجيش الألماني يقاتل حتى النفس الأخير رغم انهيار وتلاشي كل أمل في النصر ، بل حتى في هدنة تحفظ ماء الوجه ؟ هل كان الألمان يدافعون عن هتلر أم عن ألمانيا ؟ ولماذا حارب الروس بكل هذه الضراوة حتى النصر ، ولم يحارب الفرنسيون اطلاقاً ، في بداية الحرب ؟ ولماذا كان الايطاليون يلوذون بالفرار حتى وهم متفوقون ، بينما كان الانكليز يصمدون ويتماسكون حتى في حالة (تفوق الأعداء) الكاسح ؟ . إن الأمر له تماس بفاعلية الدعاية وتأثيرها الفاعل في الآخرين صدقاً أم كذباّ ، ذلك أن الدعاية لا تعتمد على (جمود) أخلاقي ولا سمو في الوصول إلى أهداف تسمو بالأفراد والجماعات .. أنها (ميكافيلية) الممارسة ، إذ تعتمد سبلاً شتى من أجل الوصول إلى ما تريده من أهداف أن : فيليب تايلور مؤلف هذا الكتاب يسعى إلى دراسة جوانب مختلفة للتفاعل الإنساني سلمياً أو حربياً ذلك أن كلا العملتين ما هي إلا محاولات للإقناع . 
نعم .. الحرب في جوهرها تبادل منظم للعنف والدعية في جوهرها عملية إقناع منظمة وبينما تهاجم الأولى الجسد فإن الثانية تنقض على العقل الأولى حسية والثانية نفسيه كما يقول المؤلف لكن ما هو حسي قد يتداخل مع ما هو نفسي .. الأمر الذي يجعل لعملية التأثير هيمنة كلية وثقلاً ليس من السهولة إبعاده عن الانشغال الذهني . 
يتساءل تايلور : أننا نعرف بالفعل أن التاريخ يكتبه المنتصرون على الأرجح وأن غنائم الحكم التاريخي يجمعها المنتصرون .. فهل يعني هذا أن التاريخ دعاية ؟ المنتصرون بالتأكيد لا يسمحون لحقيقة باختراق أمنهم وقوة بأسهم باسم الموضوعية في كتابة التاريخ .إن الدعاية تعلم الناس ما يفكرون فيه في حين تعلم التربية الناس كيف يفكرون ولا تستنكف الديكتاتوريات الحديثة من كلمة دعاية مثلما تستنكف منها النظم الديمقراطية وربما يرجع هذا إلى أن الديمقراطية تقدس الوهم القائل انه ينبغي السماح للرأي بأن يتطور على نحو طبيعي لكن هذه الديمقراطيات تقع في الوهم أو اختلاق الوهم والعمل على نشره وإقناع الآخرين به .. الأمر الذي لا يجعل الديمقراطيات تعمل بمعزل عن الديكتاتوريات والاختلاف الوحيد بينهما هو أن الديمقراطيات تعمل وفق أوهام في حين تعمل الديكتاتوريات على وفق مباشر يفرض الأمور فرضاً وبالقوة من دون انتظار نتائج الهم الذي تمارسه الديمقراطيات . 
ويكشف المؤلف عن حقيقة مفادها أن عبادة الحرب أقدم عمراً من عبادة السلام بكثير ولذلك فإن الدعاية الموجهة لدفع الناس إلى القتال في الحرب عملية أقدم عمراً بكثير من الشكل غير المتطور بعض الشيء للدعاية الموجهة لحمل الناس على القتال من أجل السلام . والحرب عادة هي من صنع الأقوياء من حيث هم يهاجموه ويعطون المسوغات لهجومهم دعائياً، الأمر الذي يجعل مسوغات السلم ضعيفة بسبب صدورها من موقع ضعف لا غير .. وفي أسوأ الأحوال يمكن للدعاية أن تنوع ضغطها على المجتمع لتجعله في زمن الحرب يفضل الانضمام إلى المقاتلين بدلاً من البقاء في البيت . وعندما تتنوع مثل هذه الصورة لدى المجتمع، يصبح من الصعب الاحتفاظ بموقف مضاد للحرب..الأمر الذي يحول الرغبة الملحة للسلم إلى رغبة مذلة وسلبية ؟؟ وعندما يستعرض المؤلف (الدعاية للحرب في العالم القديم ) نجده ينتبه إلى سعى الإنسان للسيطرة على الطبيعة لكونها هي الدليل على استخدام القوة.. إلا أن الإنسان في الوقت نفسه استثمر تجدد الطبيعة استثماراً سليماً عن طريق الزراعة... واستخدم المياه .. وقد يكون مستخدما ً لأدوات قتاليه لكنها مهنيه كذلك .. ويشير: " أقدم ابقي من أدلة مكتوبة على الاتصال الاجتماعي تأتي من منطقة ما بين النهرين القديمة في الألف الثالثة و الألف الثانية قزم "إلى ألواح أعدت وكتب عليها بأدوات تخترق قسوة الطبيعة... الأمر الذي يجعل عملية مواجهتها مسألة منطقية .. ذلك انه ليس من المعقول الاستسلام لتلك القوة والتلويح لها بغصن الزيتون حتى تستجيب لنا وتؤدي لنا الخدمات التي نريد!
وإذا كان فيليب المقدوني (380- 336ق . م) قد " أسس أول هيئة محترفه للمخابرات فان هذا التأسيس قد حدد دور جهود رجل الدعاية لتحقيق الوحدة الإغريقية . وعلى وفق هذه المهمة يكون الدعائي حاملا مهمة خداعة ومعتمدا على سبل خفيه في الإيغال والانصراف كليا إلى تحقيق المنجز وجعله فاعلاً .. لقد عمد سيبى /العبقري العسكري قاهر هانيبال إلى الدعاية .. فقد " اجتهد للتأثير على عقول الرجال منذ البداية" كما روي عن الاسكندر " أن أمه حملت به بعد أن واقعها ثعبان " ومثل هذه الدعاية تسعى إلى اختراق مخيلة الناس واستقطابها .. بما هو نادر وخارق يدعو إلى الانبهار.. حتى يصل إلى إقناعهم بأنهم في حالة عجز أمام قوى اللامألوف أو الندرة الفذة هذه. وفي التأكيد الذي أورده أوغسطين (354-430) أن "الحرب هي ثمن السلم" مبررات لإشغال الحروب في الأزمنة كلها ! كما أن " الدين ، الحرب ، الفروسية كلمات ثلاث لا يمكن فهم عقول الناس في العصور الوسطى المتأخرة من دونها" وفي حرب المائة عام التي قامت بين الملوك الانكليز الفرنسيين ، كان لابد من اعتماد الدعاية لإدامة الحرب على مدى قرن كامل .
وهنالك من يجد قناعته في استسلام إلى رأي مكيافيللي : "الحرب تكون عادله حين تكون ضرورية " في حين لم يحدد أوجه الضرورة هذه وأين تكمن (عدالة) هذه الضرورة .. في حين وجد بعضهم قناعته فيما ذهب إليه ماكيلفيللى من دون مراجعة .. ومثلما لم تكن هنالك توجهات مضادة لما أكده جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازية أن " عبادة هتلر هي أعظم منجز" اتجهت الدعاية البريطانية إلى دعوة تقول : " شجاعتك أنت وابتهاجك أنت ، وعزيمتك أنت ، سوف تعبر بنا الأزمة " إن أساليب الدعاية التي يناقشها هذا الكتاب الذي يعود إلى جذرها الأول حتى لا تكون في ذاكرة القراءة لكونها وليدة الحاضر ، وإحدى إفرازاته السلبية آنا هي في حالة انتقال وتطور من عصر إلى عصر .. وانه ما من إنسان أو مجتمع أو دولة استبعدت الدعاية أبدا وان ادعت هذا فإنما هو الأخر جزء من أسلوب دعائي معد ومرسوم .
إلا أن فيليب تايلور لا يناقش على نحو فعال مديات هذا التأثير في واقع الشعوب والأمم ..إنما هو ستعرض ما جرى ، وليس أهم ما جرى ولا أو ما حدث .. ليكون مصدر تنبه ومراجعة .. ومن ثم يكون لـ" قصف العقول " صفة هذا التأثير وفاعليته.. وهو ما كنا نبحث عنه في كتاب يحمل مثل هذا العنوان المثير.
كذلك لا نجد في الكتاب ما يجعلنا نقف عند أثر الدعاية التي راحت تغرس من خلال استخدام أجهزة الاتصال والمعلومات الحديثة تأثيرها الحاد والمباشر الذي بتنا نتلمسه.. في حيث غيبه عنا كتاب ننتقد انه سيجيء بأكثر مما نعرف ونعيش ونواجه من متغيرات دعائية شتى كل يوم.
إن فيليب تايلور/ مؤلف هذا الكتاب أستاذ التاريخ الدولي الحديث في جامعة ليذر البريطانية منذ عام 1978، نائب مدير معهد الدراسات علوم الاتصالات في الجامعة نفسها .. لم يفلح تماما في التوفيق بين : (التاريخ و الاتصالات في كتاب يجادل ويعمق إحساسنا بالتاريخ ومديات التأثير الدعائي في رسمه .. كما أغرانا المترجم الأستاذ سامي خصبه وهو الإعلامي الذي غذي ذاكرتنا بعشرات الكتب المؤلفة والمترجمة .. لكنه في "قصف العقول " بالغ في الصفة وضيق في تناول الموضوع على نحو أكثر إيغالا في نقل حقائق الأحداث والأشخاص ومناقشتها.. مكانة بما يمكن للدعاية أن تحققه.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 249 مشاهدة
نشرت فى 22 مايو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

383,629